الأربعاء ١٩ أيار (مايو) ٢٠٢١
بقلم البشير البقالي

رواية «رباط المتنبي» بين سمات الروائية وملامح الباطنية

من سوء حظ رواية «رباط المتنبي» أنها لم تخضع لقراءة نقدية حقيقية، وظلت رهينة قراءات خطية استعراضية للمتن الحكائي، أو تحليلات جزافية تنطلق من أفكار مسبقة وتحيك تخريجات تجريدية، أو أحكام إعلامية تشق أفقا للقراءة مغالطا، دون أسس نقدية أو وعي بميكانيزمات الرواية، فتأتي القراءة بعيدة عن ملامسة المشكلات الجمالية والبنائية، والعمق الإيديولوجي والفكري للنص.

والواقع أن هذه الرواية لا يمكن اختراقها بمجرد قراءة سطحية ظاهرية، أو تقويم ذوقيّ فقط، بل تستدعي تقويما إيديولوجيا كذلك، محايثا للتقويم الأدبي ومواكبا له، على اعتبار أن هذه الرواية تتداخل فيها عناصر روائية مع الفكر الخالص، وتتجاور فيها الغنائية مع التعبيرات النثرية المتنوعة المشارب والمقاصد والأهداف الخطابية، وتتماوج بين مطلقية الشعر وموضوعية النثر وشطحات الروح، كما تتجاذبها أصوات متنوعة، متداخلة ومتنافرة في الآن نفسه، ومتحولة كذلك. ثم إنها رواية الشخصية الواحدة والمرايا المتعددة، بحيث كل الموجودات فيها لا وجود لها إلا في حلم البطل السارد أو هلوساته أو جنونه أو فورة وعيه ولاوعيه.

فهل يمكن أن نقبل، وفقا لمنطق الأشياء، عودة المتنبي أو عودة الراوي إليه؟ وهل يمكن أن نستسيغ تحول الأسماء والشخصيات والأماكن بشكل مباغت بغير تهييء سياقي متوازن، كأن تتحول بشرى إلى ليلي، وخولة عواد إلى منى فنيش، ومستشفى الرازي إلى مصحة بوسيجور وغير ذلك؟ إن سلمنا بذلك وتعاقدنا مع الكاتب على تلك المفارقات الظاهرة، فسنكون قد تعاقدنا على الوهم والمغالطة، وعلى حكاية يوهمنا الكاتب بأن بطلها هو المتنبي (الشاعر)، وأن الحكاية للمقارنة بين تاريخين أو وضعين، أو لتأمل الواقع بعين المتنبي. غير أن النص في الحقيقة يختزن أكثر مما يقول، ويوحي أكثر مما يشير، ويتقصد أبعد مما يحكي ويصور.

إننا إذا نظرنا إلى النص من خلال مضمونه الروائي، نجد أنه ركز على الذات؛ هي ذات منكسرة حسب ما نفهم من قول الراوي في سياق حكيه عن ظروف عودة المتنبي أو العودة إليه: «أنقذني الخلوفي. أضحيت شيئا آخر وقد عدت، تعافيت، ولكني حملت نفسي آثار ندوب».1

هذه الذات المنكسرة والمجروحة أصبحت فاقدة لعلاقاتها العضوية بالواقع والحياة والمنظومات القائمة، وصارت تتجه نحو الاندماج في كلية متعالية تعطي معنى رومانسيا لوجودها، من خلال رحلة أثيرية أومأت إليها كثير من المؤشرات السياقية، منها الاعتكاف في زاوية الشيخ الخلوفي والتطهر والبذرة التي غرسها الخلوفي في البطل، وكذا الأجواء الروحانية التي غمرت النص، والتي سنتناولها في سياق لاحق.
وقد أمعن الراوي في تصوير انكسار الذات حين يقول في نفس السياق: «هل يدرك أولئك الذين يتكالبون على الأمازيغية، ويتطيرون ممن يعتبرونهم غلاة، من غلو واقع وتجبر منظومات، ما أفضى إليه من تشتيت أسر والإجهاز على مسارات؟ هل يدركون تلك الندوب التي يسميها الفيلسوف Avishai Margalit بندوب الاحتقار؟».2

يظهر في هذه الصورة أن الأمر يتداخل فيه الذاتي والعرقي، وأن النبرة شديدة التأمل والتركيز والجدية، كما توحي بأن ندوب الاحتقار كانت هي المحفز لوعي الذات بأهميتها والتوجه نحو الإعلاء من شأنها، على اعتبار أن هزيمة الذات «هي الشرط نفسه لقيام الذاتية».3

ومن هذا المنطلق، أعلن البطل الراوي أنه كان عليه أن ينهض ضد منظومة لم تقبل به، وشرع، على غرار الروايات الرومانسية، في الكشف والفضح، ونقد مظاهر الاستلاب، ومحاورة الناس والتاريخ والسياسة والدين والفهم والأفكار والمفاهيم واللغة والأخلاق وأحوال «بني يعرب» على حد تعبيره، وغير ذلك، ناقشه وكشفه بكثير من التنطع، حسبما أعلن في سياق عرضه لبعض ما قاله «القصيمي» عن المتنبي وقومه في كتابه «العرب ظاهرة صوتية»، إذ يقول: «اعتبرت التنطع، ولا أدري إن كان التعبير موفقا، ضروريا مرحليا. ولكن لا مُعدّى، آجلا، من التفكير العميق والتحليل الرصين...».4

وموازاة مع رحلة الفضح، كان الراوي يخوض بناء الذات بإعلاء شأنها والدفع بها نحو التسامي والتعالي على الواقع وتناقضاته ومعتقداته ومنظوماته، من خلال سياقات كثيرة رسمت صور الزهد والتعفف، والميل إلى الفكر والتحليل، والاقتداء بالعقل والنفس والبصيرة، والرؤيا الشهودية؛ في هالة من القداسة والتسامي.

ومن ملامح الذاتية كذلك، امتصاص البطل الراوي عديدا من ملامح الكاتب، من خلال ربط بعض المواقف السردية بسياقات ومؤشرات واقعية عاشها حسن أوريد، خصوصا ما تعلق بمهامه الرسمية سابقا، وصفة الأستاذ حاليا، مع بعض الإشارات إلى أصوله الصحراوية وهويته الأمازيغية، وغير ذلك مما دفع البعض إلى الاعتقاد بأن النص سيرة، وأن الكاتب يروم تصفية حسابات قديمة، والأمر في الحقيقة أبعد من ذلك وأعمق بكثير، حيث استثمر الكاتب هذه السمة بغرض خدمة مقصدية الرواية، وبغرض جرف القارئ نحو ما يريده الكاتب لا إلى ما هو مقصود بالتحديد، أي أن الأمر كان لإلهاء القارئ وتوجيهه إلى أفق محدود. إلى جانب غرض آخر يتمثل في امتصاص سمات البطل نحو الخارج، أي نحو شخصية الكاتب بشكل مداوِر يحاكي جدلية الصوت والصدى؛ فالصوت هو البطل والصدى هو الكاتب. لكن ذلك، في كل الأحوال، عزز سمة الذاتية وجعلها أكثر تركيزا وتمركزا.

وإذا غيرنا الزاوية ونظرنا إلى الرواية من جانب أسلوبيتها، نجد أنها تضمنت كل التنويعات والتلاوين الأسلوبية المتاحة للرواية كما حددها ميخائيل باختين5، من سرد مباشر للمحكي المباشر، وأشكال السرد التقليدي الشفوي من خلال حلقات بوح البطل المجنون للطبيبة، وأشكال السرد نصف الأدبية من رسائل ومذكرات، كما نعثر على أشكال متنوعة من خطاب الكاتب عبارة عن كتابات أخلاقية وفلسفية، وعروض حول أفكار وكتب وآراء حول بعض القضايا مثل؛ المجتمع والفهم والديمقراطية، وعلاقة الحاكم والمحكوم، والنفاق الاجتماعي، والتاريخ، واللغة، ومآزق العرب، وغيرذلك. وكل هذه الأشكال والموضوعات شكلت روافد لصور روائية جزئية، تصب جميعها في تشكيل الصورة الكلية بما هي رد فعل منسجم لمجموع الفعاليات الذهنية للمتلقي أمام تشابك المكونات والسمات النصية المحكمة6. وهذه الصورة الكلية ظلت غائرة بفعل تناثر أجزائها وتشاكلاتها الخفيّة.

وقد تعززت هذه الأشكال الأسلوبية بمظاهر الاحتفالية، وملامح الهجاء المينيبيّ7،

وكذا الحوار السقراطي، والكرنفالية، وقدمت محاكاة ساخرة للواقع، مكسرة الحجب، ومندفعة نحو نقد الأوضاع الاجتماعية والسياسية والأخلاقية، ورصدت موطن الداء، متمثلا في عدم إعمال الفكر والعقل، وانعدام الوعي والفهم، والخضوع للأشباح، يقول الراوي في سياق بوحه للطبيبة:

«اهدموا كل شيء، لغتكم المحنطة، تراثكم المأفون، أنتم ضحايا نصب. الموتى يعيشون فيكم ويسلبونكم أعز ما لديكم. يسلبونكم الحلم، فتستبدلونه بالحنين، وتجترون الماضي، ولا تنتقلون البتة إلى الفكر».8

وكما يبدو، فإن الصورة تحمل خطابا إيديولوجيا فيه كثير من التعريض بالعرب، ويتجلى أحيانا بصيغة واضحة كمثل قوله: «بنو يعرب لا يعرفون التحليل»9،

وكذلك قوله: «حقائق انتهى إليها المعري، ولم ينته إليها أقوام المعري إلى الآن. يحكمهم جهالهم(...) وتنقاد الشعوب خوفا ورعبا، ولا يُعملون العقل لفك الإصر الذي يجثم عليهم».10

ولتمرير خطاباته، استثمر الراوي ثيمة الجنون بوصفه جسرا لشيء ما، وظهر المجنون في النص متسما بالاختلاف عما دأب الناس عليه أو ما تواضعوا حوله، وقد عبر الراوي عن هذا المعنى في أكثر من مناسبة سياقية، وبذلك شكل صورة المجانين بسمات مجانين النيسابوري في كتابه «عقلاء المجانين»، إذ يقول: «المجنون عند الناس من يسمع ويسب ويرمي ويخرق الثوب، أو من يخالفهم في عاداتهم ويجيء بما ينكرون»11.

كما يلتقي زعيم مجانين الرواية مع مجنون جبران خليل جبران في صفات الرائي والعارف والمستبصر الذي يرى بالبصيرة ويشعر بالحدس، ويخرق حجب الواقع ليصير تجليا لمفهوم الإنسان الكامل.12

وهذه هي الصورة التي يشكلها البطل عن نفسه في الرواية، وأكسبته نوعا من القداسة، فبدا في بوحه كأنه يخرق الثوب، ويكشف المستور، ويتجاوز حجب الواقع وأشباحه، يقول في أحد سياقات بوحه: «الهلوسة إشراق أو كشف أو مشاهدة أو رؤيا...».13

كما اقترن الجنون في النص بالحكمة والوعي، حيث نقرأ على لسان الملقب بابن جني، في إحدى كرنفاليات المجانين: «الجنون حكمة. الحكمة جنون. تاريخ الجنون. تاريخ الإنسان. الجنون تاريخ. التاريخ جنون. الجنون وعي. الوعي جنون. الجنون حكمة. الحكمة جنون، تاريخ...».14

وعلى هذا الأساس، فقد عكست احتفاليات المجانين وكرنفالياتهم الكثيرة، في النص، نوعا من الفصاحة، والرفض، وكشف الزيف، والتمرد، وهي نفس الدلالات التي أوردها النيسابوري، بما أكسب مجانين الرواية صفة «عقلاء»، وجعلهم كمرآة للحقيقة. وبذلك اضطلعت سمة الجنون بوظيفتين؛ وظيفة إعلاء منزلة الذات وتساميها، ووظيفة التمرد والكشف.

إن هذه الخصائص المضمونية والأسلوبية لرواية «رباط المتنبي» جعلت منها، ظاهريا، رواية ذات وجهين؛ فهي من جهة رواية رومانسية على خط الرومانسية الأولى بألمانيا، تتغنى بالذات وترتقي بها في رحاب اللامنتهي واللامحدود والمتعالي، بل و«التَّنبِّي» كذلك، وتوائم بين العناصر الروائية والفكر، يقول الراوي في سياق أحد حواراته الأولى مع المتنبي: «... أما الآن فلم أعد أومن بسحر اللغة ولا بسلطان البلاغة، بل بقوة الفكر».15

وهي من جهة أخرى رواية هزلية، بالنظر إلى ما تضمنته من سمات البارودية والحوارية والاحتفالية، وكذا صور ساخرة، واعتمادٍ على التراث، وتعددٍ في الأصوات والنبرات، وانكسارٍ في الزمن، وتداخلٍ بين الذاتي والتاريخي، وغير ذلك من سمات الرواية الهزلية، لكن من الهزل الجاد، على خط روايات رابليه.

ولعل اختيار شخصية المتنبي يخدم الوجهين معا، حيث إنه نموذج مثالي للتعبير عن الذات والإعلاء من شأنها، نظرا لما اشتهر به المتنبي (الشاعر)، الذي أمعن الراوي في تكرار وصفه بـِ «مالئ الدنيا وشاغل الناس»، من إحساس بالتفوق ونرجسية وعبقرية، وكذا باطنية في التعبير عن نواياه وفي مواجهة خصومه، إلى جانب باطنيته الفكرية والسياسية.

إن ورود المتنبي، بوصفه حاملا لخطاب قوي وعبقري وباطني، أريد به امتصاص تعبير الراوي عن نواياه وما يجول في خاطره وما يعتمل في نفسه، وتمريرها في خطاب غير مباشر، كما أريد به معارضة ذات بذات واكتساب سمات بالمرآة، والتعبير عن الذات من خلال قرين أو روح تلبست الراوي، هي روح المتنبي، فصار الأخير يعبر بلسان الراوي، والراوي يعبر عن نفسه بكلام المتنبي.

لقد وجه الراوي جانبا عريضا من خطابه المقصود من خلال أشعار المتنبي، وكذا من خلال متاهات حياته وغموض سريرته، حيث أقام مماثلة بينه وبينه، واستقطر منه سمات التسامي والتفوق والعبقرية و«التنبِّي»، وكانت الأشعار التي اختارها انتقائية للتعبير عن الذات بشكل مُداوِر ومبطن، لإعلاء شأنها وإبرازها بمنزلة الذهب من الرغام، في مقابل أبيات أخرى مقصودة لخطاب موجَّه إلى آخر أو آخرين مفترضين، مثل قوله: «والحر ممتحن بأولاد الزنا»16،

وكذلك قوله:

إذا ترحلت عن قوم وقد قدروا
ألا تفارقهم فالراحلون همُ 17

ومثل هذه الأبيات أو المقاطع الموجهة، كثيرة في النص يصعب حصرها، وقد استعملها الراوي كقفاز ملاكم، بحيث إن اليد يد البطل الراوي، والقفاز للمتنبي، فتأتي اللكمة مبطَّنة. هذا إضافة إلى أشعار أخرى تدين المتنبي وحده، منها أبياته في هجاء «ضبّة» التي يقال إنها كانت سبب مقتله.

إن الراوي استغل شخصية المتنبي أفظع استغلال، واتخذه مادة خصبة وظفها لخدمة أهداف متعددة، حيث تدرجت علاقته به من المماثلة إلى المعارضة إلى القطبية، وكان التداخل بينهما كبيرا بلغ حد الاندماج والتماهي، يقول الراوي: «هل نحن روحا حلت بجسدين؟ أم جسدا حلت به روحان؟».18

ثم بعد ذلك بدا وكأن الأمر يتعلق بحكايتين متوازيتين ومتزمنتين؛ حكاية البطل الراوي، وحكاية المتنبي، في شكل أقرب إلى خيال الظل، حيث مرض الراوي ومرض المتنبي، وسافرت بشرى وكذلك سافرت خولة، وعادتا في الوقت نفسه، وأصابت الحمى البطل مثلما أصابت المتنبي، وكأن البطل السارد يعيش بشخصيتين ويتنقل بين زمنين ويعيش واقعين، هما في الحقيقة صورة لنفس الواقع، ويعبر الراوي عن ذلك بقوله، في سياق حديثه مع الدكتورة خولة عن المتنبي: «عاش فترة مضطربة كانت تحمل إرهاصات الأفول، كانت القوميات الأخرى تنهض، من أتراك وفرس، في الوقت الذي أخذ رسم الخلافة العربية يضمر، وكانت تجليا للسلطان العربي أو جامعتهم» .19

لا يخفى أن عبارتي «السلطان العربي» و «جامعتهم» تحيلان على زمنين؛ زمن المتنبي وزمن البطل الراوي، على اعتبار أن الجامعة العربية لم تكن في زمن المتنبي. كما أن الأحداث متماثلة بين الزمنين، مما يعزز فرضية التماثل الذي أقامه الكاتب بين الشخصيتين.

بعد هذا التداخل، تحول الأمر تدريجيا إلى تعارض بينهما، بسبب عدم وفاء المتنبي لأصول الضيافة ونعته بالخيانة واتباع الهوى والنظر الضيق والعنصرية، وغير ذلك من الصفات الوضيعة التي وسمه بها البطل، نقرأ من ذلك مثلا قول الراوي محاورا المتنبي في مونولوج: «اذهب لحال سبيلك يا أبا الطيب. جئت تفسد علينا أمرنا برؤياك العنصرية ونظرتك الضيقة».20

وتكشف الصورة عن حجم التحامل الذي صار عليه البطل الراوي اتجاه المتنبي، قبل أن يتحول الأمر إلى عراك بينهما، في إشارة إلى فك الارتباط.

وفي القسم الثاني يظهر أن الراوي هو المجنون، وأنه يتقمص شخصية المتنبي، ما أوحى بقطبية، بالمعنى الهرمسي، حيث يبرز قطبان لهما نفس الجوهر، لكنهما مختلفان في النسب 21.

ليتضح لنا أن المتنبي المقصود في الرواية هو البطل الراوي، وأن البطل الراوي هو المتنبي (لا أقصد بكلمة المتنبي هنا؛ الشاعر، بل أقصد بها صفة مجردة)، هذا على مستوى الوعي، أما حين يُحقَن ويَشرع في البوح، فإنه يضع الأمور في شكل معارضة صراعية، ويتحدث عن المتنبي بوصفه خائنا سرق منه حليلته، إذ يقول في أحد سياقات بوحه للدكتورة فنيش: «... أنا أعرف أن المتنبي حل ببيتي وانتهى به الأمر أن أخذ حليلتي».22

وفي ثنايا السياق ينكشف أن الحليلة أكثر من مجرد امرأة، وأن المتنبي مجرد صورة لها ظل شاسع وممتد، ويتجسد مثل صخرة تتحطم على أعتابها خبايا تاريخية، ترتبط ليس بالمتنبي فحسب، وإنما تناظر (من المناظرة) قومه والتاريخ.

ومثلما كان المتنبي نموذجا للتعبير عن الذاتية وظلال التاريخ، فقد شكل مادة احتفالية خصبة للرواية، إذ مكن الكاتب من حرية في التخييل وإعادة صياغة الواقع بشكل تنتفي فيه المأثورات الأسطورية، ويصبغ على الشخصيات التاريخية صفة المعايشة والمعاصرة، في مشاهد كرنفالية واحتفالية جسدتها تمثيليات المجانين ومحاوراتهم، تمزج بين السامي والوضيع، وتنتقل من مكان إلى آخر ومن زمن إلى زمن، يلتقي فيها شخصيات من الماضي كما الحاضر، في إطارٍ حواريٍّ متعدد اللغات والأصوات والنبرات. مما جعل الرواية، في عمقها ومنحاها العام، محاكاة ساخرة وناقدة للواقع والتاريخ والإنسان والأخلاق والسياسة، يصوغها جانب فكري ينهل من روافد شتى معظمها باطنية، يروم كشف تناقضات الحياة والمجتمع، مجتمع الأرواح الميتة أو النائمة، حسب ما عبر عنه الراوي في أكثر من سياق وصورة سردية، منها هذه الصورة من إحدى كرنفاليات المجانين، في حوار بين الملقب بكافور وبين الزهرة، بعد أن تلا الملقب بالمتنبي قصيدة:

«- عرفت آش قال؟ دوك اللي بغيتي تفيّقي من رقادهم ماتوا. قتلهم الذل. ما بقى غير الجسدة، وإمّا الروح مشات عند الله، باح..

استرجعت الزهرة حزمها وقالت بحدّة لكافور:

 إشويني فيك ألضّراوي، وعلاش حنا في هذا الرباط إلا ما نحييوش الروح؟».23
هذا إلى جانب كشف الوهم والأشباح، حسب تعبيره، وخضوع الناس لها، وإبراز الزيف في صور عديدة يتجلى فيها جنون المجانين بوصفه مرآة للحقيقة، يكسرون فيه حواجز الخوف ويخرقون الثوب في ملاحم جنونية احتفالية وكرنفالية يقودها المتنبي. غير أننا نتبين، مرة أخرى، أن لا وجود للمتنبي الشاعر على الإطلاق، إلا كرمز وصورة وصوت يوجهه الراوي على مقاسات مُعيّنة ونوايا مبطنة وأغراض مدروسة، ويبرزه على أنه مجرد ظاهرة صوتية، حسب ما توحي به صورة مونولوجية للبطل، يكشف فيها حقيقة المتنبي بعد لقائه الليلي بالدكتورة خولة الذي تلا فيه قصيدة «أمِن ازديارك...»، يقول الراوي:

«ترتبط بسيدة غريرة لا تعرف حتى اللغة التي تحدثها بها. مثلما تخدع شعوبا جاهلة. تخدعها بجرس كلماتك، وبمحسناتك البلاغية التي تزري بالشعور ولا يتأتى معها الفكر...».24

واضح أن الصورة تختزل المتنبي، وبالتبعية قومه، في مجرد ظاهرة صوتية وليست لغوية، إذ «لا يتأتى معها الفكر»، وفي ذلك إشارة عميقة توحي بدلالات وجودية وتاريخية تحاور شرعية الوجود العربي، طالما أن اللغة أساس الهوية ومؤشر الوجود بالفعل.

هكذا أريد للمتنبي (الشاعر) ألا يكون سوى صوت وصورة تتحطم، ومعها تتحطم صور أخرى في النص، أما المقصود بالمتنبي في عنوان الرواية «رباط المتنبي»، فهو البطل السارد نفسه، من باب بلاغة التورية، إذ يتجه ذهن المتلقي مباشرة إلى الشاعر، ويغفل عن معناه البعيد المقصود. وفي ثنايا المتن السردي ما يعزز ذلك، حيث إن كلمة «رباط» اقترنت بالراوي في عديد من الصور السردية، منها رسالة إلكترونية بعثت بها بشرى تخاطب الراوي: «امكث أنت في رباطك»25.

ومنها كذلك قول المتنبي في حوار مع البطل الراوي: «وهذا ما جعلني أقطع مراحل الزمان إلى هذا الرباط الذي أنت معتكف فيه، كي أتحدث من خلالك لهذه الجموع المكبة على وجوهها من غير هدى»26.

إن هذه الصورة إذ تعزز سمة التداخل بين الشخصيتين من خلال عبارة «كي أتحدث من خلالك..»، فإنها تشير إلى أن الرباط هو رباط البطل الراوي، وأن المقصود بصفة «المتنبي» هو البطل الراوي الوسوم داخل النص بالأستاذ. أما المتنبي (الشاعر)، فلم يجسد سوى حضور مقصود لمناظرة مع التاريخ، ومبارزة حول الأحقية بسمة «التّنبِّي»، وقد بين السارد فشل المتنبي وأعراض الفشل وأسبابه، في مقابل تفوق البطل الراوي ومظاهر التفوق وأسبابه.

لقد حاول الراوي أن يبلور سمة التنبي سرديا وسياقيا، ويفتقها من صميم صيرورة وليس ادعاء، تجلى ذلك من خلال سلك طرق العرفان، وإضفاء أجواء روحانية، والسفر الأثيري في الزمان والمكان، والانتقال من الذكرى إلى الفكرة بشكل سيميائي، وتكريس نمط للتحول قائم على الغموض والمباغتة، والاقتداء بالعقل والفكر، وغير ذلك، حيث إن حكاية المتنبي كانت تتضمن مخاضا، محايِثا، للذات؛ هو مخاض فكري وروحي تم التعبير عنه بشكل رمزي وهندسي غير مرئي، أقحم الرواية في معترك صوفي، تلمست الذات فيه سبل التعالي والتسامي. وبينما كانت صورة المتنبي الشاعر تتهاوى، كانت صورة المتنبي الأستاذ تتسامى، وكانت الأسماء والأشياء تكتسي أكثر من دلالة وأكثر من صورة وشكل. وفي الآن نفسه، تجاوزت الحكاية حدود الذات الفردية إلى مضمون تاريخي وعرقي، بحيث صار المتنبي كناية عن قوم وتاريخ، والبطل السارد كناية عن عرق وجغرافيا. وبذلك اكتسبت الرواية أكثر من وجه، وتقصَّدت أكثر من اتجاه...

هكذا يمكن القول؛ إن الرواية بُنيت في معترك حدين بلاغيين هما؛ بلاغة التورية وبلاغة الكناية، تجلت التورية في الأسماء والصفات والأماكن والأشياء، حيث تقمصت معان قريبة وأخرى بعيدة تفهم بالإشارة والإيحاء، فبشرى لها معنيان، وليلي كذلك، والمتنبي، كما رأينا، دل في معناه القريب على الشاعر، وفي معناه البعيد على البطل الأستاذ، والرباط دل على المدينة كمعنى قريب، وعلى مكان المرابطة كمعنى بعيد، وغير ذلك من مكونات النص. كما حملت ذات الأسماء والأماكن والأشياء دلالات كنائية ورمزية، منها المتنبي والجنون والحلم وفنيش وغيرها، مما أقحم الرواية في جدلية الظاهر والباطن، حيث إن ظاهر الحكاية شيء، وباطنها شيء آخر أبعد وأعمق.
لقد شكل المتنبي (الشاعر) موضوعة لحبكة خيالية أقرب إلى الحلم والهلوسة، وأكسب الراوي مساحة سردية حرة، واستطاع الكاتب أن يوهم القراء بأن المتنبي (الشاعر) هو بطل الرواية وبؤرة الحكاية، لكنه في الحقيقة كان مجرد قناع متغير، ورمز تم استغلاله للكشف والبوح وتمرير الرؤى والموازنة، بل وحتى المبارزة في استحقاق التنبي، وهي مبارزة تفوق فيها الراوي، أو على الأصح، أراد لنفسه أن يتفوق فيها، طالما أنه اللاعب الوحيد في رقعة السرد، حيث صور المتنبي بالطريقة التي أراد، وجعله ضيق الرؤية، عنصريا، معتدا بنفسه، شعره لم يعد يفهم، مدفوعا بالهوى، لا يمتلك آليات التنظيم، قوله لا يتأتى معه الفكر، لم يستطع أن يخلص قومه من الخرافة، وغير ذلك مما باح به السرد. غير أن المفترق بينه وبين البطل هو عالم نيتشه، حيث أعلن الراوي استحالة انتقال المتنبي إلى هذا العالم، وعبّر عن خيبة أمله فيه، إذ يقول: «كنت أعده نيتشه عربيا.. نيتشه من فصيلة أخرى يحقق الإنسان الأسمى.. يبرئ قومه من لعنة الميتافيزيقا والخمول والتواكل والتفسيرات الغيبية..».27

وفي المقابل، أكمل البطل الراوي الرحلة الأثيرية بعد أن فك ارتباطه بالمتنبي، وطار هو وجماعة المجانين إلى عالم نيتشه، وشارف صفة المخلص. تم ذلك في النص بكثير من الرمزية والطرق السرية، التي قد نقف على بعضها في مقاربة لاحقة، مما أكسب الرواية سمة الباطنية.

إنني لا أقصد بالباطنية هنا الباطنية المذهبية، بل أقصدها بوصفها سمة كونية وكلية تسم الأشياء كلها، موسومة بخصائص السر والإخفاء والمماثلة والترميز والخيمياء، والظاهر والباطن. وأروم من خلالها، مبدئيا، رصد مؤشرات الباطنية الفكرية والإيديولوجية والبنائية التي وسمت الرواية، قبل مساءلة بعض السمات فيما بعد.

إن الآليات التي توظفها الباطنية تتمثل في المماثلة والمطابقة والتناظر28، وغيرها. وقد سبق أن أبرزنا أن الراوي يقيم مماثلة بينه وبين المتنبي، تصل أحيانا حد المطابقة والتداخل والتماهي، ومعلوم أن المتنبي باطني، بمعنى أنه يطرق السبل السرية في الخطاب، وهناك دراسات عديدة تتحدث عن باطنيته، كما أن كاتب الرواية أورد أبياتا ومقاطع ذات حمولة باطنية، منها هذا البيت الذي يتحدث الشاعر فيه عن كتمه الأسرار:

وللسر مني موضع لا يناله
نديم ولا يفضي إليه شراب

وعلى هذا الأساس، فإن المماثلة بينهما وسمت الرواية بباطنية مضاعفة، حيث اتخذ الراوي المتنبي قناعا لتمرير جانب من خطابه والتعبير عن نواياه بكلام الشاعر، لكن بإحساسه ونبرته الخاصة. ولعل الاستشهاد الكثيف بشعر المتنبي في سياقات عديدة، معظمها ذاتية وسياسية، كان من باب التعبير الباطني، ونجد في النص ما يشير إلى ذلك، إذ يقول الراوي في سياق مونولوج موجَّه، من داخل حوار مع المتنبي:

«غريب أن يفكر فيما أفكر فيه، ويشاطرني أحكامي والأسوأ حالي، ويعبر عن ذلك بلساني».29

ولعله لا يخفى ما تفشيه هذه الصورة السردية من مماثلة وتناظر بين البطل الراوي والمتنبي تبلغ حد التماهي، على اعتبار أن أحدهما يعبر بلسان الآخر، وبالتالي تتأكد فرضية أن كلام المتنبي يستعمل للتعبير عن نوايا البطل.

ثم إن الراوي بدا في النص يصرح، في أكثر من سياق، بأن كل شيء له ظاهر وباطن، ففي سياق حديثه عن قصيدة «شعب بوان» وتأويله لها، يقول: «لم تكن القصيدة تأسرني لحسن تصويرها، بل لما توحي إليه، وهو ضامر خفيّ (...) ذلك الظاهر، أما الباطن فهو حديثه عن نفسه».30

إن هذه الصورة، وغيرها كثير، تكشف أن الراوي منجذب إلى الضامر والخفي والباطن، أي أنه يسلك طريق العرفان للوصول إلى المعاني العميقة، بمعنى أنه باطني التفكير ولا يكتفي بالسطح والقشور. ومثلما أن باطن القصيدة هو حديث الشاعر عن نفسه، فإن المماثلة تقتضي أن النص هو حديث الراوي عن نفسه كذلك، يبدو ذلك جليا عندما نُمعِن في سياق الصورة كاملا، حيث يتبين أنه يمزج انطباعاته بمعاني القصيدة.

إلى جانب ذلك، يستشعر القارئ، خلال قراءة الرواية، أن الكاتب أحاط كثيرا من جوانب حكايته بسياج السر والإخفاء، حتى لنعجز عن مجاراتها أحيانا، وعن صياغة مقولات منطقية منسجمة مع ما نقرأ، بفعل كثرة التلميح وكثافة الأسئلة المتنوعة والمتكررة والمداوِرة أحيانا، عن الفكرة والذكرى، والدال والمدلول، والعلة والمعلول وغير ذلك، وكأننا أمام أحجيات غائرة تجعل القراءة السطحية عاجزة عن تلمس القصد، بالأحرى المقصدية، من ذلك مثلا قول الراوي: «هل انتقلت بشرى من الذكرى إلى الفكرة؟ ومن الجسد إلى الروح؟».31

صحيح أن السؤال هنا ورد في شكل مونولوج، لكنه موجَّه، يناور القارئ، إذ يشعر أنه معني به وبفك لغزه، وهي في الحقيقة ألغاز كثيرة ومتكررة بإلحاح مقصود، جعل الخطاب في بعض مفاصله أقرب إلى الحوار السقراطي، بما يتضمنه من سخرية وتوليد، إذ يحث على الفهم، علما بأن البطل الراوي صرح في أكثر من مناسبة سياقية، بأن علة الناس هي انعدام الفهم أو سوء الفهم، حسب ما نقرأ في الصورة الآتية، في حوار بين الراوي وخادمته محجوبة بعد أن ضبطها تسترق السمع خلف باب المكتب حيث كان المتنبي يترنم ببعض شعره، إذ يقول: «شائن أن تسترقي السمع. ثم أنت تستمعين لِما لا تفهمين وقد تسيئين فهمه ومن ثمة تأويله، كما يفعل غالبية الناس عندنا، يسارعون في التأويل عن جهل..».32

ولعل هذا الإلغاز والإخفاء الذي امتطاه الكاتب، يدخل في السر الباطني، علما بأن السر هو اللامعبر عنه، والحالة الغامضة المتعالية عن الوصف، لذلك فإن الإدلاء به إلى العامة فتنة لهم.33 وهذه هي حالة هذه الرواية، إذ تبدو مستعصية، عناصرها غامضة ومتقلبة الدلالة، تزج بالمتلقي في متاهات دلالية وتأويلية لامتناهية ومستعصية على أهل الظاهر، كأنّ سرا يقود إلى سر، من قبيل بشرى ودلالاتها وتحولها السيميائي إلى ليلي، ودلالات هذه الأخيرة، وكذا دلالات موتها وبعثها المأمول، ناهيك عن دلالات فابيوس أو سامي، والذكرى والفكرة والحلم، وغير ذلك من مظاهر الإخفاء والخيمياء والسيمياء، التي هي من ملامح الباطنية،33 إلى جانب أسرار التسامي الذي تميزت به صورة البطل الراوي.

ولا يفوت قارئ الرواية أن يلاحظ بأن الراوي كان كثير التعريض بأهل الظاهر، من ذلك مثلا، قوله في حوار مع محجوبة بعد أن أنكرت وجود بشرى وأعلنت أن الدار مسكونة:

«- الدار مسكونة يا سيدي

رددتُ:

- طبعا مسكونة. لأنك لا تنظرين إلا إلى الظاهر كالسواد الأعظم.».34

إلى جانب كون الصورة تستبطن إشارة إلى «العامة» و«الخاصة»، من خلال عبارة «كالسواد الأعظم»، فإن فيها تلميحا إلى الرؤية الباطنية لدى البطل الراوي، على خلاف أهل الظاهر الذين يقيسون الموضوعات الروحية بطريقة قياس الموضوعات الحسية، في إشارة إلى أنهم يعانون عمىً روحيّاً. ثم إن محجوبة تعبر عن هذا العمى، حيث يوحي اسمها بالسرية، ويضعها ذلك في مرتبة وجودية لا تتجاوز عالم الحجاب والأشباح، هي و«السواد الأعظم»، على خلاف البطل الراوي الذي أومأ كلامُه إلى أنه يتجاوز ذلك العالم، إلى عالم الكشف والأرواح. وقد جاءت صورته متسمة بالرؤيا والإشراق والاستبصار، في صور منها قوله في أحد سياقات بوحه تحت الحقن: «... فبِمَ تؤاخذونني عليه؟ ألأنني أعيش في أزمنة متعددة، أو أزمنة متعددة تعيش في؟ ألأني لا أكتفي بالنظر، وأذهب أعمق من البصر إلى البصيرة؟ وبالمشاهدة أرى.».35

ومن مشيرات الباطنية كذلك، ما اعترى الرواية من تناقض، من قبيل تحول الشخصيات والأماكن، والارتداد في الزمن، والخروج غير المقنع، سياقيا، للمجانين من المصحة، وظهورهم بلباس البحر وقد هربوا في الخريف، إضافة إلى بعض التناقضات على مستوى الحبكة، منها مثلا تصريح البطل الراوي بأن المتنبي هو الذي اختاره، ثم يقول في القسم الثاني بأنه هو من اختار المتنبي، وكذا تحريف سيرة الشاعر إذ صوره الراوي زير نساء، وهو أمر لم يُعرف عن المتنبي، وكذلك التناقض في ميل البطل الراوي إلى غرامشي واعتداده بنيتشه رغم حدة الاختلاف الفكري والوجداني بين الرجلين، وغير ذلك مما لا يتم تقبله عقلانيا، غير أن «العرفان الباطني يفترض ذلك التناقض ويتقبله، كما يتقبل التداخل بين الأزمنة والسفر في الزمن والتعايش بين الماضي والحاضر...».36

إلى جانب ذلك، نجد أن الخيال في النص لم يكن مجرد أداة للتخييل والسرد، بل أداة لإنتاج المعنى وفق مواضعات سرية خاصة، وكذلك أداة أنطولوجية قائمة على الرؤيا الشهودية الممتدة والحكايات والرموز المحايثة للمضمون المحكي، من قبيل الحديث عن الحاكم بأمر الله وأشباحه، والحديث عن الميل إلى أتاتورك بدل النورسي، والحديث عن الشامبر نوار، وعن الصور العشر التي أرسلها المجانين، وكذلك الرسائل السبع، ورمزية الجزيرة، ورمزية الأرقام؛ ما ظهر منها وما بطن...، كل ذلك وغيره، يحمل ترميزات تناصية باطنية. كما أن الزمن جاء منكسرا، وهو خاصية باطنية كذلك، حيث إن زمنها «منكسر، مرتد، يلغي الزمن الوضعي الطبيعي الذي هو زمن الظاهر»37. ومؤشر ذلك أن البطل الراوي يسافر في الزمن، ويجالس الغابرين، ويمتد في التاريخ، ويتحدث من خلاله. من ذلك قوله في سياق حديثه مع الدكتورة خولة: «لعل اللغة العربية أن تكون لك أمّاً، أما أنا فهي لي زوج. زوج اقترنت بها لزهاء أربعة عشر قرنا».38

هذا الامتداد للراوي في الزمن «أربعة عشر قرنا»، فيه إيحاء بدلالة تاريخية باطنية، تشير إلى أن الأمر يتجاوز البطل الراوي والمتنبي إلى سياق تاريخي أرحب؛ من باب الإسقاط، بحيث ينعكس الذاتي في التاريخي، والتاريخي من خلال الذاتي، كأن النص مسرح مرايا تبوح بمطابقات خفية، مما أكسبه همسا حواريا مع التاريخ، يلقي بظلاله الشاسعة دون أن يكون ماثلا بوضوح.

تلك كانت سمات الروائية و بعض ملامح الباطنية في النص، تفاعلت وأنتجت رواية متعددة الوجوه، يسندها ثلاثة رواة، الراوي الذاتي في القسم الأول، والراوي الموضوعي في القسم الثاني، والصوت الثالث هو صوت الكاتب الذي كان يدير اللعبة السردية، توارى في البداية في وعي البطل، ثم في لاوعيه أثناء الحقن، وكان صوته الباطني أكثر صخبا وتنبيرا، يحيك في صمت خيوط رموز ودلالات باطنية.

صحيح أن عديدا من الرموز والدلالات ظلت مبهمة في هذه القراءة، وهو أمر أملته الطبيعة الخيميائية والسيميائية لمضامين المحكي، إذ كل شيء يوجد في كل شيء، وكان صعبا تعقب كل الأشياء دفعة واحدة، نظرا لتشابكها وتنوع روافدها وخاصياتها البنائية. لذلك أرجأت بعض الأمور لجزء آخر أو أجزاء أخرى من القراءة، تتعلق بسمات الباطنية وتشكيلها. على اعتبار أن القراءة بالسمات تخوض غمار التبرير السياقي ولا تحتمل المجازفة أو التخريجات الكيميائية، ثم إنها قراءة موضعية تسعف في النظر إلى التشكيلات الجمالية للبناء الروائي وأسراره الإيديولوجية من جوانب متعددة ومتكاملة، تستطيع أن تستنطق كثيرا من الأسرار والترميزات الباطنية في النص...

الهوامش:

حسن أوريد، رباط المتنبي(رواية)، المركز الثقافي العربي، ط 1- 2019، ص:61.
نفسه، ص:61.
عن ميخائيل باختين، الخطاب الروائي، ترجمة: محمد برادة، دار الفكر للدراسات والنشر والتوزيع، ط1، القاهرة- 1987، ص:13.
رباط المتنبي، سابق، ص: 132.
الخطاب الروائي، سابق، ص: 38- 39.
محمد أنقار، بناء الصورة في الرواية الاستعمارية- صورة المغرب في الرواية الإسبانية، مكتبة الإدريسي، تطوان، ط1- 1994، ص: 175.
الهجاء المينيبي نوع شاع في القرن الثالث الميلادي، كتب باللغة اليونانية، مزج بين الشعر والنثر، واشتهر بالنقد اللاذع والهجاء الساخر (عن ميخائيل باختين، الملحمة والرواية- ترجمة: جمال شحيد).
رباط المتنبي، سابق، ص:314.
نفسه، ص: 235.
نفسه، ص: 243.
أبو القاسم الحسن بن حبيب النيسابوري، عقلاء المجانين، دار النفائس، بيروت، ط1- 1987، ص:30.
نزار بريك هنيدي، شخصية المجنون ودلالاتها في أدب جبران، معابر (maaber.org).
رباط المتنبي، سابق، ص: 255.
نفسه، ص: 299.
نفسه، ص:14.
نفسه، ص: 117.
نفسه، ص: 117.
نفسه، ص: 86.
نفسه، ص: 104.
نفسه، ص: 194.
قيصر زحكا، رمزية الأرقام في الحياة النفسية والعصبية، موقع معابر.
رباط المتنبي، سابق، ص: 253.
نفسه، ص: 251.
نفسه، ص:174.
رباط المتنبي، سابق، ص: 29.
نفسه، ص: 15.
نفسه، ص:213.
محمد البوغالي، من نظام المماثلة إلى فوضى المطابقة: مأزق التأويل العرفاني، مؤمنون بلا حدود، ص: 2.
رباط المتنبي، ص:161.
نفسه، ص:44.
نفسه، ص:154.
نفسه، ص:40.
أحمد دعدوش، الغنوصية والباطنية، (al-sabeel.net).
رباط المتنبي، ص،128- 129.
نفسه، ص:215.
من نظام المماثلة إلى فوضى المطابقة، سابق، ص: 21.
محمد البوغالي، الباطنية بين الفلسفة والتصوف، دار النشر فضاء آدم، المطبعة والوراقة الوطنية، ط1- 2016، ص: 117.
رباط المتنبي، سابق، ص: 113.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى