الخميس ١٧ حزيران (يونيو) ٢٠١٠
بقلم زياد الجيوسي

سوسنِة الكرمل

أنا هو من يحتضنك ويأتي (من بيروتَ يركضُ وراءَ الغيمِ)، يقبّلكِ بشوق وحب، فأحلق بكِ على قمة الكرمل، نرقب البحر معاً، وأهمس لكِ: (بين سوسنِة الكرملِ والبحر عِشق قديمٌ)، فلن نقبل أبداً أن تكون (مرثية الوطن لنا)، بينما (على شاطئ طبريا ينبتُ القمحُ)، وهو لنا تنبته أرضنا رغماً عن تسلل الغرباء، فتعالي إلى البحرِ و(واصلي العومَ يا سوسنةَ الكرملِ)، فأنتِ وحدكِ حبيبتي التي (فردت ظِلها على شاطئ حيفا وغَفت)، وقبل أن تغفو همستْ بأذني: (لن تُقتلَ بعطرِ الليلِ، لن ترحلَ مسكوناً بالحُمَّى)، وستواصلَ رسم الكلماتِ وتصرخ في وجه العتمةِ، ويبقى (صوتك زنبقةً) رغم أن (كلَّ الحرابِ استقالت)، فأنت عاشق الوطن، وسيد الحب الذي (يستحمُّ بماء الوردِ)، تقف في وجه الظلمة وصرير الريح (وأنتَ مسكونٌ بارتعاشةِ فراشةٍ)، رغم الذي تخلى عنكَ وهو أقرب من نفسك إلى نفسكِ، حين التهمت روحه مساحات العتمة، ولم يعد (شمعة مضيئةً)، فتعال إليّ وواصل ابتسامتك (ما أنا إلا أنثى)، فتعال أضمك وأسكنك صدري لعلك تسلو (فلو شئتَ خذ نُوري إليكَ)، وضُم جرحكَ بصمتٍ (لم يبقَ للجرحِ سِوى وَحدَةِ المساءِ).

تواصلين همساتك التي تسللت إليّ في هذا الصباح الناعم، حين كانت روحي تجول الأمكنة في الوطن والمنافي، فتهمسين: (للحُلم أن يختار المكان)، فواصل حلمك، لا تتوقف فأنت كنحلة تحلق بين الأزهار، وذات يوم (للنحلِ أن يجني شَهدَ الأيام)، فأنتَ من تسكن مني الروح، وتسري كعبق ياسمينات رام الله في شراييني، فلا تقلق (لن أموت بِعِطرِ الليل.. لن أموت بحزني)، حتى لو بقيت (أمشي مثقلةَ الأهدابِ)، وسأبقى أحلم بلقائكَ (فالحلمُ فارسٌ مجهولٌ)، وأنا (لن أستسلمَ للصمتِ)، وسأصرخ في وجه الغيمات المعتمة، طالما أنت معي ترافقني وتضمني في سهول الوطن والتلال، (وأنتَ كالريحِ تمشي على وجعي)، ترافق روحي رغم المسافات والبعد، تقطف لي شقائق النعمان من تلال أريحا، وتزرع شعري ياسمينات رام الله، وتسكب بحر حيفا في عينيّ (وأنا كزهرةِ ليلكٍ يبتلعني خجلي)، فأغمض عينيّ وأضمك لصدري، حيث أنت وحدك من تسكنه.

هل أعتذر لك عن الغيابِ وبُعد المسافات؟ لكن (ما نفعُ الإعتذارِ يا سيد الحُلمِ)، فدعني أحتضنك على قمة الكرملِ (وأعلنَ أنَّي أهواكَ، وأن العمرَ يمر بدونكَ؛ سراباً وانكساراً لإحساسٍ مرير)، وحين تجول فيء زيتونات جيوس بلدتك، (استحضِرني؛ لألقي عليكَ الهمسَ)، وفي أمسياتك الباردة وليالي الوحدة التي تستولي عليك، (استحضِرني؛ فالوسادتُ خلت من عِطر النساءِ)، وما زلت أراكَ في روحي من البعيد البعيد (ويداكَ ما زالت تبحثُ عن ملمسِ الحريرِ)، وأراكَ على شواطئ يافا وحيفا وعكا، (أرى وجهكَ يستحمُّ بزبدِ البحرِ)، وأسمعكَ (ينادي صداكَ.. ينهي مسافةً كانت بيننا).

(أيها الجلادُ الذي تنامُ قريرَ القتلِ)، لن تحرمني من لقاء وطنٍ أحلم به، ولا من لقاء ساكن الروح، ولن تحرمنا سلام أرواحنا وأرضنا التي نحلم مهما طال الوقت، فأنت مغتصبٌ (وأكبر اغتصابٍ؛ غصن زيتونة من فم حمامةٍ)، وسأجول وطني وإياه حبي، تلال وبراري، نتطهر في بحر يافا، فأنا (كلما أشعلتُ شمعةً؛ عزف فؤادي على آثارٍ تندثر وسط الزحام)، وأرضي اعتادت طرد الغزاة، فأنتم (موجةُ تغيبُ، وأخرى تأتي..) ويبقى وجودك الأسوأ عبر التاريخ (كمخرزٍ أنت في الذاكرةِ)، ويبقى الكرمل (في القلبِ لحظةً هاربةً من يدِ الزمان)، ووطناً يرضعنا بالحضور والغياب (كيف تعشقُ النجمةُ وجه السماءِ)، والكرمل يعلمنا (كيف يتعطر الغصنُ برائحة المسكِ)، ويافا تنقش على أرواحنا (كيف يصيرُ المطرُ عاشقاً).

أما أنت أيها البعيد القريب، مهما طال الغياب وبعادي عنك، أبقى أنا وحدي من تعرف كيف (تمتد يداكَ من المدى؛ تقطفُ عن جسدي تفاحاً، وكرزاً، وهالة شامٍ كبيرة)، وأنا أحلم باللقاء مثلك تماماً، وأرى أنه (لا شيء يفرحُ سوى حُلمكَ، وهمس الستائر)، وأنت وحدك هناك في رام الله مَن (يرسم لون الفرحِ والحزنِ) في روحي، وأعرف أنك (منذ زمنٍ تشتهي أن تنام كالشَّعرِ على خاصرتي)، وأنا من تشتاقكَ بِـ (شِعرٍ، وجنونٍ، ولقاءٍ..)، وأحلم باللقاءِ (لتعود الفراشاتُ تغفو قريرة العينِ بين ذراعيك)، وأنا وحدي طيفك (وحلم شقيٌّ ينام كطفلٍ مدللٍ بين يديك)، فأنا من (أنادي مع ضياع عمري.. عليك).

أيا طيفي.. (يا أيها القادمُ من زمنِ الرحيل: أعدني لأركضَ فوق الغمامِ)، تعال إليّ من جديد (أعدني إلى عامينِ بللهما الندى، وأقطف وردتين من عمرِ الزمانِ)، سأبقى مزروعاً في وطني (أحبُّكِ؛ كعذراءَ حافيةِ القدمينِ؛ تركض ويسبقها الظَّلُّ)، وأنظر نحو الغرب وأصرخ: (حيفا.. يا حيفا يا مدينة البحر)، سأبقى أحلم بلقائك ولقائها، حتى (يصحو الصمتُ على شَفةِ الوردِ)، وأحلم أن ألتقيكِ حبيبتي وأغفو على صدركِ كما (الكرملُ يغفو بين ليلٍ و.. ليل)، فكم أعشق روحكِ وهي تجول وتجول في روحي (تفتشُ في كروم الدوالي عن جديلة تنمو.. تصير وطناً)، وأنا من (أحضن وجهي الآنَ؛ كي تطل الذاكرةُ على جُرحِ المدينةِ)، ويا حبي (أبحثُ فيكَ؛ عن حُلمٍ ضاق به الليلُ)، لكني لن أقبل أبداً أن أنظر إلى حلمي و(لا أرى غير ظلي).

*كل ما هو بين أقواس للشاعرة هيام مصطفى قبلان من مجموعتها الشِعرية (لا أرى غيرَ ظلّي)، الصادرة عن بيت الشِعر الفلسطيني 2008م.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى