الأربعاء ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٧
بقلم أسامة عبد المالك عثمان

سؤال في الهوية

في الفكر الإنساني فاعليتان، الأولى هدم وبناء، والثانية الإضافة. ومن المعارف السابقة حقائق يبنى عليها حتى يصح التراكم المعرفي والحضاري.

انطلاقا مما سبق، أطرح السؤال، كيف نحدد علاقتنا بذاك الفكر السابق؟ وفي الاشتباك معه، أقول: إن لكل أمة خيطها المتصل المشدود إلى نبع الهوية ومكوناتها، وملامح شخصيتها، فإما أن ترتضيه، أو تتنصل منه، باحثة عن هوية جديدة. أمّا أن تقف حائرة مذبذبة، تتجاذبها أمواج الفكر... فقد تصبح كذاك الطائر الذي حاول أن يغير مشيته. والسؤال، متى يصح التغيير ويطلب؟ وما الذي يطاله التغيير من مكونات الأمة؟

لعل من نافلة القول أن نذكر أن التغيير يصبح تدميرا سلبيا حين يطال العناصر الصالحة الفاعلة، ولا يخفى أن التعامل مع الهوية أعقد من التعاطي مع القضايا المنفردة ذات البعد الواحد، ذلك أنها نسيج ومنظومة وأنساق تتمظهر في الخارج، وله عمقها في الداخل، وبعدها في جذور النشأة والتكوين.

فإما أن يثبت عقمها وإفلاسها، فتدمر نواتها، وتبعثر تلك الكتلة الصلبة، وإما أن تستخدم فاعلية الإضافة والمراكمة. والقرار لا ينبغي أن يستسهل، أو يخضع لردود الأفعال، أو النزق الشخصي، أو الانهزامات الفردية، لأن ذلك إن صلح مع الإنسان الفرد، ولا أظنه يصلح، فإنه يكتسي الصفة الكارثية العظمى، مع كيان الأمة.

وليس هذا الكلام بدعا في تاريخ الأمم وحاضرها، فأوروبا والغرب لم يعلنوا قطيعة مع جذورهم الفكرية والفلسفية،وأوضح مثال على ذلك الديموقراطية اليونانية الأصل. أما في حالتنا العربية المعاصرة، فقد دفعت حالة الانحدار التي اعترتنا منذ ما عرف بالفترة العباسية الثانية، انتهاء بوقوعنا تحت الاستعمار المباشر، أواخر الدولة العثمانية، دفعت تلك الحالة إلى حالة أخرى من الاستلاب.

لقد أدى وقوع العرب تحت التأثير الغربي المباشر، من خلال الاحتلال الفرنسي لمصر عام1798م إلى شعور قسم من المفكرين بهزة قوية، وقفت أمامهم الحضارة الغربية مثالا غالبا، أولع بتقليده المغلوب، وتمظهر ذلك التأثير في مظهرين، أحدهما أوضح من الآخر، وهو الداعي إلى التماهي في ثقافة الغرب، يمثله طه حسين ولطفي السيد، وآخر لم يجهر بما جهر به الأول، ولكنه همس محاولا التوفيق بين ثقافة الأمة والثقافة الجديدة، وأبرزهم رفاعة الطهطاوي وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وعبد الرحمن الكواكبي. وقد خط كل فريق له في مستقبل الفكر العربي خطا ممتدا، لكن الواقع أعضل الفريقين وأعياهما، فلا العرب قبلوا الاندثار أو الانحلال، ثم التشكل، ولا محاولات التوفيق أفلحت في إحداث التقارب مع الغرب، أو في إنهاض العرب.

وأنتجت هذه الحالة الصعبة والخطرة ضياعا وفقْداً تحياهما الشعوب العربية اليوم، تتجلى في فئة الشباب، في وقت استأثرت فيه المؤثرات الغربية بالنصيب الأوفر من التأثير الفاعل المنظم بتقنية عالية، وراحت آلة العولمة الثقافية والإعلامية تحرث في أرض العرب، فتقطع تلك الجذور السطحية، وتعزق فيها من بذورها.

والآن تحل في أوساط عربية قيم الحرية الشخصية بمفهومها الغربي محل الحفاظ على الشرف والعرض، والنفعية الفردية والمداجاة والتذبذب مكان الروح الجماعية والأنفة، وسادت ثقافة عدوانية قاسية بدلا من التراحم ونصرة المظلوم، وإغاثة الملهوف وقرى الضيف... وقد كان للأنظمة الاقتصادية والقيم الاجتماعية والأخلاقية التي تفرزها النظم السياسية الحاكمة إسهام فاعل في تكوين تلك الصفات السلبية التي تنزلت من البعض منزلة الطباع!

وفي علاقة الشعوب العربية بحكامها اليوم خنوع ولا مبالاة وانكسار، وأحيانا نفاق ومداهنة وتملق، يقول ابن خلدون في المقدمة: "... وأما إذا كانت الَملَكة وأحكامها بالقهر والسطوة والإخافة فتكسر سَوْرة بأسهم وتذهب المنعة عنهم، لما يكون من التكاسل في النفوس المضطهدة" [1]

أفرزت تلك الحالة شعورا بالإحباط تسرب إلى النماذج والقدوات، فانسحب جمهرة من الآباء والمربين من مسؤولياتهم، وتخلوا عن أدوارهم، فاستبدت بالأبناء مؤثرات الإعلام الغربي والتابع له، فملأت الفراغ، وأصبح التلفاز والانترنت والفيديو كليب آباء وأمهات، يملأون لهم فراغهم المعرفي والعاطفي، ولم ترحم تلك الوسائل، أو تقتصد، بل أسرفت وأفرطت، وتسارعت وتائر التغريب وتصاعدت جرعاته.

ولهذا لم يكن مستغربا أن تمتلك بعض المحطات التلفزيونية الفضائية موارد تفوق ميزانيات بعض الدول النامية. وبخصوص ظاهرة الفيديو كليب، يلحظ المتتبعون لها احتواءها على نسبة عالية من المادة الإعلامية التي تروم إثارة وتغريبا. وفي بحث للباحثة المصرية الدكتورة ثريا البدوي "اتضح أن 77% من أغاني الفيديو كليب مليئة بالإيحاءات الجنسية و70% بالتغريب. وأن 100% من الشباب العربي يشاهدون نانسي عجرم وأليسا رغم رفضهم لهما، إلا أن 99% من الشباب أكدوا أننا مجتمع له شخصيته" [2].

وفي هذه النتيجة بعض المفارقة إذ تظهر أن البنية العميقة في أولئك المتلقين لثقافة الفيديو كليب ما زالت متماسكة، لكن السلوك الخارجي يخالفها، الأمر الذي يعزز القول بحالة الاستلاب التي يعاني منها قسم من الشباب العربي، وأنهم قد شغلوا موقع المتلقي السلبي. وكان من نتائج ذلك وقوع أولئك المتلقين ضحية الاضطراب الاجتماعي، وعدم الاستقرار، وتنمية الروح الفردية والاستهلاكية، والهروب من مواجهة الواقع، والانبهار بالموديل الأجنبي.

وهنا نتساءل، أين نتجه؟ هل نمضي في هذا الاتجاه، أم نتوقف لنعيد النظر؟


[1ص: 89- دار ابن خلدون

[2موقع عشرينات الإلكتروني


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى