الخميس ٣ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
الى الطبيب الدكتور موفق دياب اللبناني

رسالة الى الحكيم

بقلم: زاهد عزت هرش

سيدي الراحل الباقي..

ليس كثيرًا عليك أن يُطلق إسمكَ على إسم المدينة..

فأنتَ فخرٌ للمدن وللأجيال وللأوطان.

سيدي الراحل الباقي..

ليس كثيرًا عليكَ.. بل علينا، ان يُطلق اسمكَ على مدارسنا، كنائسنا، جوامعنا، وعلى واجهات مداخلنا.. فعطاؤك أعطى لهذه المدينة مذاق آخر، وطعم آخر، ومجدٌ عظيم.

سيدي الراحل الباقي..

أُعذرني.. لانني لن أحضر للمشاركة في تشيّعكَ الأخير. ولن أُعزي احدًا بكَ.. لانني بالكاد اجد هذه الكلمات، لأعزي بها نفسي. ربما من خلال مسيرَتِكَ وسيرَتِكَ، وأُسرَتِكَ التي تحمل اسمكَ الطيب الكبير.

سيدي الراحل الباقي..

هذه هي اكثر المرات التي أكرهُ نفسي بها، لأنني مقعد على كرسي.. فإن حضرتُ الى جنازَتكَ.. بادر الجميع الى مواساتي، والى تقديري لمشاركتي فيها، وكأنه شيء كبير أن اقوم بما هو أقل من الواجب!! ولو كان بمقدوري ان أحضرَ مثل كل الناس.. كان سيبدو الامر طبيعيًا، عندها كان لا بد ان احضر، كي اعترف امام مجدك العظيم، اني بكيت.

سيدي الراحل الباقي..

رَحيلكَ هذا يذكرني بأول رحيلٍ مُنيتُ به، يوم مات أبي.. فجاء حزني يتميمًا، لم يستطع ان يشاركني به أحد.

رحيلك هذا يذكرني بثاني رحيل افقدني توازني الانساني.. وهو رحيل أمي. فجاء حزني ثنائيًا.

ورحيلك هذا يداهمني بحزن ثلاثي، يعود لبداية أول رحيل.. لأعلن فيه اني فقدت أطيب وأنبل ما عرفت في عمري وسنين حياتي.

سيدي الراحل الباقي..

ما زلتُ اذكر جُدرانَ عيادَتِكَ في خبايا مخيلتي.. وباحة غرفة الانتظار. وكتابات بزخرفة حروفية على بساط مخملي أسود، اذكر ما بقيّ يحوم في أطياف ذاكرتي بعض كلمات تقول: "المعدة بيت الداء والحمية رأس الدواء".

أذكر هذا، منذ اربعين عام وأكثر. وأذكر نسوة بثياب قروية، أمهات وجدات.. كنّ يأتينّ من شفاعمرو وضواحيها على الاقدام، وأُخريات على الدواب، يؤممن باب عيادتكَ كباب مزار لأحد الأولياء الصالحين.

أذكر كيف كان البعض منهنّ يقضي ساعة وأكثر من الزمن، ليشرب الماء من كأس يأتي من عيادتكَ بيد المرضة، فيشعرون بزوال الآمهنّ، فيغادرنّ براحة بال وراحة ضمير.

أذكر خزانة الادوية على الحائط القبلي "الجنوبي" للعيادة، ويدكَ الطيبة التي كانت تحمل الدواء منها، لتقدمهُ لأمرأة عجوز فقيرة الحال، دون ان تأخذ منها ثمن العلاج او الدواء.

أذكر أيام الأربعاء، في دير راهبات الناصرة في شفاعمرو، والباب الشرقي الجنوبي ايضًا.. عبر ممرٍ من الدرج الفسيح، وفي أخرهِ نزولاً عيادة بيضاء.. بجدرانها، براهباتها، وبقلبك الطيب.. وتلك الصيدلية التي وهبت شهادة ترخيصها للعيادة، شرط ان تباع الادوية للناس بأسعار مخفضة.

أذكر كيف كُنتَ تَحمل في سيارتك الخاصة، إمرأة اصيبت بنزيف داخلي، أثر حمل او اسقاط، وتمضي بها الى مستشفى الدكتور حمزه في حيفا، "مستشفى رمبام" وتعود دون أجر او مقابل.

سيدي الراحل الباقي..

هل تعرف اجيال هذا الزمن، فضلك على المدينة ايام الزمن المُر.. وأيام اليُسر؟؟

هل يعرفون أنكَ كُنتَ عضوًا في منظمة الصليب الأحمر الدولية.؟ وأنكَ كُنتَ تَنقل أخبار المشردين والاجئين من ابناء شفاعمرو، ليطمئن الاهل عليهم؟

وكيف قامت اذرع الأمن الاسرائيلي بتفتيش بيتك في مطلع السبعينيات، تحت طائل العمل مع جهات معادية.. ففرضَت عليكَ الغاء عضويتك في المنظمة، ربما لأنك كنت تحرج وجهها الصهيوني، بما تحملهُ يديكَ ورئتيكَ من عطاءٍ انساني عظيم.!!

سيدي الراحل الباقي..

لو كان الأمر بيدي.. كنتُ أقمتُ اكبر حديقة في المدينة لتحمل اسمك الكريم.

لو كان الأمر بيدي.. كنت أطلقت اسمك على الشارع الممتد ما بين الناعمة وحي العين، ليكون أول اسم يستقبل العائدين والوافدين الى هذه المدينة.

لو كان الأمر بيدي.. كنتُ أطلقتُ اسمكَ على أكبر مُجمعٍ تربوي، ثقافي، فني.. ليستنشق عطر اسمكَ كل الاجيال الآتية على مر الزمن.

لو كان الأمر بيدي.. كنتُ جَعلتُ اسمكَ على الباب الشرقي الجنوبي لباب دير الراهبات، باب المدرسة الجديدة.. كي يتذكر العابرون منه عطائك الى الابد.

سيدي الراحل الباقي..

نحن حين نطلق اسمكَ هنا او هناك، فهذا لا يعني اننا نخلدكَ وحسب، بل اننا بذلك نضع إكليلاً من الغار والمجد، على هذه الاماكن بفضل اسمكَ وتاريخكَ الطيب الكبير.

سيدي الراحل الباقي..

رحيلكَ بقاءٌ الى الأبد

لا أعزي بكَ أحد

لا أواسي بكَ أحد

لأنك باقٍ..

بأسم أخي..

ومنه الى ولد الولد

لأنك باقٍ الى الابد.

بقلم: زاهد عزت هرش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى