سبعة وستون عاما على النكبة
قد يظن البعض أن النكبة الفلسطينية محصورة في اليوم الخامس عشر من شهر أيار / مايو 1948. وحقيقة الأمر أن هذا اليوم في التاريخ الفلسطيني الحديث قد أصبح عنوانا ومدخلا إلى النكبة الفلسطينية التي ابتدأت فعليا قبل هذا التاريخ، و هي لم تقف عنده، وتجاوزته بتداعيات وإفرازات كارثية، أضيفت الى سجلها طيلة ما تبقى من القرن العشرين المنصرم، لتدخل القرن الحادي والعشرين وما زالت مفتوحة على المزيد من المآسي.
يمكن القول إن الإعداد للنكبة الفلسطينية، قد بدأ في نهايات القرن التاسع عشر وتحديدا في العام 1897. إلا أن العام 1917 وهو العام الذي أصدرت فيه حكومة بريطانيا العظمى على لسان وزير خارجيتها آنذاك اللورد بلفور وعده المشؤوم في الثاني والعشرين من تشرين الثاني / نوفمبر لذلك العام، فقرع بذلك أجراس النكبة الفلسطينية التي ما زالت تقرع حتى الساعة.
غداة هذا الوعد المشؤوم، احتلت بريطانيا العظمى في العام 1918 فلسطين، وفرضت عليها انتدابها. وعلى مدى ثلاثين عاما من انتدابها هذا، عملت الحكومة البريطانية على ترجمة وعد بلفور على أرض الواقع. فكانت والحق يقال سياسات بريطانيا في فلسطين هي المسؤولة مباشرة عن كل ما حل بالشعب الفلسطيني الذي صحا صبيحة الخامس عشر من أيار 1948 على حدثين خطيرين. الأول إعلان بريطانيا أنها أنهت انتدابها على فلسطين، وأوكلت أمرها للأمم المتحدة. والحدث الثاني هو إعلان قيام دولة إسرائيل.
لقد جسد الخامس عشر من أيار 1948 النكبة الفلسطينية، وأعطاها بعدا كارثيا خطيرا، تمثل في اقتلاع الشعب الفلسطيني من وطنه التاريخي، حاملا معه مأساة قلّ نظيرها في التاريخ الإنساني، ليضع تعريفا مفتوحا لمفهوم النكبة الفلسطينية يتسع لمزيد من الإضافات الكارثية.
وهكذا فإن النكبة الفلسطينية ابتدأت بالفعل يوم أصدرت بريطانيا وعد بلفور في العام 1917، وما تبعه من سياسات مارستها على مدى ثلاثين عاما من انتدابها لفلسطين، عملت خلالها على إضعاف الفلسطينيين وقهرهم من خلال منظومة قوانين تعسفية فرضتها عليهم، في حين أنها بسطت يد العون للطرف الآخر من الصراع الفلسطيني الإسرائيلي، وأقلها فسح المجال أمام الهجرات اليهودية المتوالية.
في الخامس عشر من أيار 1948، أعلنت بريطانيا إنهاء انتدابها على فلسطين، إلا أنها زرعت في أرضها بذور مأساة انسانية كبرت مع الأيام، وخرجت إلى أبعد من جغرافيا فلسطين بكثير. ومن رحم هذه المأساة ولدت القضية الفلسطينية التي نفضت بريطانيا يدها منها، وكأن الفعلة النكراء هذه لم تقترفها أيديها. وعلى مدى سنوات النكبة أدارت ظهرها للفلسطينيين، فلا حكوماتها العمالية، ولا تلك المحافظة حاولت مرة أن تحاسب نفسها، أو أن تنقذ ما يمكن انقاذه تحت ظلال هذه الكارثة التي صنعتها سياستها الإستعمارية.
وإذا كانت الحكومات البريطانية قد التزمت جانب نفض الأيدي والهروب من المسؤولية، والصمت في كثير من الأحيان فيما يخص القضية الفلسطينية، فإن حكومة العمال الحالية، لم تكتف بما فعله أسلافها، فربطت نفسها بسياسات الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش المعادية للفلسطينيين.
لقد تغاضت بريطانيا عن مسلسل المآسي اليومية التي يفرزها الإحتلال الإسرائيلي لكامل التراب الفلسطيني، وبدل أن تتفهم حقيقة مشاعر الإحباط واليأس وخيبات الأمل التي غرق الفلسطينيون في مستنقعاتها، الأمر الذي دفعهم للنضال من أجل استعادة حقوقهم التي كفلتها لهم قرارات الشرعية الدولية، فوجىء الفلسطينيون بانضمام بريطانيا بالذات إلى جوقة المعادين لقضيتهم العادلة، الناكرين لها، الذين يدينون هذا الحق المشروع، ويصفونه بأعمال عنف وإرهاب.
واذا كانت هذه هي خلاصة السياسة البريطانية، فان مواقف الاتحاد الاوروبي التي تبدو في الظاهر أنها مغايرة للسياستين البريطانية والاميركية فيما يخص القضية الفلسطينية، الا انها في الحقيقة تنبع من مصالح لا مبادىء، وأنها في كثير من الاحيان تأخذ في الحسبان الحفاظ على مستوى علاقات لا تغضب كلا من أميركا واسرائيل. وعلاوة على ذلك – وهذا هو الأهم – فالاتحاد الاوروبي لا يتفهم كنه ما يناضل الفلسطينيون من أجله والذي يصفه في احيان كثيرة بأنه ضرب من العنف والإرهاب منساقا بذلك وراء مفاهيم السياسات الاميركية والاسرائيلية المعادية، وليس موقف الاتحاد بأفضل منه في اللجنة الرباعية.
وباعتبارهم متحضرين، وعلى قدر كبير من المسؤولية واحترام القوانين الدولية، فقد عول الفلسطينيون على الشرعية الدولية المتمثلة في الأمم المتحدة من خلال مؤسستيها الرئيستين " مجلس الأمن الدولي والجمعية العمومية ". وفي كل المرات أثبتت كل تجارب الفلسطينيين أن الامم المتحدة بكل مؤسساتها تعمل وفق آليات هيمنة الدول الكبرى عليها، وتحديدا الولايات المتحدة، وليس أدل على ذلك من الفيتو الاميركي الذي يقف للحق الفلسطيني بالمرصاد، ومن قبله ذلك الكم الهائل من القرارات الصادرة التي ظلت حبرا على ورق. انها بلا شك شرعية القوة لا قوة الشرعية.
في الذكرى السنوية السابعة والستين للنكبة الفلسطينية، فان الحديث عن سياسات الولايات المتحدة التي نصبت نفسها راعيا للعملية السلمية، يثير شجونا وأشجانا لا حدود لها. ان الفلسطينيين قد أصبحوا على إدراك تام أن سياسات الادارات الاميركية مخادعة، ومثالا لا حصرا خدعة رؤية الدولة الفلسطينية التي مضى عليها سبع من السنين العجاف، وما زالت دون تعريف لها ولا تحديد لمعالمها. وها هي خارطة الطريق، وها هو لقاء أنابوليس. وغيرها الكثير الكثير. إلا أن المحصلة واحدة المزيد من التسويف والوعود الكاذبة والمماطلة واللعب في الوقت الضائع.
إلا أن الأخطر في السياسة الاميركية ما فعله الرئيس الاميركي الذي أدخل عليها نقلة نوعية، فأضاف اليها عناصر جديدة معادية الى أقصى حدود للقضية الفلسطينية، فأراد أن يكون " بلفور الثاني "، فأعطى وعده المشؤوم لشارون يوم كان رئيسا للحكومة الإسرائيلية بافراغ هذه القضية من مضامينها، فألغى حق العودة، وأباح الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين بما فيها القدس، ومنح الاستيطان الإسرائيلي القائم على الأراضي الفلسطينية المغتصبة صك الشرعنة الاميركية.
عربيا وإسلاميا، فبعد سبعة وستين عاما يتذكر الفلسطينيون أشقاءهم العرب والمسلمين الذين كانوا شركاء حقيقيين، يوم كانت فلسطين قضيتهم الأولى انطلاقا من انها ليست كأي قطر آخر باعتبارها جزءا لا يتجزأ من جغرافيا التاريخ والعقيدة الاسلاميين، وان القدس بأقصاها المبارك وصخرتها المشرفة ليست ملكا للفلسطينيين وحدهم، وان حق الدفاع عنها يفترض ان يكون على كل عربي ومسلم.
اليوم وبعد سبعة وستين عاما هي عمر النكبة، فقد الفلسطينيون العمقين العربي والاسلامي، وأصبح الشركاء على السراء والضراء لا مبالين ولا مكترثين أو أنهم متفرجون صامتون على ما يجري في أرض الإسراء والمعراج، أو أنهم متعاجزون عن فك الحصار عن الشعب الفلسطيني. ورحم الله عهد اللاءات والمقاطعة والثوابت القومية التي أصبحت شيئا من الماضي، ورحم الله تلك الحمية والشهامة والنخوة التي انطفأت جذوتها، وأصبحت رمادا تذروه رياح التقوقع والانقسام في مذبح التطبيع والدوران في فلك السياسة الاميركية.
على صعيد النزاع الفلسطيني الاسرائيلي، وبعد سبعة وستين عاما، فقد تمكنت اسرائيل من زرع ما تبقى من الأرض الفلسطينية بالمستوطنات، واقامت الجدار الفاصل، وقطعت أشواطا بعيدة المدى في تهويد القدس، وصادرت كل ما تريده من الارض ما عليها وما فوقها وما تحتها، بعد ان قطعت اوصالها، وعبدت شبكة الطرق الالتفافية الاستيطانية، ونصبت النقاط والحواجز الامنية والحدودية. وها هي تصول وتجول في الأراضي الفلسطينية، تجتاح، تعتقل، تقتل، تهدم، تجرف كما يحلو لها.
في ضوء هذا المشهد المأساوي، قد تظن إسرائيل ومن يقف وراءها أن الستار قد أسدل على القضية، وان كل شيء قد انتهى، متوهمة أن تسوياتها وحلول مشكلاتها الامنية مع الآخرين وليس مع الفلسطينيين، وأنها بعد سبعة وستين عاما على النكبة وغياب السلام والأمن والأمان عن المنطقة ومساحة شاسعة من العالم تتجاهل أن هناك عنصرا واحدا ووحيدا لاستتباب السلام وعودة الأمن والأمان، وهو بلا أدنى شك الحق الفلسطيني الذي اغتيل يوم الخامس عشر من أيار 1948.
إستكمالا، ودائما على الصعيد الفلسطيني، وهو الاهم. سيظل الخامس عشر من ايار أبجدية نكبة محفورة حروفها على جدار الذاكرة الفلسطينية، وحكاية أرض سليبة وشعب منفي عن وطنه التاريخي، وشعلة اصرار على استرجاع الحق لا يخمد لهيبها مهما طال الزمن وتراكمت التحديات وتعاظمت. والشعب الفلسطيني في أيار / مايو 2008، وفي كل أيار / مايو آمن وما زال يؤمن – وان وقع فريسة الاحتلال – انه لم يهزم وان عدوه لم ينتصر عليه.
كلمة أخيرة. اذا كانت النكبة مسلسل آلام واحزان لاينتهي، فثمة حقيقة لا ينبغي ان تغيب عن بال أي طرف كائنا من كان، مفادها ان ثوابت القضية الفلسطينية هي الاخرى مسلسل لا تنتهي فصوله. إنها حق يأبى النسيان، ما دام خلفه مطالب.
غداة النكبة، قال القادة السياسيون الاسرائيليون يومها عن الفلسطينيين: " الكبار سيموتون، والصغار سوف ينسون ". وها هي النكبة تدخل عامها السلبع والستين، واذا كان الكثيرون من الكبار قد ماتوا، فان اجيال الصغار جيلا بعد جيل لم تنس، ولن تنسى. ان النكبة ذاكرة شعب، ذاكرة وطن، لا تقوى الايام على اطفاء شعلتها مهما اشتدت اعاصير التحديات، وطال الزمن. ولا يزال مفتاح الدار التي سلبت ذات يوم، إرثا تتناقله الأجيال، وأمانة في الأعناق.