رعب الخطاب في صراع الشيخ والمريد
"أيّ قول تقوله يفضح باطنك من حيث تشعر أو لا تشعر فاحذر أن تستبلهَ النّاس" محمود المسعدي. التّأمّل رقم 52 ص134. قسم التّأمّلات من كتاب "من أيّام عمران" سلسلة عيون المعاصرة. دار الجنوب للنّشر. 2002.
أنبئ عن صدور كتاب جديد للأديب التّونسيّ محمود المسعدي اتّخذ له من العناوين "من أيّام عمران" سمة بها يعرف. ونظرا لقيمة الرّجل في المشهد الثّقافيّ التّونسيّ إشرافا وعملا، ولمكانته مبدعا صاحب نهج في الكتابة فريد يصدر عن عقل مفرد ثابت الكيان دينه السّؤال على الجرح الحضاريّ ينصبّ يلامسه فيكون منه ما يشبه البلسم أو الأدواء، ابتهج كلّ مهتمّ بالرّجل وأدبه لهذا الوليد الّذي تاه دهرا وتعسّر مخاضه، وكان الارتقاب يمازجه التّوجّس وتعصف به الأسئلة... فما السّرّ في إطلاق اللّسان بعد عقله سنين عديدة؟ وما غاية الشّيخ –وقد تقدّمت به السّنّ أرذلها- من "النّبش" في أجداث قديم السّجلاّت، وتجميع آية من آيات إبداعه المتفرّقات المهملات ونشرها؟ أيعود ذلك إلى اكتشافه في آخر الدّهر أنّ رسالته في الأدب لم تكتمل من أمد مديد، أم إنّه فطن إلى جديد من الهمّ الحضاريّ طفر في غير زمنه فاستدعى تفكّره، أم إنّه من قديم شواغله الثّقافيّة همومه استصرخته من عزلته القسريّة إذ تبيّن انحراف المسير؟...
وأيّا ما كانت الغاية، ومهما كانت الأسباب الدّوافع، فإنّه يبرز إلى الفكر سؤال لا بدّ منه، على مداره تكون الكتابة: ما هيّ الإضافة الّتي قدّمها المصنّف الجديد لأدب المسعدي أوّلا، ومن ورائه للأدبين التّونسيّ والعربيّ؟...
ثمّ صدر الكتاب فكانت الفاجعة واللاّمبالاة فأهمل: إذ لم يرفق بعد خروجه على الخلق بأيّ نشاط نقديّ. فقد عفّت عنه كلّ الأقلام بما لا يجدر بحدث مرتقب لكاتب له مكانة عظمى في الحياة الثّقافيّة التّونسيّة. فما سرّ هذا الإهمال؟ أ عائد هو إلى عجز عن النّقد تعاني منه الانتلجنسيا الأكاديميّة التّونسيّة؟ أم عائد هو إلى التّجاهل نهجا اختارته بعض الأصوات النّقديّة الّتي غالبا ما تعدّ مارقة عن النّسق؟ أم إنّ الدّاء أعمق من ذلك بكثير؟...
ثمّ ماذا لو كان هذا الصّمت قاصدا بعد الضّجّة الإعلاميّة الإشهاريّة الكبرى الّتي سبقت صدور الكتاب؟ أفلا يمكن أن يكون النّقد الجادّ –لخاصيّة في هذا الأثر- قد ترفّع عنه، إذ رأى فيه وصمة عار جزاؤها النّكران استبشاعا لما اقترف في حقّ الأب المنشئ، سيما وخبر عمران مذكور سارت به بعض خطابات المسعدي منذ ما يزيد عن نصف القرن ولم يشأ الكاتب إخراجه على النّاس كما فعل بإخوته من قبل...
يبدو من التّعامل الأوّليّ أنّ هذا الكائن الأدبيّ إشكاليّ بقدر ما هو مأساويّ مثل إخوته. وحتّى لا يون الكلام من باب المزايدات أو التّقوّل والتّحامل وجبت معاشرة النّصّ والإنصات لمختلف الخطابات الّتي تشقّه لاستنطاق مكنوناته بحثا عن سرّ الأسرار فيه علّه يبين عن نفسه فينكشف ما وراءه من جليل الأدب أو خراب الكذب وكلاهما سدى في سدى.
1-عزف لا بدّ منه.
"من أيّام عمران" نواة من الأدب مسعديّ الخلق تصريف لغة ونظر، يذكّر بما سلف أن أخرج الكاتب لقرّاء العربيّة من عيون الإنشاء. ورد في مصنّف جامع صادر عن دار الجنوب للنّشر التّونسيّة يحمل نفس العنوان مضاف إليه عبارة "وتأمّلات أخرى". والملاحظ أنّ هذا النّصّ البؤرة شقّته في الكتاب من الخطابات ثلاثة: أوّلها كلم للمسعدي على هامش أدبه والحياة توزّع على أفرع ثلاثة هيّ إسداء الشّكر والتّمهيد ثمّ التّأمّلات. وثانيها أقوال المحقّق في سرده لأسطورة الكشف. وثالثها قراءة للأستاذ توفيق بكّار المتفاعلة مع المتن الملتزمة به.
ومن الملاحظ أنّه على قدر ما كان الخطاب الثّالث محايدا إذ هو حديث الذّات الذّوّاقة للفنّ المنتجة للجمال كلّما وقفت على أحد مناهله المطلقة تنثر من الشّعر آيات في كلّ أفق فترجّع من صداها على الشّعر شعرا، بقدر ما يبرز الصّراع بين الخطابين الأوّل والثّاني إلى درجة أن ينفي أحدهما الآخر. ولهذا السّبب سيقع التّركيز عليهما في سائر المقالة دون سواهما إلاّ ما كانت فيه ضرورة لا بدّ منها في محاولة رصد لآليات الصّراع بين الشّيخ والمريد. وللوقوف عند أبواب رعب الخطاب الجديد.
وقبل الغوص في إجلاء هذه الأوجه الغريبة المرعبة منه، يجدر وصف المكوّنين السّرديّ والتّلفّظيّ من "قصّة القصّة" –وإن كان وصفا موجزا- حتّى تتسنّى متابعة القول في قواعد اشتغال الدّلالة ومتاهاتها عند ممارسة التّأويل.
تنبني "قصّة القصّة" على برنامج سرديّ أوفى يتفرّع إلى مجموعة من البرامج السّرديّة الفرعيّة تمثّل حلقات يفضي بعضها إلى بعض فتحقّق المسير السّرديّ للقصّة. وعند دراسة المعطيات السّرديّة يتبيّن أنّ كلّ البرامج تقوم على مقولة الملكة الّتي تغطّي كلّ الكون السّرديّ للقصّة. وهو ما سيقع الحديث حوله بتأويل أبعاده وإبراز دلالاته لاحقا.
كما يعبر عالم خطاب "قصّة القصّة" مكوّن تلفّظيّ، يؤسّس مواقع المساهمين في الفعل الكلاميّ ويحدّد أحكامهم. والاهتمام بهذه المعطيات الواردة في النّصّ يمكن أن يجلي كيفيات إنتاج مستعمل اللّغة للدّلالة وطرق توظيفها توظيفا ذاتيّا يعضد ما تفرزه تشكيلات البرامج السّرديّة المشار إليها سابقا. والتّفاعل بينهما يعطي صورة عن المضمّن من المقول أو المسكوت عنه. وهو ما من شأنه أن يحدّد مواطن معابثة اللّغة صاحبها وخيانتها إيّاه. بل مواطن ثورتها عليه وكشف زيفه.
2-"قصّة القصّة" أو الفتح على المريد بتأسيس علم جديد.
ممّا يلفت النّظر حقّا أنّه على غير السّنّة السّائدة في الأدب، يولد الأثر الفنّيّ عندنا مرفوقا بتحقيق. وإن كان هذا العمل لا يستهجن إذا ما كان المؤلّف صاحب الأثر ميتا، وكانت الغاية تجميع آثاره الكاملة صيانة لها من التّلف والضّياع أو تيسيرا على الدّارسين لتراث المؤلّف بتقديم مدوّنته النّهائيّة، فإنّه على غير الصّورة يجري الأمر في كتاب "من أيّام عمران" فمؤلّفه حيّ يرزق أطال اللّه بقاءه. وعليه، فعلى أيّ وجه يحمل التّحقيق؟ وما الغاية منه؟ أهو من باب الاستئثار والسّبق؟ أم هو من باب وفاء المريد لشيخه يكون له جسرا عليه يعبر إن أعاقه عائق، أو لسانا عنه يبلّغ إن أخذته الحبسة أو الإرتاج؟ أو لعلّه من المعرفة الفتح المبين والإحداث تفطّن إليه المحقّق فأسّس علما جديدا قد يعرف في مستقبل الدّهر بـ "أركيولوجيا" الأحياء...!
ثمّ إنّ التّحقيق فيما يعرف يكون بالنّظر في المخطوطات المتفرّقات حين تجمع للمقارنة بين متونها بغاية استرداد ما سقط منها في البعض مع إصلاح ما سقط فيه النّسّاخ والكتبة من آفة اللّحن أو التّصحيف... وما عرف عن كتاب المسعدي ذلك. فلا هو بالكتاب الكامل الّذي صدر في غابر الزّمن ولا هو من الكتب الّتي استنسختها أياد قبل ظهور المطبعة. ولا الكاتب نفسه كذلك، فما عهد عن المؤلّف اللّحن والتّصحيف، بل هزّت بلاغته معاصريه ومن هم آتون، وأخرس بيانه كلّ مكابر مفتون. كما أنّ الصّورة الّتي صيغ عليها هذا الكلام لم تعهد من قبل. فأيّ محقّق يعلن عادة عن المنهج الّذي توخّاه في تحقيق الأثر ويعرّف بالمصادر المخطوطة فيفهرسها ويوثّقها وقد يعرّف بمكانة المؤلّف وعصره وإنتاجه إن كان من النّكرات الّتي غدرت بها العصور وخانتها الذّاكرة فلم يجر بها ذكر في المتون، ثمّ يتلو ذلك بمتن النّصّ المحقّق تحقيقا علميّا دون أن يكون شريكا في التّأليف.
لكن ما يلاحظ في الكتاب أنّ تقديمه –الموثّق لسيرة تحقيقه- ورد في شكل كتابة سرديّة لها مقوّمات فنّ القصّة القصيرة. لكنّها من أغرب فنون القصّ فيما يبدو. إذ إنّ إجراء تحليل مدرسيّ على خطابها بالنّظر في برامجها السّرديّة كيف تنتظم فيها، وعلى مقامات التّلفّظ منها كيف تشكّل عوالمها الدّلاليّة إنتاجا، يفضي إلى اكتشاف نمط من الخطاب قاتلة آلياته غير معهودة غاياته في ممارسة فنون التّحقيق والتّقديم. ولعلّ صاحبها قد تفطّن إلى ذلك فعنونها بـ" قصّة القصّة" ليصبح في النّهاية –وهو الكاتب القصصيّ والرّوائيّ أيضا- مبدعا لأثر فنّيّ لا يقلّ قيمة عن المخطوط الّذي بين يديه، بل يبدو أنّه أكثر طرافة وهو فعلا كذلك في أوجه.
الوجه الأوّل: الأناويّة المفرطة أو التّضخّم حدّ الانفجار في خطاب القصّة.
اختار الكاتب لقصّته أن تجري على لسان سارد يروي أحداثها رواية مباشرة ينقل فيها ما عاشه من مغامرات بحث وتقصّ. ويبدو أنّ هذا السّارد كان عصيّا على خالقه إذ انفلت منه فخطّ طريقه في فنون القول فانفلق خطابا فاجعا أخطبوطا ما انفكّ يتقوّى على النّصّ يحجبه لتظهر صورة الـ"أنا" والـ "أنا" فقط إلاّ في بعض المواطن الّتي تتراجع فيها الذّات السّاردة عن ذلك الصّلف لغايات في نفسها تبدو.
فمنذ بدء نصّ القصّة تعلن الذّات عن نفسها باستعمال ضمير المتكلّم الجمع "نحن" فالمتلفّظ هنا يعمد إلى تقنيّة في الخطاب إدماجيّة في ظاهر تحديدها لعالم الضّمائر منه؛ إقصائيّة هي باعتبار أناويّة المتلفّظ هي صانعة القول وموجّهته والنّاطقة به. وهي علامة من علامات تورّم ذاتيّة السّارد، سواء كان ذلك عن قصد أو عن غير قصد. إذ إنّ اللّغة في أصلها تحكم إنشاء العالم أو العوالم الممكنة. وتتبّع المقول يثبت أنّه لم تخل جملة من الجمل في هذا الخطاب من إشارة إلى هذا الاستعلاء والتّضخّم المنصبّ في الذّات المتكلّمة.
وهذا الإطناب المتعمّد الممتدّ على كامل القصّة في تضخيم الذّات يجعل منها محور القول وبؤرته حتّى وإن كان ظاهر الحديث منصبّا على الآخر سواء كان الأثر المحقّق عينه أو مؤلّفه. وبيّن أنّ هذه الأناويّة السّافرة تطرب أيّما طرب للتّذكير بمتعلّقتها سواء منها ما أفصح عن مكنونها من قبيل التّعبير عن الانفعالات، ) فما أكثر ما تردّدت عبارات من قبيل: "غمرنا الإحساس..."، "فاستبشرنا..."، "ورغم أنّ ما يشبه اليأس استبدّ بوجداننا لم نشأ أن نجهز على الحلم وأن نغتال الأمل في اكتمال الكتاب"، "فابتهجنا...".(. أو ما برهن على نشاطها من قبيل الأفعال المبيّنة للأعمال: ) إذ أفاض الرّاوي في ترديد أفعال من جنس: "قرأنا..."، "قلنا..."، "نجهز..."، "نغتال..."، "سألناه..."، "فتحناها..."، "وجدنا...".(
والملاحظ أنّ هذه الـ"نحن" قد تقرأ قراءات مختلفة. فهي عبارة ذكيّة تتخفّى معانيها بقدر ما تظهر خطّا. فلقائل أن يقول إنّه لا تثريب في استعمالها فقد لا يراد من خلالها تبئير الذّات الفرد وجعلها محور الكون إذ يمكن أن تكون مجرّد تعبير عن ضمير المجموعة سيما وقد استعملت في المتن بعض المرّات للدّلالة على المحقّق والسّيّدة الّتي "تواطأت" معه على البحث في أرشيف المسعدي، وذلك نهج في لغة العرب يسمح باستعمال ضمير الجمع للدّلالة على المثنّى. ثمّ يمكن تأويل سائر عبارة الـ"نحن" غير الواردة في هذا المقام على أنّها تعبير على لسان جيل من القرّاء أو الأكاديميين أو المهمّشين الجهلة ممّن لا لسان لهم يفصح ولا عقل لهم يفكّر ولا منهج لهم في الفهم يعتدّ به...، فوّض السّارد نفسه العالمة ببواطن الخلق للإبانة عن تفاعلهم فيكون بذلك مجرّد ترجمان بسيط متواضع ينقل حقيقة ويبين عن أمر حاصل. والقول في ذلك أنّ التّسليم بالقول في دلالة الجمع على المثنّى واجب يقرّ فيما تواتر عن المتون القديمة عن أرباب اللّغة، أمّا الأمر الثّاني ففيه نظر، إذ ليس من الهيّن أن ينصّب المرء نفسه لسانا يترجم ما تذهب إليه المجموعة إن اتّفقت سيما في مجال أصله الاختلاف كالقول في الأدب، إلاّ إذا كان مفوّضا تفويضا قانونيّا كأن ينتخب في لجنة قراءة مثلا لتلاوة بيان حرّرته المجموعة بعد درس وتمحيص، وما حصل العلم بأنّ تفويضا من هذا القبيل يمتلكه السّارد. إلاّ أن يكون الأمر مصادرة فكر قاهرة مستبدّة تخضع الذّات الجمع لإرادة ومشيئة الذّات الفرد. ومع افتراض أنّ كلّ ذلك حاصل، فلغة النّصّ الخوّانة تثبت العكس مرّة أخرى، فسكرة الطّرب وأقاصي الانتشاء بالكشف العظيم تحمل الذّات في غفلة منها عند التّمفصلات الهامّة من الخطاب إلى الإفصاح عن نفسها السّافرة، إذ تنصهر الـ "نحن" في الـ" أنا" فتتوحّد بها بل تذوب فيها فتختزل في ذات فرد مفردة لا نظير لها وهي عمليّة إقصائيّة يمارسها المتلفّظ فيخرج عن طريقها ما قد أوحى به من قبل في استعمال ضمير الـ"نحن".
ومثال ذلك كثير، ففي الصّفحة العاشرة من الكتاب مثلا، وبعد الحديث بصيغة الجمع ينكسر الخطاب فجأة ليفسح المجال للمتكلّم المفرد، يقول: "فرأيت أن أتولّى بنفسي مهمّة التّنقيب عنها..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ) ثمّ تكون العودة إلى المتكلّم الجمع.
وسرعان ما تستحوذ الذّات الواحدة المتوحّدة على الخطاب في انكسار ثان له تقول فيه: "فتذكّرت أنّ الأستاذ محمود المسعدي كان يقطن..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ).
وليس يخفى ما لتلك النّقل من قيمة إذ على مدارها انبنى مسير البحث وتحوّلاته حتّى يخرج على السّاحة الثّقافيّة التّونسيّة بلُقْيَةٍ فريدة هيّ نصّ شتات أنف كاتبه من تجميعه ونشره فأهمله دهرا إلى أن شاخ وهرم ثمّ تبعث اليوم نتف من بيانه كتابا وليدا له من القول آيات. وما الفضل في دورة التّناسخ هذه إلاّ لذلك السّارد المريد الّذي حقّ له التّغنّي بإنجازاته في رحلة البحث وشرّع لع العجب بأناه فصرّفها عبر نصّ التّقديم –الموثّق لسيرة التّحقيق- أبدع التّصاريف. ولا غرو في هذا الزّهو ما دامت الأنا تنجح حيثما تخفق النّحن الهالكة. فأيّ من الخلق واتته النّباهة وفتّحت له أسرار الغيوب حتّى يتفطّن بعد إعمال رويّة وبحث مميت إلى أنّ المخطوطات قد تكون مخفيّة أو مهملة في كهوف مهجورة! وأيّ من المريدين لا يأخذه الرّوع فيتذكّر البيت القديم إلاّ إذا كان شديدا صاحب مقامات.
الوجه الثّاني: قصّة البحث أو المريد يستعرض النّباهة.
لقد تبيّن أنّ نصّ القصّة قد أسّس على مبدإ الأناويّة المفرطة نهجا عنه السّارد لا يحيد باعتباره أقوم السّبل للاستئثار بالفضل المزعوم. على أنّ ذلك لا يبدو أنّه يحقّق كلّ طموحات هذه الذّات المتفجّرة. وعليه كان لزاما على السّارد أن يعضد تصاريف اللّغة بالأعمال فيسرد مآثره مركّزا على خصائص فيه تثبت نباهته ومن ورائها أحقّيته بتراث الشّيخ سيما وهو المريد الأوحد الّذي تطربه نعوت من قبيل: "المختصّ في أدب المسعدي.". وتثبيتا لذلك عمل السّارد على إضفاء صورة على هذه الأنا المتحدّثة تجعل منها المريد الأمثل لصاحب الطّريقة بل أفضل حوارييه وأقربهم إليه. ولهذه الصّورة تجلّيات عديدة منها:
التّجلّي الأوّل: المريد العاشق لأدب صاحب الطّريق.
يبدي السّارد شغفه بأدب محمود المسعدي في أكثر من موضع من متن "قصّة القصّة" مستعملا عبارات تحيل على الانفعالات المعبّرة عن حالتي العشق والوجد كما يجدر بكلّ مريد نذر حياته لعقيدته فارتقى بذلك أرقى المقامات العرفانيّة. فالمتكلّم عند افتتاحه لأسطورة البحث يكشف عن هذه الخاصيّة فيه فيبيّن أنّ طريقه إلى اليقين يسلك عبر طريق الحدس لكأنّه النّور الغزاليّ قذفه اللّه في صدره، يقول: "لمّا قرأنا نصّي يوم القطيعة ويوم القحط غمرنا إحساس يشبه اليقين أنّ وراءهما نصوصا أخرى للأستاذ محمود المسعدي مكوّنة لنصّ قصصيّ أو روائيّ أكبر سمّاه من أيّام عمران وبقينا ننتظر صدورها. وفعلا التحق باليومين السّابقين نصّ ثالث بعنوان حديث الضّحيّة. فاستبشرنا وقلنا إنّ البقيّة قادمة حتما... وجاءت البقيّة بالفعل في خاتمة تأصيلا لكيان بعنوان حديث الصّمت.". (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص1 ).
فمن البيّن أنّ صفاء الإيمان وحدّة الحدس المكتسبين بالتّريّض قد أكسبا المريد قدرة على كشف الغيب تجعل أمانيه حقائق تتحقّق في مستقبل الدّهر. ومن أدلّة ذلك قوله: "ورغم أنّ ما يشبه اليأس استبدّ بوجداننا لم نشأ أن نجهز على الحلم وأن نغتال الأمل في اكتمال الكتاب".(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ). وأنتجت هذه الإرادة المتفائلة فعلا. إذ حملت المؤلّف على "النّبش" في دفاتره يخرج منها ثلاثة نصوص أخر ويقول: "نفد الزّاد".(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ) لكن هذه الذّات النّهمة التّوّاقة الذّائبة ولها على الرّغم من ابتهاجها بما حصل إلاّ أنّها يعاودها عدم القنوع والرّغبة في الكشف لا يحدّان. ودليل ذلك قوله: "فابتهجنا بها لا محالة، لكنّ الإحساس بوجود أيّام أخرى من أيّام عمران ودانية لم يشأ أن يزول..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ) وهذه الوضعيّة تحيل إلى تبنّي التّجلّي الثّاني لصورة السّارد المريد.
التّجلّي الثّاني: المريد السّالك المنقذ من الخسران.
ممّا يميّز هذا السّارد أنّه يقحم فردانيته بذكاء مفرط إذ لا يستخدم مواهبه إلاّ بعد وضعيّات الفشل في البرامج السّرديّة الصّغرى الّتي منها تتكوّن "قصّة القصّة" حيث تفقد الـ" نحن" أو الآخر –ولو كان من بين هؤلاء الأغيار مؤلّف النّصّ نفسه- كلّ إيمان أو أمل بوجود نصوص أخرى من مفقودات أدب المسعدي، وحين يصل "النّبش" في مقبرة الماضي إلى طريق مسدودة.
فها هو أوّلا يزايد على المؤلّف نفسه في الكشف وهتك حجب الغيب إذ بعد أن يصفه فيقول: "وبما أنّ مبدع النّصّ حيّ يرزق، يعيش بيننا ويحاورنا ويتمتّع بذاكرة لا يزال ينتقش فيها تراثه المخطوط والمطبوع، سألناه عن عمران ودانية. وكأنّ السّؤال لقي في نفسه هوى عتيقا، فنبش في أوراقه ودفاتره ووجد فيها ثلاثة نصوص أخرى. وقال: "نفد الزّاد"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 )، يتراجع عن ذلك الوصف فيرى أنّ ذاكرة المؤلّف الحادّة لم تسعفه في كشف ما خطّت يداه، إذ سرعان ما رفع يديه وقال: لا من مزيد على تلك النّصوص الثّلاثة. وإذا بالسّارد الفطن بإيمانه الحادّ ينقذ الموقف فيقول: "فرأيت أن أتولّى بنفسي مهمّة التّنقيب عنها"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ). وفعلا تتحقّق فراسته بإعانة إحدى قريبات المسعدي ويتمّ اكتشاف نصّ ثامن. ثمّ سدّت المنافذ وعاد اليأس "لكنّنا بحثنا طويلا في المسكن الكائن بقرطاج إلى أن بلغنا طمأنينة اليأس أو كدنا..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ).
وها هو ثانيا يكون المنقذ مرّة أخرى إذ بعد فشل هذا الثّنائيّ في اكتشاف آخر يرضي نفس السّارد وشوقه، تبرز نباهة المريد مجدّدا فيسعفه ذهنه الثّاقب بكشف عمت عنه كلّ عين إذ تذكّر صاحب الجدوى أنّ المسكن القديم قد يحمل من الأسرار الكثير. "فتذكّرت أنّ الأستاذ محمود المسعدي كان يقطن قبل تحوّله إلى قرطاج منزلا في شارع صلاح الدّين الأيّوبيّ بباردو. فسألت السّيّدة الفاضلة الّتي تواطأت معي على الكشف ةالاكتشاف أن نزوره يوما لعلّه يبطن من الأسرار والنّسيان نصيبا..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص11/10). فلولا هذا الذّكاء الخارق الّذي سمح باكتشاف المخبإ، لما هيّئ للقرّاء التّمتّع بباقي إبداعات المسعدي المنتظرة الّتي قد تكون آيلة إلى الفناء بفعل الغبار والرّطوبة.
التّجلّي الثّالث: المريد المجاهد الملتزم بتعاليم شيخ الطّريق.
ومن أبدع ما اقترضته الذّات السّاردة من صور، صورة التّلميذ الذّكيّ الّذي استوعب درس شيخه وبُرِّزَ فيه. فها هو يعلن في فخر وكبر عظيمين: "إلاّ أنّ غيلان قد علّمنا أنّ الإرادة لا تقهر مهما تألّبت عليها قوى الطّبيعة والزّمان والآلهة والبشر. فأيقنّا أنّ الغبار إلى زوال وأنّ الرّطوبة إلى جفاف وأنّ العزم وحده باق والفعل. فزال ما لا بدّ من زواله وبقي ما بطبعه يبقى." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص11 ).
وبيّن ما في ذلك من عجب ما فوقه من مزيد. إلاّ أنّ السّارد قد غاب عنه أنّ غيلان السّدّ قد علّم فيمن علّم اثنين ميمونة وبغلا ذكيّا.
الوجه الثّالث: المريد الشّهيد أو "الأنا" في مرآة نفسها.
لا تقف الأنانيّة المطلقة المطلّة على هوى الخسران في خطابها المرعب هذا عند حدّ التّضخّم والامتداد الأسطوريّ فحسب، بل ما تنفكّ تنوّع في استراتيجيات خطابها، وبما أنّها تحيا في بيئة فكريّة لا تكتمل النّبوّة فيها إلاّ بقتل النّبيّ، فإنّها توطّئ لذلك بمسلك أصيل له في التّراث أصداء. وعليه أجري الخطاب على الإلماح إلى صورة تحملها "الأنا" المتكلّمة عن نفسها وهي مثبتة في نسيج اللّغة المنتهجة في صياغة القصّة وسيلة إبلاغ. إذ التّتبّع للمقول في النّصّ يحمل القارئ على الرّأفة بهذه الذّات السّاردة المتعبة. ومن جوانب استدرار الخطاب المضمّن لعاطفة الآخر أن يتجسّد المتكلّم في مشاهد لها في الذّاكرة رواسب فيبدو كائنا مستنسخا عن رموز تاريخيّة تجعل منه شهيدا من شهداء الكلمة والعقيدة...
إذ غالبا ما يركّز المريد على جوانب المعاناة في سيرة البحث المضني وما يرافقها من صبر ومصابرة. ويتمّ ذلك عن طريق الوصف الدّقيق لمراحل الخيبات في عمليّة "النّبش" و"التّنقيب" وما أكثر ورودها عبر هذا النّصّ الرّاشح استجداء.
فأمّا الأولى: فإنّها تبرز في عبارات كثيرا ما تتردّد على لسان السّارد إذ يوثّق يوميّات البحث فيورد نعوتا تشير إلى عوائقه وما يرافقها من انتكاسات عاطفيّة تحمل على العطف، بل أحيانا على البكاء بابا من ورائه إرادة كسب الثّناء على هذه التّضحيات الجسام. إذ يقول مثلا بعد أن اتّخذ قرار البحث عن الكتاب المفقود: "فأفضى البحث المضني في أحد الدّفاتر المخزونة في بعض الخزائن المنسيّة نصّا ثامنا هو يوم الوهاد. فقلنا: "أوّل الغيث قطر". لكنّنا بحثنا طويلا في المسكن الكائن بقرطاج إلى أن بلغنا طمأنينة اليأس..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ).
ثمّ تكون المرحلة الثّانية من سيرة المعاناة عند الانتقال من قرطاج إلى باردو. فإذا كان البحث في خزانة قرطاج المنسيّة مضنيا فهو ضرورة أشدّ ضنى في منزل باردو، وذلك بفعل اتّساع المكان أوّلا وأثر الزّمان ثانيا. وهو أمر قد يثبط العزائم لولا إرادة المريد التّضحيّة والشّهادة في سبيل الكشف: "لكن كيف الوصول إلى الأوراق والدّفاتر المهجورة والبيت نفسه ظلّ مهجورا عشر سنوات كاملات تراكم فيها ما لا بدّ منه من غبار الأيّام ورطوبة اللّيالي!.. فأيقنّا أنّ الغبار إلى زوال وأنّ الرّطوبة إلى جفاف، وأنّ العزم وحده باق والفعل. فزال ما لا بدّ من زواله وبقي ما بطبعه يبقى." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص11 ).
إذن في هذه المرحلة تبلغ المعاناة ذروتها. وبذلك يهيّأ للإرادة الفولاذيّة أن تتنزّل من علياء جهادها الصّوفيّ بكلّ جلالها إذ توفّرت شروط الامتحان. وليس بقادر على مواجهتها إلاّ مريد مثل غيلان أو أحد تلاميذ غيلان، كائن هو أسطوريّ يعود بالقارئ إلى عصر البدايات في الفكر الإنسانيّ فينشد ملاحم البطولات الأولى لكأنّه جلجامش أو أكثر بقليل، مارد هو يصارع قوى الكون من كبيعة وزمان وآلهة وبشر... ولا يقهر: "إلاّ أنّ غيلان قد علّمنا أنّ الإرادة لا تقهر مهما تألّبت عليها قوى الطّبيعة والزّمان والآلهة والبشر." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص11 ).
وأمّا الثّانية: فإنّها تظهر في عبارات يضمّنها الكاتب خطابه متوسّلا بها تصوير جهاده النَّفْسَ الغيلانيّة التّوّاقة بالصّبر والأناة استدرارا لاعتراف كلّ مطّلع على المصنّف بالفضل له في هذه المعاناة الرّوحيّة القاسية الّتي منّت عليه بإشهاده على فيض من إبداعات المسعدي الّذي هو في أشدّ الشّوق إليها. فهذه الذّات السّاردة بعد أن قرأت الإشارات الأولى المنبئة بأيّام عمرا: "لمّا قرأنا نصّي يوم القطيعة ويوم القحط..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص9) تشير إلى بداية رحلتها الطّويلة مع الصّبر: "وبقينا ننتظر صدورها..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص9 ). ثلاث سنوات كانت مدّة الانتظار تختتم بإشارة ثانية اطّلعت فيها الذّات السّاردة على نبذة أخرى من أيّام عمران وهي نصّ حديث الضّحيّة. وهو أمر مثّل نقلة أخرى في طريق الصّبر ودربة النّفس عليه: "فاستبشرنا وقلنا إنّ البقيّة قادمة حتما"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص9 ). ثمّ استمرّت المعاناة أربعا وعشرين سنة كاملة اطّلعت في آخرها الذّات على حديث الصّمت الّذي كانت فيه البشرى بقطع سبيل الصّبر: "فقلنا هذه نفاضة الجراب وليس بعد الصّمت كلام." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص9 ).
غير أنّ سنوات الدّربة إذ جعلت الصّبر عادة متأصّلة في السّارد جعلته يرى في الأفق الأمل: "رغم أنّ ما يشبه اليأس استبدّ بوجداننا لم نشأ أن نجهز على الحلم وأن نغتال الأمل في اكتمال الكتاب." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ). فصبر بعض العقود من السّنين مرّة أخرى. ثمّ انقطع بالمريد الرّجاء فسار إلى الفعل: "وبما أنّ مبدع النّصّ حيّ يرزق... سألناه عن عمران ودانية." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ). فكانت النّتيجة إشارة أخرى تظهر من الكتاب المفقود ثلاثة نصوص أخرى ويكون القطع: "قال: نفد الزّاد." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ).
هذه إذن بعض المشاهد –وغيرها في النّصّ كثير- تبرز صورة الـ"أنا" في مرآة نفسها حلاّجا يطلب الحبّ المطلق ويسعى لبلوغه مسعى السّالكين معذّبا الجسد والرّوح. وهو أمر يحمل فعلا على الزّهو ويخضع القارئ للاعتراف بجليل الفضل جزاء.
لكنّ السّارد مرّة أخرى لا يقنع بما توفّرت فيه من سمات أدناها العشق والوجد الخالص، وأقصاها استيعاب الدّرس والجهاد به سلاحا حدّ الاستشهاد في سبيل الشّيخ القطب والعقيدة. ولذلك كان لزاما عليه تكوين صورة لشيخه يمرّرها إلى قارئه المفترض بما يخدم أغراضه الّتي تكشفها لغته في سيرة القصّة.
صورة الشّيخ القطب في نظر المريد.
الغريب في نصّ القصّة أنّه يقدّم لمؤلّف الكتاب صورتين مختلفتين حدّ التّناقض. والأغرب من ذلك طرق توظيفهما في خطاب السّارد.
تقدّم الصّورة الأولى المؤلّف صاحب ذاكرة حادّة صلبة لم يقدر عليها الزّمن ولم تؤثّر فيها الشّيخوخة. وهذه مقتطفات من النّصّ تبيّن ذلك:
"وبما أنّ مبدع النّصّ حيّ يرزق، يعيش بيننا ويحاورنا ويتمتّع بذاكرة لا يزال ينتقش فيها تراثه المخطوط والمطبوع، سألناه عن عمران ودانية." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ).
"ومن حسن الحظّ أنّ صاحبها لا يزال يحتفظ بوعي كامل وقدرة على التّذكّر عجيبة وقد تجاوز التّسعين من عمره. فكلّما أشكلت علينا قراءة كلمة أو جملة أسعفنا برسمها الصّحيح المخزون في ذاكرته ووجدانه." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص13 ).
"ولشدّة ولع الكاتب بها (يقصد التّأمّلات القديمة) أصلح بنفسه ما ضعف منها... مرّة أولى... ثمّ ثانية... ثمّ ثالثة... وفي كلّ مرّة يحذف خاطرة أو أكثر ويضيف كلمة أو يغيّر تركيبا. ثمّ يعود بعد الفينة والأخرى فيحذف من جديد ويضيف من جديد..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص23 ).
يبدو من خلال ما تقدّم من شواهد نصّيّة أنّ السّارد يعمل من خلال حديثه ذاك على حمل المخاطب على تكوين صورة عن صاحب النّصّ مؤلّفه تحدّه برجاحة العقل وتماسكه وهو ما من شأنه أن يبعد الظّنّ –لدى كلّ نفس مشكاكة تضمر السّوء- بتهالكه الفكريّ أو عجزه وغيبوبة الوعي منه الّذي قد يذهب إليه القارئ العالم بما بلغه المؤلّف من عمر وما يحمله ذلك من آثار. وفي هذا الإطناب المتعمّد نتوء من النّصّ يحمل على الشّكّ أكثر من التّصديق. إذ يتبادر إلى الذّهن التّساؤل التّالي: لِمَ يطنب السّارد في إسناد هذا الوصف للمؤلّف لو لم تكن من ورائه غاية؟ وإن كان ذلك كذلك فما الغاية من هكذا تكرار؟
ثمّ إنّ النّظر في المواضع الّتي استعملت فيها أوصاف المؤلّف هذه –كما يراها السّارد المخاطب- تعمّق الشّكّ وتحمل على الاستغراب حقّا. بل تدفع إلى تأويلها في مجرى آخر يحمل على السّارد المحقّق.
فالاهتمام الأوّل بوصف المؤلّف ذاكرته الحيّة ورد في إطار الإشارة إلى إرادة إحياء مخطوط "من أيّام عمران" بإطلاع النّاس عليه. إذ هذه الذّاكرة حيّرت فأحمي حماسها للبحث في الأرشيف عن النّصوص المهجورة. وممّا يستنتج ضمنيّا أنّ هذه الذّاكرة على حدّتها تطلّبت مثيرا هو سؤال السّارد، وما أدراك ما هو السّؤال! إذ فيه إيحاء ذكيّ بتراتب الضّمائر من النّصّ يشكّل عوالم إنتاج الدّلالة. ومن ثمّة أنتجت عملا أساسه الانفعال فهو قائم على الهوى لا على عقل عاقل: "وكأنّ السّؤال لقي في نفسه هوى عتيقا، فنبش في أوراقه ودفاتره..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ).
أمّا الاهتمام الثّاني فيرد حين بداية التّعامل مع المخطوط لتحقيقه. إذ يلجأ السّارد المحقّق إلى المؤلّف صاحب القدرة على التّذكّر والوعي الكامل كلّما بدا عجزه عن قراءة المخطوط. وفي ذلك حمل للقارئ على التّصديق بأنّ محمود المسعدي قد ساهم فعلا في عمليّة التّحقيق.
أمّا الاهتمام الثّالث فإنّه يرد لتعميق الفكرة السّابقة. إذ يجعل السّارد المحقّق من المؤلّف الأصليّ للتّأمّلات المحقّق الفعليّ لها. وبذلك يخرجه من إطار المشاركة السّلبيّة المحدودة بطلب الإيضاح رسما إلى إطار المضطلع بمسؤوليّة التّحقيق الكامل.
وعليه يبقى احتمال الشّكّ في هذا المصنّف مستبعدا ما دام صاحبه قد واكب فعلا كلّ مراحل تحقيقه. بل أسهم فيها أحيانا. بل اضطلع ببعضها مباشرة خاصّة فيما تعلّق منها بالتّأمّلات القديمة.
أمّا الصّورة الثّانية للمؤلّف كما يقدّمها السّارد المحقّق فتبدو على غاية من التّناقض مع الأولى. إذ ينقلب الخطاب فيها كلّيّا ليؤسّس في ذهن القارئ صورة عن المؤلّف مريعة تقتل منه الذّاكرة فتسلبه كلّ ما أسنده المخاطب إليه في أقواله الأولى. إذ بعد أن يعلي من حفاظ المؤلّف على ذاكرته يجري على لسانه القول التّالي: "... وقال: نفد الزّاد." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ) ليفنّده سريعا إذ تولّيه لمهمّة التّنقيب تكشف عن نصّ ثامن هو "يوم الوهاد"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص10 ). وبيّن ما في ذلك من إلماح إلى خيانة الذّاكرة المزعومة سابقا صاحبها. ثمّ يعمّق هذه المسألة أكثر. إذ نسيان نصّ واحد قد لا يعدّ من باب ضعف الذّاكرة. فيلمح أنّ المؤلّف ذاكرته أضعف ممّا يمكن أن يتبادر للذّهن. بل هي خراب لا ينتقش فيها تراثه المخطوط كما ادّعى من قبل. ودليل ذلك العثور على اثنين وعشرين يوما كاملة: "وكم كان انبهارنا شديدا لمّا ظهر فيها اسم دانية! وفي أخرى اسم عمران... وأيقنّا أنّنا وجدنا ضالّتنا... وتجمّع لدينا اثنان وعشرون يوما أخرى." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص12 ).
يتبيّن من خلال ما سبق أنّ المسعدي في نظر السّارد ذو وجهين اثنين متناقضين: فهو في سنّه هذه المتقدّمة تصحو ذاكرته وتغفو لكأنّه المرء في سكرات الموت يتردّى، تتراوح حياته السّريريّة بين الغيبوبة والانتباه. ولعلّ فيما يورده السّارد في قوله هذا عند الحديث عن مسألة التّحقيق وعجز المؤلّف عنه، إثباتا لذلك التّأويل: "إلاّ أنّ الكاتب تعذّر عليه التّصنيف والتّرتيب بسبب صعوبة في التّنفّس تنتابه من وقت إلى آخر." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص13 ).
وهذه الصّورة وإن كانت لا تستهجن إذا تعلّقت بالمسعدي الشّيخ البالغ من العمر تسعين سنة، فإنّها على غير ذلك الوجه عندما تستخدم مطيّة لبلوغ غاية أخرى ضمنيّة يبين عنها نصّ "قصّة القصّة" غايتها المزايدة على المؤلّف الكهل وذاكرته. إذ لا يتردّد المحقّق –بعد أن وطّأ بما سبق- في الإشارة إلى عجز الذّاكرة عند المسعدي قديما أيضا. إذ يناقشه في سائر ما أخرجه من أعمال أدبيّة فيقيّم متونها مدّعيا أنّ الكاتب قد خلط في نسبة نصوصها اعتمادا على إشارات بنائيّة معيّنة. فيقول: "لكنّ الذّاكرة خوّانة أحيانا. وقد خانته فعلا خيانة نكراء في مناسبتين: الأولى لمّا أسند العنصر الثّاني من مكوّنات شخصيّة عمران المتمثّل في هجر المجتمع إلى أبي هريرة. والثّانية لمّا ألحق صورة موت عمران في المرحلة الخامسة بمولد النّسيان. وقد يكون الكاتب تفطّن إلى ذلك في وقت من الأوقات فترك الصّورة الأولى لمدين وتصوّر ثانية لموت عمران." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص15 ).
وخلاصة القول حول صورة الشّيخ في ذهن مريده أنّها تعمل على إظهاره في أتعس الحالات –سواء كان كهلا أو شيخا- عاجزا تمام العجز عن كلّ تفكير سويّ. وما من سبيل إلى ذاكرته إلاّ عبر الإثارة والتّحفيز، وما من سبيل إلى تنشيط فكره إلاّ إذا كان ذلك في خدمة السّارد المحقّق وسيرة التّحقيق.
وليس يخفى ما لذلك من صلة قربى بصورة المحقّق في مرآة نفسه الّتي وقع التّعرّض لها سابقا. إذ يبدو في ذلك التّواشج بين الصّورتين تشريع لكلّ الأعمال الّتي مورست على تراث الشّيخ. ويبدو المريد بذلك أفضل القوم وأحقّهم بإخراج هذا الكتاب المفقود نبشا وتحقيقا وتقديما ونشرا...
ومن أغرب علامات هذا الاستئثار أن يلخّص السّارد صورة المسعدي في حالات صحوته الذّهنيّة على النّحو التّالي: فما هو إلاّ صاحب عقل عقلانيّ إذا أقرّ كلام المحقّق وأثبت مل يريده من إضافات وحذف في عمليّة تحقيق النّصوص. أو هو لا يعدو أن يكون سوى صاحب هوى وأهواء إذا رفض تدخّله في ترتيب تعديلات على النّصوص المكتشفة: "فنناقشه الحذف والإضافة ويقرّ ما يقتنع به من آرائنا ويرفض ما لا يوافق هوى في نفسه، إلى أن رأينا جميعا أنّ الثّمرة نضجت وآن قطافها." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص24/23 ).
إنّ كلّ ما تقدّم من معطيات تتعلّق بهذه الذّات المتضخّمة المتشظّيّة عبر تمفصلات خطاب "قصّة القصّة" يحيل إلى تناول مسألة أخرى تتعلّق بتحقيق النّصّ المعثور به نفسه وهي على غاية من الأهمّيّة.
3 - متن الرّعب أو القول في فواجع التّحقيق.
بعد الاطمئنان على مشروعيّة الاستئثار بمهمّة التّحقيق الّتي سعت ذات السّارد إلى اكتسابها وكان لها ذلك من خلال نتف المخطوط الّتي نبشت عنها في رحلة طويلة مضنية، لم تخف رعبها من الصّعوبات الحافّة بها. ولها في ذلك حقّ كثير. إذ نتجت جملة من الفواجع جعلت المخطوط المحقّق متنا من متون الرّعب.
الفاجعة الأولى:
تتمثّل الفاجعة الأولى في أنّ كلّ الجهود والمعاناة الّتي بذلها السّارد في عمليّة البحث عن النّصوص الضّائعة كادت تذهب سدى. وبرزت صورة جديدة للمحقّق تحدّ ممّا رآه في ذاته المتضخّمة من قبل. وهو ما قد يشكّك في جدارته بانتداب نفسه لمهمّة التّحقيق. إذ إنّ المؤلّف الأصليّ لها عاجز عن نحت عمل أدبيّ كامل متجانس منها يرقى إلى مستوى كتبه السّابقة فنّا ونظاما: " إلاّ أنّ الكاتب تعذّر عليه التّصنيف والتّرتيب بسبب صعوبة في التّنفّس تنتابه من وقت إلى آخر. فأوكل إليّ الأمر، فتهيّبته إذ رأيتني شريكا في التّأليف وهالني الموقف، فشرعت أبحث عن حلّ يخلّصني من هذا الوزر." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص13 ).
فالتّحقيق إذن يصبح وزرا. وينتبه السّارد إلى أنّ "نبشه" كان منقوصا. وهو ما يدفعه إلى إعادة التّنقيب وإحياء الرّميم عسى فيه حلّ لهذه المعضلة منشودا. ومن الغريب أنّ السّارد لا يجد أيّ حرج في الإعلان عن عثوره المتأخّر بهذا الحلّ المتمثّل في تخطيط قديم أنجزه المسعدي نفسه: "إلى أن وجدت ورقتين صفراوين مكتوبتين بالعربيّة والفرنسيّة وفي أعلى الصّفحة الأولى عنوان آل عمران (وليس من أيّام عمران). فتصفّحت الورقتين فإذا فيهما تصوّر أوّليّ للقصّة في خمس مراحل، فقلت: فرجت وربّ الكعبة!" (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص14/13 ).
ومبعث الغرابة أن تفلت ورقتان اثنتان على غاية من الأهمّيّة من بين يدي باحث نابش منقّب قاسى الأمرّين وواجه معاناة شديدة أعثرته بكلّ دقائق الأرشيف حتّى ما كان منها متكوّنا من سطر واحد. وإن أراد القارئ التماس عذر لنقص قد يصيب المريد، فلعلّه يرجع ذلك إلى الحبكة القصصيّة الّتي يبدو أنّ المحقّق القاصّ مغرم بها أيّما غرام. أو لعلّها مقتبسة من ترسّبات تقنيات التّشويق.
الفاجعة الثّانية:
أمّا الفاجعة الثّانية وهي الأخطر فهي تشويهات تمسّ نصّ "من أيّام عمران" المحقّق نفسه. وهو الدّافع الأصليّ لتحرير هذه المقالة. فالملاحظ أنّ النّصّ المتكوّن من تسعة وعشرين يوما قد لحقته تغييرات لا تمتّ بصلة إلى أصول التّحقيق.
وأوّل المفاجآت يتمثّل في إضافة المحقّق للمتن عناوين من تأليفه وضعت بين معقّفين، تجاوزت في عددها العناوين الّتي وضعها صاحب الكتاب مبدعه. إذ أسند المحقّق ثمانية عشر عنوانا، في حين لم يعنون المؤلّف نفسه إلاّ أحد عشر نصّا فقط. وإذا كان السّارد قد درج على التّنبيه إلى رجوعه المتواصل للمسعدي كلّما أشكل عليه أمر في سيرة التّحقيق، فإنّه يعمد في هذا المقام إلى السّكوت عن ذلك. إذ إنّه في مسألة العناوين المضافة يكتفي فقط بالإشارة إلى أنّها من وضعه في هامش يتيم ورد في الصّفحة الثّالثة والخمسين، هذا نصّه: "العناوين المثبتة بين معقّفين، من وضع المحقّق والبقيّة من وضع الكاتب." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص53 ). دون أن يرفق ذلك برأي المسعدي فيها إن اطّلع عليها وموقفه منها إن عرضت عليه. وإن كان ذلك لا يجدي أصلا في شيء، غير ما يبديه من أمور مرعبة.
أفلا يعدّ ذلك من بين الفواجع إن استقرّت سنّة في التّعامل مع النّصوص تحقيقا، سيما وقد نبّه المحقّق من قبل إلى أمر يتعلّق بها عند حديثه في "قصّة القصّة" عن تكليفه بالاشتغال على المخطوط: "فأوكل الأمر إليّ. فتهيّبته إذ رأيتني شريكا في التّأليف وهالني الموقف، فشرعت أبحث عن حلّ يخلّصني من هذا الوزر." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص13 ).
فما سرّ العناوين المضافة إذن؟ أليست اشتراكا في التّأليف؟! أليست تعسّفا على النّصّ المحقّق نفسه! سيما والتّسمية كما يعرف ما هي إلاّ إحالة على التّكوين والخلق ذاته.
الفاجعة الثّالثة:
ثمّ من بين فواجع التّحقيق أن يتصرّف المحقّق في حذف بعض المتون دونما سبب واضح أو إشارة إلى ذلك. فها هو يسقط من كتاب "من أيّام عمران" –كما ارتأى أن يخرجه- نصّا ورد في الصّفحة السّادسة ومائتين من كتاب: "تأصيلا لكيان" في نسخته الصّادرة عن مؤسّسات عبد الكريم بن عبد اللّه ويحمل عنوان "يوم الكفّارة والرّحمة". وهذا نصّه:
"دعاهما داعي الرّحيل والتّيه نحو ما لا يدريان، فاجتاز أمامهما في بعض مراحل طريقهما مارّ من أبناء السّبيل، في يده عصاه وفي السّماء عينان. وإذ رأياه مكفوفا تائها في ليله قالت دانية وقد ذهب بالها شعاعا: يا عمران، أليس أنّ اللّه وحي ورؤيا لا يسمعه أصمّ ولا يراه أعمى. فما ذنب من خلقوا صمّا عميا؟ ألا علينا أن ندعو لهم ونعطف عليهم كفّارة ورحمة؟ قال عمران: وما أدراك أنّ في انغلاق الكون أيّ مفتح وأنّه ليس أصمّ عن دعائك وأعمى. إلاّ أنّ مفتاح الغيب لعند اللّه لا يعلمها إلاّ هو، إلاّ هو... وتطاولت الطّريق إلى ما لا غاية ولا نهاية... ولا كفّارة ولا رحمة." (محمود المسعدي: "تأصيلا لكيان" نشر وتوزيع مؤسّسات عبد الكريم بن عبد اللّه. تونس. بدون تاريخ. ص206 ).
فما مصير هذا النّصّ؟ وما الدّاعي إلى حذفه من متن النّصّ المحقّق؟ أيعود إلى أنّه لا علاقة له بالعالم النّصّيّ السّرديّ للمخطوط؟ أم هو نصّ موضوع لا يعتدّ به؟!...
الفاجعة الرّابعة:
ومن بين الفواجع أيضا، التّلاعب بعناوين نصوص "من أيّام عمرا" دون إشارة من المحقّق إلى سرّ ذلك ودوافعه. فالتّحقيق لم يهتمّ بنصّ "يوم الصّمت والغصّة" الوارد في الصّفحة الحادية والتّسعين من مصنّف الرّعب المذكور. إذ الملاحظ أنّ المحقّق وقد أثبت هذا العنوان، لم يكلّف نفسه أن يشير إلى الاختلافات الّتي ظهر عليها ممّا قد يجعل القارئ في حيرة وممّا يخلّ بأصول التّحقيق وهو الأهمّ. إذ الملاحظ أنّه يشير إليه في "قصّة القصّة" بعنوان مختلف يسمه بالحديث: "وجاءت البقيّة بالفعل في خاتمة كتاب تأصيلا لكيان بعنوان حديث الصّمت"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص9 ). ويوجد لذلك صدى ومصداق في كلام المؤلّف الأصليّ نفسه في حوار أجراه معه عين المحقّق بتاريخ 30 أكتوبر 1985 ضمّه أحد كتبه النّقديّة الموسوم بـ"مباحث في الأدب التّونسيّ المعاصر" الصّادر عن دار المعرفة للنّشر والطّباعة والتّوزيع. إذ يرد في الصّفحة السّادسة والسّبعين ومائة من هذا الكتاب كلام محمود المسعدي التّالي: " فقد جاء في حديث الصّمت ما يلي:..." (محمود طرشونة: "مباحث في الأدب التّونسيّ المعاصر: دراسات نقديّة في مؤلّفات المسعدي والمدني والفارسي وخريّف..." إرادة المعرفة للنّشر والطّباعة والتّوزيع. تونس. 1989 ص176 ).
ثمّ إنّ هذا النّصّ نفسه يحدث إشكالا آخر كان يجدر بالمحقّق الإشارة إليه على الأقلّ. إذ إنّه يرد في كتابي "من أيّام عمران" الصّادر عن دار الجنوب و"تأصيلا لكيان" الصّادر عن مؤسّسات عبد الكريم بن عبد اللّه على غير الصّورة الّتي ورد عليها في حوار المسعدي مع المحقّق المشار إليه آنفا. فهو في الكتابين أكمل منه في الحوار. وقد أثبت في المصنّف دون إشارة إلى ذلك. وأمّا الجزء المختلف فيه فهو التّالي:
"لكن أليس أعظم منه وأبقى صمت الكون عن الجواب! قالت: الصّمت عدم. والسّؤال وحده، بما هو حمل، كيان. قال: هذا لسان الأنثى الغرور، هبطت من الجنّة القرار الّتي لا تبد ولا تولد، لتحمل عشقا وتلد عتوّا كالشّيطان. قالت: لست أنسى قول الحبيب الأوّل لمريده لو لم تجدني لما طلبتني قطّ. إنّ السّؤال الحقّ هو الخالق بدءا وعودا لما يسأل عنه. لولا السّؤال والسّائل لبقي الكون قفرا والوجود عبثا وسخرا." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص92 ).
الفاجعة الخامسة:
أمّا عن فواجع تخطيط النّصّ بنيته فحدّث ولا حرج. إذ الملاحظ أنّ "من أيّام عمران" كما ظهر في طبعة دار الجنوب، وعلى الرّغم من انتداب جامعيّ -له باع في الإبداع الأدبيّ- نفسه لتحقيق المخطوط، وعلى الرّغم من التّخطيط البدئيّ العتيق المعثور عليه بشقّ النّفس والّذي سار المحقّق على هديه في تصنيف النّصوص وتبويبها. إلاّ أنّ "من أيّام عمران" لا يرقى مطلقا إلى مستوى كتب المسعدي من قبيل "حدّث أبو هريرة قال..." أو "السّدّ" أو "مولد النّسيان" وإن كانت لغته آية من البيان وصوره من الأدب روائع وقضايا الفكر فالتّفكّر منه مناهل فرات. وما من شكّ في أنّ إخراجه للنّاس على تلك الحال قد أساء للمسعدي أديبا وحطّ درجة من صورة صاحب "المدرسة الفريدة في الكتابة". ولعلّ هذا ما جعل المسعدي سابقا لا يقدم على نشر المخطوط كاملا ويكتفي بإظهار بعض النّتف منه فقط.
وبكلّ بساطة صدق المؤلّف ثاقب النّظر محمود المسعدي إذ قال فيه يوما: "عمران ودانية شخصان في المخاض لست أدري أسيكون منهما قصّة أو رواية أو لا يكون منهما شيء..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص45). وصدق أكثر إذ أصرّ على أن يكون هذا الكلام الأخير تمهيدا للمخطوط المحقّق وقد أصبح في نظر محقّقه قصّة منتجة، متناسلة إلى ما لا نهاية.
هذه إذن بعض فواجع الكتاب الّتي قد تكون سببا في إهمال النّقد إيّاه. والّتي قد تكون ناتجة على ما يبدو عن اهتمام المحقّق بقصّة قصّته أكثر من اهتمامه بلغتها القاتلة أوّلا وبالتّحقيق الغثّ نفسه في المقام الثّاني. أو لعلّها تكون ناتجة عن رؤية جديدة في قواعد التّحقيق العلميّ قد تحدث نقلة أو قطيعة ابستمولوجيّة جديدة في المعرفة البشريّة فيها إعجاز كثير يبشّر بها المحقّق الحريص على الأمانة العلميّة وهو القائل في معرض متن قصّته في الصّفحة السّادسة عشرة من الكتاب: "لهذا كلّه رأينا من باب الأمانة العلميّة أن نثبت تصوّر الأستاذ محمود المسعدي لقصّة من أيّام عمران حتّى يتسنّى للباحثين والنّقّاد المقارنة بين المخطّط الأوّليّ والمنجز." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص16 ).
وممّا يختم به الكلام في هذه المسألة حول هذا الكتاب اللّقية جانب من الغرابة –والرّجاء أن يكون ذلك من باب الصّدفة- وهو يتمثّل في أنّ المحقّق أعطى صورة عن نفسه قولا وعملا تماثل صورة أحد أبطال رواياته. فـ"عبد السّتّار" الشّخصيّة المحوريّة في رواية السّيّد محمود طرشونة المعنونة بـ"المعجزة" والصّادرة سنة ستّ وتسعين وتسع مائة وألف، يكاد يتماهى في سماته مع شخصيّة السّارد المحقّق في "قصّة القصّة" من كتاب "من أيّام عمران". فعبد السّتّار هذا تجتاحه رغبة هائلة تحقّق له الإرادة والمعرفة، ويكابد معاناة مرهقة قاسية ملقية به في أحضان الموت حبّا في الكشف وبحثا عن مخطوط نادر. ثمّ بمجرّد حصوله على المخطوط وعدم عثوره على مقاصده فيه يعمد إلى استنساخه والإضافة إليه. وبذلك يتمّ له اكتشاف علم جديد يحمل المعجزات فيحوّل بها العقم إلى حبل والموت إلى حياة.
هو أمر ملفت حقّا، يحمل على الاعتقاد بأنّ "قصّة القصّة" ما هي إلاّ تنويع على أوتار الإبداع السّرديّ. فما كان في التّسعينات من القرن البائد نصّا روائيّا، يتحوّل إلى نصّ قصصيّ في مطلع قرن الرّعب الجديد هذا، مع تغيير الأسماء وتبديل المنطلقات ومن ورائهما الغايات. وليس أدعى للعجب من أن يتحوّل التّحقيق بما هو ممارسة علميّة دقيقة إلى مجرّد أصداء لفنون الإنشاء. وليس أدعى للسّؤال من أن يصدر ذلك عن أكاديميّ أثبت جدارته من أمد في البحوث العلميّة.
4 مناورات خطاب الشّيخ: أو القول في الانتقاض على المريد.
تشير "قصّة القصّة" إلى أمر على غاية من الأهمّيّة وارد عند حديث السّارد عن التّأمّلات. إذ يذكر أنّ اكتشافها مرّ بنفس مراحل اكتشاف مخطوط "من أيّام عمران". لكن اللّغة تنتقض على صاحبها، إذ إنّه يذكر أنّ قرابة التّسعين تأمّلا احتفظ بها المسعدي. بل انتسخها وسلّمها إلى المطبعة مباشرة دون وجود إشارة إلى تسليمها للمحقّق: "فانتسخ ما يقارب التّسعين منها في كرّاس أسلمه إلى المطبعة." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص23 ). وهو أمر يفاجئ، ويستدعي جملة من التّساؤلات.
ولكأنّ السّارد –إذ لم يرقه ذلك وحزّ في نفسه- انتدب نفسه مرّة أخرى للبحث من جديد عن تأمّلات قديمة. وتمّ له ذلك فعلا فوجد منها ثلاثين: "لكنّ إصرارنا على كشف نصوص أخرى مكّننا من العثور على ثلاثين خاطرة أخرى بعضها في سطر واحد وبعضها الآخر يتجاوز الصّفحتين." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص23 ). إلاّ أنّ المؤلّف لمّا فطن إليها انتزعها منه وحقّقها بنفسه تحقيقا دقيقا يذكّر بما أثر عن المسعدي من شدّة وقسوة على الكلام ينجزه. ومعلوم أنّه اشتهر عنه تمحيص حتّى الحوارات الّتي تجرى معه قبل التّصريح بنشرها: "ولشدّة ولع الكاتب بها أصلح بنفسه ما ضعف منها... مرّة أولى... ثمّ ثانية... ثمّ ثالثة... وفي كلّ مرّة يحذف خاطرة أو أكثر، ويضيف كلمة أو يغيّر تركيبا. ثمّ يعود بين الفينة والأخرى فيحذف من جديد، ويضيف من جديد..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص23 ).
وفي ذلك انتقاض لإحدى الصّور الّتي يسندها المحقّق للمسعدي في تقديمه. إذ ادّعى في قصّة قصّته أنّ علّة ضيق النّفس أعاقت المؤلّف عن تحقيق كتابه فأوكل إليه المهمّة لما رآه فيه من حرص ومقدرة وأمانة علميّة: "إلاّ أنّ الكاتب تعذّر عليه التّصنيف والتّرتيب بسبب صعوبة في التّنفّس تنتابه من وقت إلى آخر. فأوكل إليّ الأمر..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص13 ).
لكنّ الغريب أنّ السّارد لم ينتبه إلى لغته الّتي صاغ بها خاتمة قصّته، هذه اللّغة الفاضحة المنتقمة. إذ إنّه يقدّم صورة عن المسعدي مخالفة تماما، تثبت أنّه قادر كلّ الاقتدار على التّحقيق. فكيف تعيقه العلّة إذن عن تبويب الشّذرات كما ادّعى ولا تعيقه عن الاشتغال على التّأمّلات القديمة حذفا وإضافة المرّات المتتاليات. ولكأنّ المسعدي أراد بالأفعال تفنيد ما وقع ادّعاؤه بالأقوال، وفي ذلك وجه من أوجه المعابثة يبين، يصرّفه الشّيخ في ثنايا خطابه عبر الكتاب. مناورات هي باللّغة يمكن تأوّلها وفي النّصّ لها مصداق.
المناورة الأولى: التّمهيد.
ما السّرّ في إصرار المسعدي على الحفاظ على تقديمه القديم لعمران ودانية حين سئل عنهما يوما، فيجعل من ذلك الكلام العتيق تمهيدا للكتاب يقول فيه: "عمران ودانية شخصان في المخاض لست أدري أسيكون منهما قصّة أو رواية أو لا يكون منهما شيء..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص45 ).
هذا صاحب الكتاب منشئه يحكم عليه بهذا وهو طالع على النّاس في هذا الشّكب المكتمل. فأيّ غرابة أن تنتج هذه الشّذرات قصّة، بل هي قصّة القصّة تنشأ صدى عن متنها، وعساها تتوالد في آتي الدّهر فتملأ الدّنيا! وهذا المأزق يقرأ على أوجه.
أحدها أنّ الكاتب أشرف فعلا على إنجاز هذا الكتاب وواكبه بإرادته حتّى يخرج للقرّاء شهادة على حياة أدبيّة وإكمال لها فاستكمال ووفاء إلى مذهب من الفكر قوامه التّسآل لا يحدّ.
وثانيها أن يكون المؤلّف قد حمل على إخراج ما عفا عنه الزّمن وفكّ أسر ما اقتدر عليه فتيّا فكهلا وعجز عن درئه شيخا، فعمد إلى المناورة بتسريب هذا التّمهيد الحامل لرفض قاطع لما مورس عليه. فإذا خرج الكتاب للنّاس عملا كاملا فإنّه لا يعدو في نظر مؤلّفه إلاّ أن يكون مسخا ناقصا لا يكون منه شيء.
وثالثها أن لا يكون للكاتب علم بهذا الكتاب أصلا. إذ لا يشكّ أنّه لو كان المسعدي أراد هذا فلماذا ترك خطاب التّمهيد على علاّته القديمة. بل ما يشكّ في أنّه له حاذف أو محوّر كما فعل بالتّأمّلات القديمة. ولجعل منه ساعتها وليد وضع عسر دهرا ثمّ استقام فخطّ طريقه فكان منه شيء.
المناورة الثّانية: إسداء الشّكر.
ما السّرّ في أن يكون إسداء الشّكر كلاما منقولا؟ فالكلام من حيث الصّياغة على غير ما جرت به عادة محمود المسعدي في تخريج الكلام. ويكفي في ذلك النّظر في فواتح مؤلّفاته المعروفة. إذ لم يسبق للمسعدي أن خطّ فيها إسداء لشكر فهو ليس من سنّته في الكتابة بل أورد فواتح أو مقدّمات. ثمّ لم يعهد عنه فيها إجراؤها على الخطاب المنقول. إذ سنّته أن يعمد إلى إرسال الكلام مباشرا فيحدّث عن نفسه فيبين أو يتوجّه للقارئ مرشدا.
ثمّ عند تمعّن نصّ إسداء الشّكر يلفت الانتباه هذا التّضخّم البيّن لصورة المتحدّث عنه. إذ تلحق به سمات من بينها الصّديق والأستاذ والفاضل والدّكتور. وهي أبدال من النّعوت يتيه الفكر في تعرّف مقاصدها، علاوة على أنّها ليست من سنن المسعدي في الكتابة. فعلى أيّ من المعاني تحمل هذه المفردات؟
وخلاصة القول، إنّ إسداء الشّكر فيه وجهان عليهما يجري: فإمّا أن يكون موضوعا منتحلا أريد به إضفاء مصداقيّة على الكتاب حتّى لا يشكّ قارئ في نسبة إرادة نشر هذا المصنّف المرعب إلى صاحبه. إذ في ذلك إشارة إلى متابعة المؤلّف لكلّ خطوات الاشتغال على الكتيب بما في ذلك مراجعته وتدقيقه بعد أن اكتمل واستوى، سيما وقد عهد عن المسعدي التّدقيق والتّأنّي.
وإمّا أن يكون من وضع الكاتب حقّا، أريد به التّعبير عن موقف ساخر ومعابثة تحوّل العمل إلى مأساة ملهاة تحقّق ما ذهب إليه الرّجل يوما حين تعريفه للأدب. ومن هنا تظهر صورة أخرى للصّراع بين الشّيخ والمريد.
المناورة الثّالثة: التّأمّلات.
يبدو أنّ التّأمّلات قد اكتسبت قيمة كبرى لاسيما عند صاحبها. إذ إنّ المحقّق كاد يهملها، فقد أفرد لها صفحة واحدة من قصّة قصّته، ولم يرفقها بتحقيق في المتن. إذ على الرّغم من إشارته إلى نوعين منها ( التّأمّلات القديمة الّتي اكتشفها، والتّأمّلات الحديثة الّتي يبدو أنّه لم يطّلع عليها، حيث سبقته إلى المطبعة) لم يكلّف نفسه على الأقلّ بالإشارة في بعض الهوامش إلى قديمها من جديدها لما لذلك من قيمة في دراستها.
في حين أنّ المؤلّف قد حرص عليها أكثر من حرصه على مخطوط "من أيّام عمران". وذلك باد في تهريبه للجديد منها، وتدقيقه في تحقيق قديمها على الرّغم ممّا يحمله ذلك من شديد عناء على الشّيخ. فما السّرّ في ذلك؟ أليس هذا يدعو إلى الاعتقاد في أنّها تحمل معابثة أو أمرا جللا يريد المسعدي إبلاغه دون واسطة؟..
يلاحظ عند تدبّر التّأمّلات أنّها تتوزّع على عدّة مواضيع أهمّها:
•تأمّلات عقديّة تنصبّ على الإنسان وربّه وقضايا الإيمان.
•تأمّلات تنصبّ على إدراك النّهايات في الحياة، الإشراف على الموت حسّا ومعنى.
•تأمّلات تنصبّ على المحيطين بالشّيخ، المهتمّين بأدبه.
فأمّا الأولى فهي تبيّن بعض شواغل الذّات المتفكّرة في وضعها من الكون وعلاقتها باللّه، تحمل أفكارا سبق للكاتب الحديث حولها سواء في مقالاته أو حواراته.
وأمّا الثّانية فهي حاملة لرؤى جديدة تعلّق أغلبها:
بالموت: "ما أحقر الزّمان عند الموت"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص123 )، "أقسى ما في الموت أنّه باب خدعة ليس وراءه إلاّ العدم"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص119 )، "أقسى اليتم فقدان الوالدين في الصّغر، وافتقاد إخوان الشّباب في الكبر"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص151 )...
أو تعلّق بالصّديق: "أقسى اليتم فقد الأصدقاء بحكم المنيّة أو بالفرقة والبعاد بعد طول عشرة وحميم وداد." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص137 ).
وفيها أسى كثير وإحساس بالوحدة قاتل: "الموت في أن لا تكلّم أحدا ولا يكلّمك أحد، الموت في انتفاء الحوار، والارتداد إلى الصّمت والانغلاق. والصّمت هو الوحدة والانحصار والانغلاق. لأنّ الإنسان لا يكون إلاّ أن يكون كلاما وحوارا واشتراكا مع النّفس والكون، وآفاقا بعدها آفاق. فالإنسان أزل وأبد"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص148 )... وفيها مناجاة لملك الموت مطمئنّة: "أيّها الزّائر الحبيب، السّلام عليك من وراء الباب الّذي وراءه العدم. تفضّل واجلس هنا بعض لحظات أمام لا نهاية البحر، لا نهاية الموت، لا نهاية السّؤال الّذي ليس له جواب: لماذا الوجود؟ لماذا الفناء؟ يا حبيبا زارني في مرقدي، توقّف هنا لحظة وتذهب المهجة، وتذهب الحياة شعاعا في لا نهاية السّؤال..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص147 ).
أو طلبا للإسراع بالانتفاء وشوقا كثيرا فابتهالا: "اللّهمّ كن لي بعدا لآفاق وجودي في حياتي وبعدا سكينة طمأنينة بعد وفاتي"(محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص138 )، "جماع أمل الإنسان في العدل والإنصاف بعد يأسه منهما في الحياة الدّنيا يوم القيامة والحساب... وقل علّلاني..." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص137 ).
وأمّا الثّالثة ففيها عجب كثير. إذ لأوّل مرّة يهتمّ المسعدي بأدبه وعلاقة الآخر به على صورة غير الّتي هدت عنه في بعض حواراته القديمة. وتبدو هذه التّأمّلات حادّة النّبرة تلمح إلى موقف من الدّارسين جديد فيه عتاب وحمل كثير. بل فيها أحيانا ندم ومحاسبة نفس قاسية. وقد تكون هذه التّأمّلات من بين تلك الّتي قد هرّبها للمطبعة. إذ يبدو فيها الكلام موجّها قد يكون حاملا لموقف ممّا مورس على أدبه في السّنوات الأخيرة ومن بينها قد يكون هذا الكتاب الجديد، أو معابثة مخصوصة قصد منها الانتقاض على المصنّف في الصّورة الّتي بها خرج على النّاس بعد إهمال مديد.
ففي إطار حمله على من أساء إلى أدبه أو لمن يريد يقول: "يسألونني: "هل كتبت من جديد رواية كالسّدّ؟ حديثا كأبي هريرة؟ أو غير ذلك؟ من غير أن يدركوا أنّ الإنسان سؤال واحد لا يتكرّر. ولا يتغيّر، لا يتكرّر لفظا دون إفلاس وإملاق، ولا يتغيّر معنى دون زور ودلس." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص149 ).
ومن مواقفه ممّن يتعامل مع الأدب يذكر مشهّرا: "الشّعر ينزل على الشّاعر وحيا كوحي الأنبياء من اللّه ويأتي بعد ذلك الفقهاء ليفسدوه وأصحاب النّقد والشّرح ليطمسوه." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص132). ومن علامات النّدم على اشتغاله بالأدب يوما قوله: " أكتب؟ لمن أكتب؟ ألأنا الّذي سيموت، طمع أن يبقى حيّا؟ في ما أكتب؟ ومن يقرأ ما كتبت؟ وهم كلّ ذلك. ولكنّه لا حياة يضطلع بها الحيّ. ولا أدب يعنيها إن لم يكن كذلك أساسا ليقين لا يستقيم." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص140 ).
ومن بين علامات عتابه للمتعامل مع أدبه وفكره إذ يسيء الفهم يذكر: "وهل أقسى في منزلة الإنسان أشدّ جورا أن تقرأني -أيّها القارئ- وتردّد مع كلماتي أصداء مأساتك في ألحان التّعاطف والتّجاوب معي وجدانا وشعورا وفكرا حتّى كأنّني حيّ معك، مشاطر لك لحظتك هذه وأنا منذ الأحقاب عظام رميم. الأدب مأساة أيضا من حيث هو ملهاة وطلسم وهمّ يغذّى به الحيّ، ويسير الحيّ جهرا إلى السّلوى واللّهو عن الوجود. الأدب –كالفنّ سواء- النّسيان." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص141/140 ).
على أنّ المسعدي يتجاوز في بعض تأمّلاته كلّ هذا الحمل والعتاب، ليعود فيذكّر بفهمه للأدب كما يراه رسالة ووظيفة وكما أفاض في إفهامه قديما فيقول: "قيمة كلّ أدب حقّ على قدر إثرائه لكيان الفرد والمجتمع معا بأبعاد أوسع وطاقات فكريّة وأخلاقيّة أسمى." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص134 ).
ويبدو أنّ الشّيخ قد آلمه أن يرى كلّ هذا الانحراف عن المسير بتسيير أدبه في غير الوجهة الّتي أراد له يوما، فيورد ذلك في تأمّل يقطر أسفا ونعيا فيقول مجرّحا: "بعد خمسين سنة من معاشرة البشر أريد أن أتفرّغ لاستدعاء ذكرياتي وما عذّبني من صبر على تأمّلاتي في الكون والنّاس، وكيف نقلوا لعبة الوجود إلى ألعوبة الحياة، وانحدروا بلعبة الوجود المأساويّة إلى ألعوبة الحياة الهزليّة، متأرجحين بالمغامرة الإنسانيّة بين ركح المأساة العظيمة ومرقص اللّعبة الازدراء." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص149 ).
الواضح أنّ المسعدي في تأمّلاته من كتاب "من أيّام عمران" قد قال كلّ ما يمكن أن يقوله ناقد للأدب في صورة أكمل وأكثر صدقا. إذ جعل منها محاكمة مباشرة صريحة لمن يحيط به يحاول ابتزازه على أبشع الصّور. لعلّ أدناها وأحقرها خطرا أن جعلوا منه اسما تجاريّا يضارب به في سوق التّجارة ونخاسة الأدب، ولعلّ القارئ مازال يذكر ما أشرف أن يلحق "حدّث أبو هريرة قال..." عند محاولة المسرح الوطنيّ التّونسيّ إخراجه، لولا وقوف صاحب الأثر على ذلك ومنعه للعرض.
فيما يبدو هذه هي "لعبة الوجود المأساويّة" الّتي ينحدر بها إلى "ألعوبة الحياة الهزليّة" حسب تعبير المؤلّف. ولعلّ المنصف من النّاس يردّد يوما على ترنيمة المسعدي التّالية: "ما أزهد غنيّ النّفس في المال وكريم الأصل في الجاه والعليم بالنّاس في النّاس." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص124 ). وبهذا يبدي المؤلّف خلاصة رأيه في النّاس. رأي هو يحمل صورة قاتمة يقدّمها فيقول: "الإنسان بالطّبع أنانيّ في الخير، لا يعطفه أو يحوجه شيء إلى الغير، وأنانيّ في الشّرّ، يرى عونه على الضّرّ فريضة على الغير." (محمود المسعدي: "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" ص120 ).
5- قطع الكلام.
نتاجا لكلّ ما تقدّم من قول على هامش الكتاب، يمكن الإقرار بأنّ مصنّف "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" كما خرج في طبعة دار الجنوب المذكورة، لا يمكن أن يعدّ رؤية جديدة أو إضافة لأدب محمود المسعدي أو للأدبين التّونسيّ والعربيّ من ورائه. فلا هو يطرح همّا ثقافيّا أو حضاريّا على ضوء المستجدّات الرّاهنة، ولا هو تعميق لفكر أديبنا، بل هو إلى التّكرار أقرب في منطلقات مساءلة الوجود ومناهج معالجتها. زد على ذلك التّشويه الّذي لحق عمليّة تحقيقه إذ لم تأخذ بما يتطلّبه ذلك من جدّ وصرامة. فخرج الكتاب مشتّتا يبعث أحيانا على السّخرية. ويبدو أنّ هذه السّمة الّتي علقت به كانت السّبب في إهماله وعدم الاحتفاء به كما يليق بأثر من متون القول الأدبيّ. فها هو حول يمرّ على تاريخ صدوره وليس من كاتب أو ناقد التفت إليه فحاوره.
وختاما فقد بيّن تتبّع تصاريف اللّغة في كتاب "من أيّام عمران وتأمّلات أخرى" جملة من المسائل الخطرة الّتي لا يمكن بأيّة حال من الأحوال التّغاضي عنها. وليس ذلك من باب الدّفاع عن المسعدي وأدبه فهو الأقدر على ذلك والأحقّ به. وليس أيضا من باب الدّفاع عن الكتاب والكتابة إذ لهما أهلهما. ولكن هو من أجل تنميّة الرّوح النّقديّة والمجاهرة بالرّأي فيما يعرض علينا من كتب، وحتّى لا يكون الخطأ مؤسّسا لسنّة في البحث قد يجري عليها الخلف يوما فيكون الخسران، وجب أن يصنع كلّ كليم من ذاته شوكة يضعها من الحلق موضع اللّهاة.