الجمعة ١٦ تموز (يوليو) ٢٠١٠
بقلم أحمد الخميسي

رحيل محمد عبد السلام العمري

توفي الروائي المصري محمد عبد السلام العمري مساء الأربعاء 14 يوليو2010 عن عمر يناهز السادسة والستين.

صدرت أولى مجموعاته القصصية بعنوان «إلحاح» عام 1987، وتبعتها مجموعات أخرى منها «بستان الأزبكية» و«النصب التذكاري»، كما نشر الراحل عدة روايات منها «النخيل الملكي» و«الجميلات» . ولكن روايته «اهبطوا مصر» كانت قد استوقفتني عند صدورها عام 1999، وكتبت عنها في حينه بعد أن لفتت نظري إليها بقوة لأنها قصة تفاصيل الواقع اليومي عندما تكون أشد قسوة وتخويفا من أية شطحات خيالية، وعندما تصبح الحياة كابوسا تتطاير في طبقات ظلمته رؤوس البشر، وخفق قلب المحبين، ولا يبقى سوى صور العبيد في بطن السفن وقد طوق الحديد أعناقهم، والصحاري الشاسعة . إنها مدينة «جارثيا» وهواسم لمدن عربية كثيرة، يزوم في صهدها أشخاص مثل خضر وأماني، وأحياء مغلقة يحرسها أغاوات لا يدخلها غير النساء، وجميلات يتنكرن في ملابس الرجال لكي يقدن السيارات ليلا، ورجال محكوم عليهم بأن ينهشوا كبد وقلب رجل ميت، ومهندس يسعى بكل الطرق لمواجهة الجحيم ثم محاولة الهروب من هذا الجحيم بكل ما يحفها من مخاطر.

وأكثر ما يؤلم في هذا الكابوس إدراك القارئ أنه واقع حقيقي، وليس كابوسا ليفيق منه المرء . وفي مدينة «جارثيا» يضع الروائي القدير محمد عبد السلام العمري في طريقك شخصية خضر المصري المهاجر الذي جالس السادة ليأكل معهم من طبق واحد، «فأشار له الشريف بإصبعه دون أن يتكلم، فانسحب منحنيا إلى طبق آخر»، وزوجته أماني التي تجمع المال بجمالها مؤيدة بشعار زوجها «المرأة الجميلة نصف المعركة». ويحول محمد العمري مدينة «جارثيا» المتخيلة إلى بوتقة لعذاب المغتربين من المصريين والسودانيين والهنود والأريتريين واليمنيين والباكستانيين، تجمعهم كلهم «رائحة المال» وآمال صغيرة في مسكن أوعلاج أوإعالة أسرة .

غرباء عن بعضهم البعض جمعهم اغترابهم عما حولهم، منهم عم حامد السوداني العجوز الذي يكرر لنفسه أسماء بناته لكي لا ينساهن، ومنهم من يحوك المؤامرات القذرة ضد الآخرين ليفوز بمواقعهم ويصعد على حطامهم . على الجانب الآخر ستلتقي في «جارثيا» بشخصية أبوالخير صاحب الملايين الذي يهبط من سيارته حافيا أحيانا محاطا بكل مظاهر الإجلال، وشخصية الشريف وأبنائه، نسائه، بناته وعبيده، جواريه وخصيانه «. ولا تشي رواية «اهبطوا مصرى بلوم السادة وحدهم، فالعبيد أيضا مسئولون عما آلت إليه أحوالهم . ويرسم العمري جانبا آخر من أحوال المصريين المغتربين التي وصفها فتحي إمبابي في مراعي القتل، وبهاء طاهر في رائعته حب في المنفي . يستكمل العمري على كمان خاص عزف ذلك النشيد الوحشي لجيش الاغتراب . ويعتمد العمري على السرد أساسا، ولا يأبه كثيرا بالصور قدر اهتمامه بتعاقب الأحداث في مجراها السردي سيلا من الذكريات والمشاهد التي تتساقط على الذاكرة في حيوية لا تنقطع، أو: «تشتتا في المشاعر والاحساسات يشكل طريقا مميزا في الكتابة» على حد قول الروائي الفنان علاء الديب. ويعتمد العمري خلال ذلك على قدرة في اختزان التفاصيل وطرحها من جديد . يقول العمري في روايته عن أحدى بطلاته إنها : «تحمل في جسدها قوة هادئة، عذبة، موزعة بانتظام» ولعل ذلك هوأدق وصف للانطباع العام الذي تخلفه رواية «اهبطوا مصر» بما تنبض به سطورها من قوة هادئة عذبة موزعة بانتظام وصادرة عن قلب دقيق يري العالم بوضوح ويرى بوضوح أيضا كيف ينبغي للعالم أن يكف عن القسوة والدناءة والقبح . 

يرحل الكاتب والمبدع، يموت نصفه فقط، وتظل روحه في نصف آخر باق هوأعماله الأدبية. رحم الله محمد عبد السلام العمري بقدر ما أعطى ووهب.
 


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى