الاثنين ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٠٨
بقلم إيمان أحمد

رغـــمًا عـــنـّـي

*إهــداء*
إلى ذكرياتي المختزنة في عمق الذاكرة...
إلى كلّ من يحب أن يحتفظ بالأشياء العزيزة إلى نفسه لمدّة أطول...
إلى كلّ من تخلّص من هذه الأشياء، رغمًا عنه!

دخل غرفته وأغلق الباب خلفه بإحكام، فتح دولابه الخاصّ الذي طلب تصميمه خصّيصًا ليضع فيه أشياءه الخاصّة، ذكريات عديدة تمثّل له عمرًا كاملا.. وأيّام يستحيل إعادتها، صور تخرجّه من المدرسة الثانوية في بلدٍ أخرى، صور أناسٍ أحبّهم وأحبّوه لكن ظروف معيشتهم أبعدتهم إلى بلادهم، وهي ذاتها التي جاءت به إلى بلده الأصلي ليكمل طريقه، تنهّد وأغمض عينيه، لطالما منحته هذه اللحظات، قوّة ليحيا واقعه القاسي..

دولابًا بنيّ اللون تتخلله خطوط ذهبية انسيابية، بداخله عدد من الأدراج جعل لها كلها مفتاحًا واحدًا، مغلقٌ عليها بابٌ ذو ضفتين، بمفتاح منفصل، كان كلمّا أجاب أصدقاءه في العمل عن سرّ مفاتيحه ضحكوا منه كثيرًا.. حتى أن أحدهم تعجّب كثيرًا، كونه متزوجًا ويحتفظ بهذه الأشياء في منزله، كان يجيبهم أنها عُمْرْ، ومن يُضَّيِّع عمره فماذا تظنّ أن ينفعه ؟! زوجتي عرفتني في مرحلة من عمري، وإن ارتبطتُ بها، فلا ينفي هذا أن لي عمرًا قبلها أحبّ أن أحتفظ به معي.!

أفاق من شرود ذهنه على صوت طرقٍ على الباب، وصله صوت زوجته تقول:

 كيف يمكن أن يعيش المرء مع شخص يقدّس ماضيه إلى هذه الدرجة، افتح يا رجل، أعرف أنك في محراب الذكريات الآن، لكن عليك أن تتفهم أن لك زوجًا وأبناء يحتاجون إليك أيضًا..

قال لنفسه بسخرية: يا للحاجة التي تلصقكم بي!! إنني لا أكاد أسمع منكم سوى النقد..!

أغلق دولابه العزيز، وخرج إليهم، ضمّ زوجته إليه فرفعت حاجبيها متعجّبة، إنه دومًا يمرّ بحالة من (التفجّر العاطفي) كلمّا خلا بنفسه مع ذكرياته، لذلك هي لم تتخلص منها كما نصحتها أمها!!

في المساء جالسًا إلى حاسوبه، يسترجع صور رفاقه في الجامعة، لم يكن يتحدث إليهم كثيرًا بالهاتف، بعد التخرج تفرقوا، منهم من سافر ومنهم من هاجر، والذين بقوا معه تزوجوا أو اختفوا !

عَلَتْ وجهه ابتسامة جميلة حنون، ترى هل كلّ أصدقاءه يهتمّون بهذه الذكرى ويذكرونه؟ أم أنّ كلا منهم انشغل بحياته الجديدة؟!

سمع صوت زوجته تناديه بأنّ هناك شخص بانتظاره على الهاتف..هرع إليها، تجمّد وجهه لحظة وهو يُنصت، ثم فجأة انفجر ضاحكًا بينما دمعة اشتياق تسيل على خدّيه وكأنه يريد أن يحتضن المتحدّث..

 كيف حالك يا صديقي؟! أنت....... لا تتصور...... الآن كنتُ أشاهد أسطوانة تخرّجنا من الجامعة، هل تذكر؟! اشتقتُ إليك يا رجل..
 هييه إنه مجرد ماضٍ وانتهى ,, هل يمكنني أن أراك قريبا؟ لقد كنت في الخارج كما عرفت وجئت لظروف قاهرة وسأبقى هنا، ولم أستطع الحصول سوى على رقمك,, ربما استطعت مساعدتي - بالتأكيد يا صديقي، رغم لهجتك الباردة هذه.. يبدو أن الطقس هناك قد أثّر عليك، أنسيتَ أنك كنت ملك العاطفة في الكلية؟ وأخذ يضحك..

ضحك صديقه بسخرية وقال:
 الدنيا يا صديقي، الدنيا التي تُغيّر ولا تتغيّر..عندما أراك سنتحدث بالتفصيل..

تبادلا العناوين وأرقام الهواتف، أخذ يفكّر ويحدّث نفسه، لم يكن من الممكن أن يحدث شيء أجمل من هذا.. أن تأتي رائحة الذكريات متجسدة في شخص، تأتي إلى واقعنا حيّة سنستطيع أن نلمسها ونضمّها إلينا وتملأ رائحتها أنفاسنا العطشى..والأجمل أنها لن تسافر مرة أخرى !!

قبل أن يخلد للنوم، بحث عن الاسطوانة في جهازه كي يأخذها معه في الصباح عندما يذهب لصديقه، فلم يجدها..

تأكد مرة أخرى فلم يرها!!

متأكدٌ هو أنه تركها كما هي منذ الأمس، سأل زوجته، فقالت بغير كثير اهتمام:

الولد كان يلعب بها، حتى كسر جزءًا منها، فرميتها في سلة القمامة !!

أخذ يحدّق بها بذهول، لم يستطع أن يتكلم جرّاء الصدمة!!

إنها جزء كبير من حياته، إنها ذكريات خمسة سنوات كاملة، كيف يستطيع أن يفرّط فيها؟!كيف تضيع؟! دارت به الدنيا فلم يقوَ على حملِ رجليه، عاد إلى غرفته.. وأمام الدولاب العزيز تمدد على سريره، بينما دمع ساخن يهطل على وجنتيه معاندًا إيّاه...

هرعت زوجته إليه تخفف عنه وتحدّثه... لكم يحتاج إلى المواساة والعزاء.. وهذا ما فعلته، اعتذرت له..جففت دمعه بكفّيها..وربتت على كتفيه..

فجأة قالت له: لماذا لا تسأل صديقك؟! ربما وجدتَ نسخة عنده...

نظر إليها طويلا...شكرها...ووعدها بأنه سيفعل ذلك في الصباح لأنه يريد النوم الآن ليخفف عن نفسه...

طالما خفف عن نفسه بالنوم، كان يهرب من المشكلات إليه، ليس ضعفا في شخصيته، لكنّه عندما ينام يشعر كأنما بذلك يشحذ نفسه لمواجهة ما ينتظره، ربما حدثت مشكلة مع زوجته فتطلب منه أن يحلاها في التوّ واللحظة، لكنه يطلب منها أن تؤجلها للغد، بالتأكيد لن يكون هناك أخطاء في حق الآخرين لو تريثنا قليلا قبل أن نتكلم..

في الصباح قابل صديقه مملوءا بالأمل، سيجدها معه بالتأكيد، فقد كان ( ملك العاطفة ) وبالتأكيد يملك نسخة، إن لم يكن أكثر..

 يا للعار يا رجل، كبرت وتزوجت ولديك أبناء، وتقول الآن أنّك تحتاج إلى نسخة من أسطوانة صور الجامعة!!! جيّد أننا وحدنا وإلا جابت فضيحتك الآفاق بين الزملاء..بالطبع ليست معي، وضحك بسخرية، أنا لا أحتفظ بهذه الأشياء، الأطفال وحدهم يفعلون..! لستُ أنا ! قل لي بالله عليك، ماذا تركتَ من اهتمام للأوراق المهمّة والوثائق؟!! أخالك لا تهتمّ بشهادة الكلية نفسها كما تهتم بهذه التفاهات .!
 .....
 هل تعلم، قبل أن أسافر رميتُ كل هذه الأشياء، لن تفيدني أبدا، ستشكل حملا وثقلا بلا داع، تركتها لأمي، قلت لها افعلي بها ما يروق لك، وكذلك عندما جئت من هناك، هه ما بك صمتّ ؟! من أين لك بهذه الرومانسية ؟! كنتَ تبدو على العكس أيّام الدراسة!
 سأحاول أن...
 لن تجدها صدّقني، الماضي ماضٍ مهما أردت أن تستحضره فلن يأتِ... انسَ الأمر يا صديقي..

رمى بهمومه وأحزانه فوق سريره، استلقى مفكّرا، كيف يتخلى الآخرون عن أعمارهم بهذه الطريقة؟ لكنّه كان قبلا يكره مقولة: أمة بلا تاريخ أمة بلا حاضر، كان يقول أنّ من أكبر ذنوبنا أننا استندنا على التاريخ ولم نفعل شيئا لحاضرنا..لكنه لم يتكئ على ماضيه وكفى...فهو سعيد مع زوجته وحياته تسير هادئة متناغمة...ما الجُرم إذن في أن يحتفظ بعمره الفائت؟! هو لم يعش أبدًا فيه بما ينسيه حاضره، كان يستطيع أن يعيش في حاضره، ولكنّه كان سعيدا بامتلاكه ذاكرة استطاع أن يسجّلها حيّة بينما لم يجد السابقون وسيلة سوى الكلمات لتسجيلها..

دخلت عليه زوجته مرتبكة، قالت: هل تذكر ذلك العطر الذي أهديتني إياه مؤخرا؟ ما كان اسمه؟ صديقتي تسألني على اسمه ودومًا أنساه، لقد أضعتُ الزجاجة، بعدما فرغت لا أدري أين وضعتها ولا أجدها، هل تستطيع مساعدتي في تذكر اسمه؟

أغمضَ عينيه كي تظنّه نائما...وذهب بذاكرته بعيدًا...يتقلب فيها ومعها.

في الصباح خرج أبكر من العادة...ولم يعد في وقت الغداء...ولا في العشاء... عاد متأخرًا بعد انتصاف الليل، عيناه منتفختان ووجهه شاحب..

استلقى بجوار زوجته، لم تستيقظ !! إن كانت كذلك الآن معه وهو حيّ بجوارها، فكيف لو أصبح ماضٍ !! كيف لم يثر قلقها تأخره؟ سقطت آخر دمعة ساخنة على وجنتيه قبل أن يغفو...

رأى صحراء شاسعة، رمال صفراء ذهبية تبرق بشدة، رأى حفرة على مرمى البصر، اقترب منها وهو يشعر بخفقان قلبه الشديد، كأنما كرة تُقذف من أسفل بئر سحيقة إلى قلبه فتخلعه من مكانه...

رأى ذكرياته فيها آمنة، لا يوجد من يسخر منها، ولا أحد يستهزئ بها ولا يعبث بمحتوياتها...

رأى مفاتيحه آمنةً بقلب الذهب الأصفر...

رأى أشياء كثيرة...

استيقظ على صوت زوجته تنبئه بوصول النجّار وتسأل:

 لماذا طلبته؟ هو يقول أنك أردته أن يمر عليك ليأخذ شيئا ! قلتُ له العنوان خطأ لكنّه مصرّ!
 دعيه ريثما أجهز، سأبيعه الدولاب الذهبي...

وأضاف بصوتٍ هامس سمعه بالكاد:
 رغما عني!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى