سوسيولوجيا الغزل العربي
إن الطاهر لبيب في كتابه سوسيولوجيا الغزل العربي يحقق نفس التفرد الذي حققته دراسة صادق جلال العظم (في الحب والحب العذري)، ومحتوى كتابه يتشابه مع بعض الأطروحات الجريئة التي ضمنها صادق جلال العظم كتابه في مرحلة سبقت عمل لبيب بأربع سنوات. إن هذا السبق ألهم عمل لبيب، وأفاده بدرجة كبيرة وصلت في بعض المحاور إلى تطابق مطلق. والذي يثير الاستغراب هو أن الطاهر لبيب لم يشر قط لعمل صادق جلال العظم رغم التشابه الكبير الذي أشرنا إليه. ومقاربة لبيب اعتمدت المنهج البنيوي التكويني كما صاغه لوسيان غولدمان، ويوضح لبيب هذا الاتكاء على المنهج المذكور:
(ويرتكز هذا المنهج-المستوحى من بعض الأبحاث التي تمت في مجال علم اجتماع الأدب، وعلى رأسها أعمال لوسيان غولدمان التي انقطعت بموته-إلى مبدإ بسيط، هو أنه لا ينبغي مساءلة الشاعر، بل مساءلة شعره). وجعل الطاهر لبيب من الإبانة عن شبكة العلاقات الباطنية مسوغا أوّل لموضعه ولتحليله المحايث للأثر.
وانطلق الطاهر لبيب من فكرة مؤداها أن الشعراء العذريين :( مجموعة من ذوي العفة الذين تشرّبوا بالإسلام على نحو عميق، بحيث صاروا من الوجهة الدينية أكثر الشعراء "امتثالية"، والدليل، كما يقال، هو أنهم يتغنّون بحب قصي، ويبتعدون عن تحقيق مآثر جنسية محظورة). إننا في لا حق الفقرات سنتطرق إلى مدى معقولية طرح لبيب، ويمكن أن نعلن مسبقا أن لبيب في طرحه يتناقض مع مضمون كتاب صادق جلال العظم، ويخطئ عندما يختزل منزع هؤلاء العذريين في تشبعهم بالقيم والمثل الإسلامية.
اللغة العربية والحياة الجنسية:
وإفراد باب (للغة العربية والحياة الجنسية) في كتاب الطاهر لبيب له أكثر من معنى لأنه يؤطر استراتيجية عمل الطاهر لبيب؛ خاصة الفكرة التي مؤداها أن سلطة الكلمة أعلى من مستعمليها:(ما يثير الانتباه ...هو إحلال الكلمة محل صاحبها، الشاعر على الخصوص. وكثيرة هي الحكايات التي تروى عن سيدات من عائلات رفيعة المقام سمحن لأنفسهنّ بأن يفتتنّ جنسيا، أو يكدن، لا بالشاعر بل بشعره. إن الكلمة هي وحدها القادرة على خلع حجاب أولئك النسوة. فبمجرد النطق بها تصير مستقلة بمعنى ما، وتندفع أماما، فاعلة فعلها). ويبدو واضحا الدور الكبير الذي يلبسه لبيب للغة العربية ويعتبرها وحيدة في تمثل الحياة الجنسية، وباتت المعادل الموضوعي للممارسة الجنسية:( فإنها عند العرب كلمة، بل لغة). بل يؤكد لبيب أن اللسان(=الكلمة) يرتبط بالجنس ارتباطا وثيقا في الأخلاقيات الإسلامية. إن هذه الأهمية التي يلصقها الكاتب باللغة العربية لا يمكن دحضها وفي نفس الآن لا يمكن قبول مطلقيّتها؛ إن الكلمة أعطيت نفس القوة والسطوة في المسيحية أيضا بل اعتبرت معادلا موضوعيا للمسيح (كلمة الله)، واعتبرت في هذه الديانة مؤشرا لبدء الخليقة؛ لأنه في البدء كانت الكلمة. وهذا لا ينفي تفرد اللغة العربية بجانبها الحسي التي تتفرد به، زيادة على الهالة القدسية التي أُلبستها لأنها لغة القرآن الذي أنزل باللغة العربية، فبات عندنا مقدسان: القرآن(المضمون) واللغة التي أنزل بها، ومن ثمة فاللغة أخذت قوة تعادل مضمون النص الديني وكما يقول الجاحظ:(من حفظ لسانه وفرجه أمن شرور الزمان)، وبات الحديث عن الجنس كممارسته لأن :(ثمة تكاملا).
فالشعيرة الإسلامية تعطي أهمية قصوى لهذا الجانب فالصيام-مثلا- لا يقوم على الامتناع عن الأكل والشرب والمضاجعة، فحسب، بل إن روح القرآن والحديث، فوق ذلك، تحض على صون اللسان: كما هو الشأن في سورة مريم، الآية 26:( فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنسِيًّا )، والحديث يثبت هذا التصور، حسب لبيب، ويورد الحديث التالي لإثبات رأيه:( حدثنا محمد بن الصباح أنبأنا جرير عن الأعمش عن أبي صالح عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا كان يوم صوم أحدكم فلا يرفث ولا يجهل وإن جهل عليه أحد فليقل إني امرؤ صائم). والطاهر لبيب يضخم دور اللغة العربية التعويضي - بالمفهوم الفرويدي- فما يتم منعه أو كبته جنسيا يجد سبيله للتحقق من خلال الكلمة، فالحديث عن الجنس هو –في اللغة العربية- نوع من ممارسته. إن اللغة العربية حسب هذا الطرح تلعب دورا تجنيسيا SEXUALISATION وتنفيسيا في حياة العرب:(ولهذا كان الرجال والنساء، سواء أكانوا مرتوين جنسيا في بيوتهم أم لا، يسعون خلف أوساط يستطيعون التعبير فيها شفويا عن تلذذهم أو تفريغهم الجنسيين. وأشهر مثال على تلك الأوساط هو "مجالس" السمر التي كانت أكثر نشاطا في العصر الأموي، رغم أنها ترجع -في نشأتها- إلى ما قبل الإسلام. لقد كان الجنسان يجتمعان فيها بحرية لا تخالف القواعد الدينية ينشدان المزاح المباح. ويبدو أن هذا المزاح الذي يتم بصورة تبادل للحديث بين العموم. بل إن هذا التبادل سيتم لا حقا خارج المجالس ذاتها، وعن طريق المراسلة. الشيء الذي سيسمح، أحيانا، بالتعبير عن شبق جدّ جريء.)
2-النحو في خدمة التراتبية الجنسوية:
ويستثمر لبيب نقطة بدت له جوهرية للتدليل على صحة طرحه، وهي المتعلقة بالبنية النحويّة والتراتبية-التي تحكمها-بين الجنسين. يقول لبيب: (إن النحو العربي يميل إلى إبراز تفوّق الذكر). ويسوق آراء النحويين عن أفضلية الذكورة على الأنوثة: (أصل الاسم هو أن يكون مذكّرا، والتأنيث فرع من التذكير).
الذكورة مفضلة على الأنوثة -هذه هي الحكمة الربانية!- بورعها ورضوخها للحكمة الربانية، وذمها للسفاسف، عكس الأنوثة التي يُنْظر إليها بأنها أم الشرور والمسؤولة عن شقاوة الإنسان وخروجه من النعيم(الفردوس). ألم تصفها الأدبيات الفقهية أنها من حبائل الشيطان، وأنها أقوى حيلة وسطوة منه؟ !. ويمدنا بأعلى مثل عرفته الثقافة العربية الإسلامية، وهو المستمد من القرآن الكريم، خاصة، من سورة يوسف، وابتلاء الذكر بمكايد الأنثى الشبقة التي لا تعدم وسيلة للإطاحة بالذكر، والإيقاع به في شركها. والقرآن يبين كيف انتصر الذكر التقيّ، وفضل السجن على تلبية رغبة عارضة، مما جعله يتبوأ مكانة مثلى. و بات نموذجا يحتدي به الذكور في مقاومتهم للعالم الأنثوي الشيطاني ، وفي تماهيهم بورعه الذي جعل من الرسول يفتخر بوجود أناس مسلمين كثيرين يشبهون يوسف بن يعقوب:( الحمد لله الذي جعل في أمتي نظير يوسف بن يعقوب).
منذ بدء الخليقة، والصراع بين الذكورة والأنوثة، صراع بين الإغراء ومقاومته هذا ما يستنتجه الطاهر لبيب؛ ليدخلنا بعده إلى عالم أرحب-حسب رأيه-وأكثر سماحة مع المرأة تنتفي فيه صورة الأنثى الماكرة، الخبيثة، الإبليسة، الشيطانة، الشريرة، أو المرأة القدرية Femme fatale- تحدثنا عن هذا في باب آخر من أبواب هذه الرسالة- إنه عالم العذريين الذين يعتبره " أول منصف للأنثى"، وأول من قاوم التجنيس (الجندرةgenre, gender) على مستوى اللغة والدلالة؛ أي تقويضهم للثنائية التمييزية (ذكورة/أنوثة). وحسموا(=العذريون) هذا الصراع بتفضيلهم المرأة، وقبول إغرائها، وحلّها مكانا تتحد فيه مع صورة الإله الوحيد الأوحد؛ إن حبهم للمرأة يضاهي حب الصوفية لله.
ولقد أفرد الفصل الثالث من كتابه لهوس الوحدانية عند العذريين، وعنونه ب:(عقيدة التوحيد والحبيبة الواحدة)، وينطلق فيه من اقتناع مفاده أن الذين ربطوا في تاريخ الأدب العربي بين الإسلام والحب العذري جانبوا الصّواب. ويحتمي بالفكر الغربي الذي سبق له أن ناقش ظاهرةً تُـشْبِهُ ظاهرة الحب العذري، ونعني بها ظاهرة شعراء التروبادورTroubadours التي انتعشت في القرن الثاني عشر الميلادي، وبالضبط في جنوب فرنسا. فلقد ناقش مفكرون غربيّون الحب التروبادوري، وخلصوا إلى نتيجة مؤداها أن هذا الحب شيء آخر غير الأجّابي Agapè(الحب التوحيدي المسيحي) المشفوع بغيرة خاصة تنزهه عن الحب الدنيوي. وهذا لا يعني -يقول لبيب- أن هناك صلة بين الأباجي المسيحي والحب العذري الغربي، فهناك تماثل قائم بينهما على مستوى اللغة المشبعة بالقدسية؛ وهي قدسية لا تقتضي-حسب لبيب- دوما ورعا مسيحيا ما دامت تحيد أحيانا عن القدسية بل تصبح تجديفية (تكفيرية). هذا التصور الغربي يعتبره لبيب كافيا لدحض آراء مفكري العرب الذين ربطوا بين الشعر العذري والديانة الإسلامية.
إننا نذهل للحجية والمصداقية التي يمنحها كاتبنا للفكر الغربي مما جعله يُسْقِطُ-بطريقة فيها تجن كبير- ما وصل إليه هذا الفكر في قراءة "حبه" على "حب" و"ثقافة" مختلفين: حب مديني في مواجهة حب بدوي، وديانة مسيحية لها تصورها-الخاص- للتوحيد بها الذي لا يتماشى مع منظور الإسلام، ونفس الشيء بالنسبة لنظرية التثليث. كان على الطاهر لبيب أن يتناول مكانة اللغة العربية كلغة ألصقت بها هالة قدسية، وبات على المتكلم بها سواء كان مسلما، أو غير مسلم، أن يمتثل لقاموسها، وليس للدين الذي جاء بها. إن انبهار لبيب بالدراسات الغربية، وإسقاطه لاستنتاجاتها على نبتة غريبة عليها ونعني بها الشعر العذري العربي (البدوي)، (الحجازي)، فوّت عليه فرصة الحصول على نتائج منسجمة مع مرامي دراسته وغايتها المنشودة. إن الشق الثاني من فكرة لبيب يتميز برجحانه، لأنه ابتعد عن المقارنة بين ما هو غربي، وما هو عربي. ودرس الحب العذري العربي في علاقته مع الدين الإسلامي الذي ظهر في بيئة عربية، وبلغة عربية، وبين كيف تتساوى صورة الحبيبة مع صفات الله؛ فأسماء الله الحسنى ألصقها(=الحب العذري) بالحبيبة فهي منبع الرحمة، والقدرة، والشفاعة، والتجبر، وهلم جرا... ونمت- يقول لبيب- بالتوازي مع الإيمان بوحدانية الله، فكرة عبادة الحبيبة الوحيدة، والكاتب لا يبالغ في هذا الاستنتاج فلقد بينا أن المحب العذري التجأ إلى قاموس التوحيد القرآني وألبسه صفات حبيبته:(فغالبا ما يدور الأمر حول امرأة سامية من الناحية الإنسانية، يجسّد حبها الحياة والموت. وفيها "يُبلى الدهر"، و"تجد الروح حينها". وذلك مع نفس الرضا الذي يجده المؤمن الصالح وهو يُسْلم روحه لخالقه:
ولو أرسلت تستهدين نفسي//أتاك بها رسولك في سراج
إن الشاعر لا يجهل أن"لله الأسماء الحسنى" كما يقول القرآن، غير أن الأسماء التي يحبها جميل هي التي تذكّره ببثينة. أما أثر الابتهال فإنه موجود في استحضار ذكرى شافية:"وذكرك يشفيني إذا خدرت رجلي". وهنا تصبح العلاقة علاقة رحمة. فيقول جميل لبثينة مستكينا:("ارحميني"). إعلاءٌ واضحٌ للمرأة المحبوبة(أمثلتهاidéalisation) وإبقاءٌ على بشرية المحب:
( أبثين إنك قد ملكت فاسجعي)
الميثاق العذري والخصاء الأنثوي (أو دكتاتورية الحبيبة الوحيدة):
إن الحبيبة وحدها لا غيرها يجب أن تشغل قلب الحبيب، لأن هذا هو لب «الميثاق"العذري Pacte Udrite، فالحبيب مضطر لاستبعاد أي إمكانية للتفكير في أي علاقة أو ارتباط مع امرأة غير حبيبته:
آليت لا أصطفي بالحب غيركم//حتى أغيّب تحت الرّمس بالقاع
هكذا هو مبدأ الحب العذري: ينذر الحبيب نفسه للمحبوبة إلى أن تقبض روحه. ذوبان تام وسلب لإرادة المدنّف؛ إن كان عليه أن يحب شخصا ثانيا فلن يكون إلا شخص حبيبته. إنه ارتباط يشبه الارتباط التيولوجي؛ حيث ينذر الشخص نفسه لخالقه، ويكد في عبوديته وإرضائه، طامعا في عفوه، وصفحه، وعدله، وقهره،وظلمه، سلطانه، وجبروته، إنه خضوع مطلق لقانون الخالق.
عاشق لا تسعفه الكلمات عندما يريد نقل رحله إلى موطن غير موطن حبيبته:
إذا ما نظمت الشعر في غير ذكرها//أبى، وأبيها، أن يطاوعني شعري.
إنه صراع محموم بين عاطفة متأججة يتقطع صاحبها شوقا وحرقة لا تنشد إلا الوصال، وبين الغنج الأنثوي لحبيبته الممتنعة التي لا تعرف للرأفة سبيلا وتجد في إيذاء من يحبها لذة ما بعدها لذة. إن أهم خصاء يركز عليه الطاهر لبيب ويعتبره مكونا مهما من مكونات "الكون العذري" هو موضوعةThème الفراق. وهذا الفراق لا يقاس بالمسافات بل الفراق الحاصل في نفس المكان ويعني به لبيب الفراق(البعد) العاطفي. ويستنجد الكاتب بابن القيم لتبيان مقصده، يقول الطاهر لبيب:( بل إن النظرة هي أيضا، لا يمكنها الوصول إلى الحبيبة"المنيعة". ومن الطريف أن ابن قيم الجوزية يقرّ بأن " من علامات المحبة التي يستدل بها عليها" هاتين الإشارتين: الأولى"إدمان النظر إلى الشيء وإقبال العين عليه"، والثانية"إغضاؤه عند نظر محبوبه إليه، ورميه بطرفه نحو الأرض" وكأنه لا ينبغي للنظرتين، في نهاية المطاف، أن تتقاطعا). وقد أشار لوي ماسينيونLouis Massignon إلى هذا عندما تحدث عن تقليد ما زال سائدا إلى الآن في بعض البلدان الآسيوية(فارس، أفغانستان، باكستان) وهو مرآة الخطيبين Miroir des fiancés التي تعلق على جدار البيت الذي يلتقيان فيه: وعليهما أن يدخلاه من بابين متقابلين، ودون أن يتناظرا وجها لوجه، يحوّل كل منهما بصره نحو المرآة. وبفعلهما هذا يتلاقيان كما في الجنّة، أي يلمحان وجهيهما معتدلين" العين اليمنى إلى اليمنى"، لا "معكوسين" كما هي الحال في الدنيا. إن النظر العذري هو تعذيب لذات الرائي وإضناء لها:
إذا ما كررت الطرف نحوك ردّه//في البعد فيّاض من الدمع يَهْمِلُ
الدمع يقف حاجزا أمام رؤية الحبيبة؛ إن تصوير الدمع بالماء الغزير الذي يقف حائلا دون رؤية وجه الحبيبة، دأب الشعراء العذريون على استعماله لتبيان أن رؤية الحبيبة عزيزة، وفي القرآن صورة تشبه تلك التي جاءت في هذا البيت الشعري، وتتحدث عن استحالة رؤية السماوات السبع- التي أبدعت على أكمل وجه- بالنسبة للإنسان:( الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ طِبَاقًا مَّا تَرَى فِي خَلْقِ الرَّحْمَنِ مِن تَفَاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرَى مِن فُطُورٍ ،ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خَاسِئاً وَهُوَ حَسِيرٌ).
إن نقط التقاء الديني بالعذري كثيرة جدا منها تشبيه الحبيبة بحورية الجنة التي لا تنجب لأن إمكانية الزواج في الكون العذري أو المتخيل العذري مستحيلة. إن امتناع الزواج ميزة وفضيلة عذرية، ويجنح إليها العاشق ويختلقها ولو انتفت شروطها؛ كلما اقترب العذري من تحقيق الوصال والزواج من الحبيبة اصطنع حواجز تجعله مستحيلا. إن اختلاق العقبات لعبة يتقنها ويلتذ بها العذري: فلا رغبة تهتك سلطان العفة المصطنعة-حسب صادق جلال العظم- بل تؤجج الهوى، والشوق، والالتياع، واللواعج:
يموت الهوى مني إذا ما لقيتها//ويحيا إذا فارقتُها فيعود
أو:
إذا ما دنت زدت اشتياقاوإن نأت//جزِعْت لنأي الدار منها وللبعد.
هذه هي المفارقة العذرية؛ تفتعل الحاجة(الرغبة) وتخلق الحواجز الوعرة، وتصل إلى المحبوب بطريقة بطولية، وفي نفس الآن تفتعل الإشباع لتبتعد عن الحبيبة. صراع يتنافى وقيم المجتمع العربي الإسلامي، وقيم القبيلة العربية، صراع بين العصمة والزواج، وبين الإبقاء على حب الحبيبة دون الزواج منها؛ الحبيبة العذرية أكبر من أن تكون زوجة، وأسمى من نموذج الزوجة العربية.
والحب عامل مهم في تضخيم أمْثَلَةِIdéalisation المرأة، وفي نفس الآن في استحالة الاقتراب منها بطريقة مستمرة. فالعذري لا يقبل أن يرى حبيبته كبقية النساء تعيش الحمل، والمخاض، والإنجاب؛ لأن هذا سيجردها من الصفة المطلقة، والتوحيدية، التي أضفاها عليها.
والطاهر لبيب يعتمد على النصوص الشعرية لتبيان المكانة الخاصة" للمرأة-الحبيبة" العذرية، وانفلاتها من أي تشبيه بالمرأة العادية؛ يقول الطاهر لبيب:(...وإذا صدقنا النصوص، فإن حبيبة الشاعر هي ألف المخلوقات وياؤها. وعلى خلاف حبيبها الذي لا يبحث إلا عن نموذج يتبعه، ويتشبه به، "نجدها" استثنائية من الناحية المعنوية...أما من الناحية الجسمية فإنها تركيب لكل صور الجمال، أو فينوس تخرج من زبد الصحراء !واسم التفضيل "أحسن" كثير التردد هنا. والنتيجة هي أن على الصورة الجسمية أن تُستلهم من شيء آخر غير جمال النساء الشائع). ويورد الطاهر لبيب أبيات شعرية تثبت رأي الجمهور عن الاستثناء الجمالي للحبيبة العذرية، ومنها:
وأحسن خلق الله جيدا ومقلةً//تُشبّه في النسوان بالشادِن الطفل
إن عبارة " أحسن خلق الله" لا تفي بمقصود كلام بعض الشعراء العذريين الذين وضعوا المرأة في نفس مرتبة الخالق، بدليل أن مقاومة جمالها وفتنتها تُعْوِزَ حتى أتقى الأتقياء، وأشد الحيوانات ضراوة:
رهبان مدين لو رأوك تنزّلوا//والعُصم في شعف الجبال الغادر
هكذا تحتل المرأة الحبيبة مكانة تتجاوز الإنساني لتنصهر في سورة الكمال المطلق، وابن القيم في روضته ينقل عن أحد أفراد بني عذرة قوله: لو رأى بنو فزارة نساء قبيلته (لجعلوها اللات والعزّى ونبذوا الإسلام وراء ظهورهم)، ص:337.
ويذهب الطاهر لبيب إلى تبرير "عبادة" الحبيبة الوحيدة إلى سابق ممارسة ما قبل إسلامية وهي المتعلقة بالألوهيات الأنثوية، ويقول: (...قد يقودنا إلى افتراض أن تمجيد الحبيبة الوحيدة كان، جزئيا، إرجاعا لهذه الألوهيات المتعددة إلى الواحد. وهي محاولة قد تعود إلى محبين قب-إسلاميين كانوا مفتونين أصلا- وربما بفعل إلهام توحيدي يهودي- مسيحي غامض- بالتجريد المؤمثل من نوع تجريد عروة بن حزام. ومن جهة أخرى فإن التعيين الاصطلاحي للتثليث الألوهي، الذي قاومه القرآن بشكل خاص، إيحائي، بمعنى أن حبيبة العذريين تبدو وكأنها تجسد التركيب القائم على: اللآّت (=الإلهة)، والعزى(=المطلقة القدرة)، ومناة(=إلهة القدر والموت). وقد كان ينبغي الدفع، إلى أبعد من ذلك، بالتحليل الدلالي للصفات الإلهية المستخلصة من الشعر العذري لكي نحيط بدقة أكبر بما تحمله من رواسب قب-إسلامية. ومن المعروف، مثلا، ولكن بدون تفاصيل، أنه يُنسب إلى بني عذرة عبادة إلهة أطلق عليها اسم الشمس، وهي إلهة لا ينبغي إهمال طبيعتها في تفسير "التسامي" العذري).
إن هذه الملاحظة لا تخلو من وجاهة لأنها- رغم إثباتها لتأثر التوحيد العذري بالتوحيد الإسلامي - تنفي أن يكون هذا التوحيد الإسلامي هو ملهم العذريين وطابع تعلقهم بالأنثى الوحيدة. فالعذريون خلصوا لهذا التوحيد في مرحلة سابقة للإسلام ومعروفة بتعددية آلهتها. ومن هنا يؤكد الطاهر لبيب أن العذري لم يستجب لداع إيماني إسلامي ليصل إلى توحيد الحبيبة، فقد لا يكون قلبه مشبعا بالإيمان الإسلامي، ويمدنا الطاهر لبيب بنموذج لهذا التأكيد: ( وبهذا المعنى فإن ملاحظة أن جميلا يتحدث عن حبيبة وحيدة بكلمات تمجيد ذات أساس قرآني أو تتصل بالمناقشات الدينية لذلك العصر، لا تُثبت إطلاقا الوجود الضروري لإيمان صلب بطبعه، خاصة، حضور إله أوحد). إن استعمال كلمات من المعجم القرآني عند العذريين لا يعني أن مستعملها متشبع بها وممتثل لتعاليمها بل هو انعكاس للنقاش الديني الذي كان دائرا آنذاك بين الناس كما أن هذه الكلمات كانت تشكل جزءا من المشترك اللغوي في عصر بني عذرة رغم تباين دياناتهم وإيمانهم.
إن حالة العذريين حالة لا تلتقي بصفة مطلقة مع التوحيد الإسلامي، وكذلك الشأن مع العبادات ما قب-إسلامية، إنها حالة ممزقة بين ميلين مستحيلين: أولهما إحلال الحبيبة الخارقة للعبادة بدلا من الإله، وثانيهما العجز عن بلوغ الإله الواحد الصمد. إن العذري لم يجد حلا لهذه المعادلة الصعبة فلم يحسم في أمر إحلال حبيبته إحلال الإله الأوحد، كما فعل مثلا لوي أراغونLouis Aragon في ديوانه مجنون إلزا Le Fou d’Elsa:
وحينها أدركت أني منحتك المكان
المخصص للإله
فهنا كان يسود، دوما، مجده
والصلاة.
إن الحسم الذي نلمسه عند أراغون -والنابع عن اقتناعه الفكري الشيوعي الإلحادي- لا يمكن أن يقاس عليه موقف الشاعر العذري الذي عاش في بيئة بدوية مسلمة، لا تقبل أن يشك في مقدساتها. ولهذا نراه (العذري) ممزّقا بين ممارسة شعائر القبيلة -وإن كان لا يؤمن بها- ونزوعه العاطفي، مما صعب مهمة اختياره. إن هذا التمزق يصفه أرنولد توينبي: ب(التصدع داخل النفس)، أي تشتت الفرد وتوزعه بين مطامح متناقضة. ففي الحالة العذرية يكون الله والحبيب حاضرين متلازمين حتى في أكثر الطقوس قداسة؛ فوجه الحبيبة يطارد العذري في صلاته ويبكيه، وهو يعرف أن صلاته يفسدها هذا البكاء، و يعرف أن الملائكة تسجل عليه هذا:
أصلي، فأبكي في الصلاة لذكرها//لي الويلُ ممّا يكتب الملكان
وجرى على لسان مجنون ليلى كلام يشبه ما جاء في بيت جميل يحاول التوفيق فيه بين أشياء لا توافق بينها:
أراني إذا صلّيت يمَّمتُ نحوها//بوجهي وإن كان المصلى ورائيا
وما بي إشراك ولكن حبّها//كعود الشجاأعيا الطبيب المداويا
فالشاعر العذري لا حول له ولا قوة أمام اجتياح صورة الحبيبة التي تحول دونه وما يبتغيه. فعوض أن ييمِّم وجهه مقام إبراهيم يُيمِّمه نحو وجه الحبيب، ويقر أنه لا شك في إيمانه وتوحيده، وما فِعْلُه هذا إلا ابتلاء ابتلي به ولا دواء له. ويبدو هذا واضحا في البيتين التاليين:
وبين الصفا والمروتين ذكرتكم//بمختلف والناس ساع وموجف
وعند طوافي، قد ذكرتك مرّة، //هي الموت، بل كادت على الموت تضعف
إنه اعتراف صريح بسطوة حب الحبيبة على ما عداه. ومن الباحثين من اعتبر هذا السلوك(=التقديس الشعري للمرأة) نوعا من أنواع الشرك الذي ينبذه التوجه السني. إن العذري بفعله هذا يشبه المتصوفة الذين مجدوا حسيا العشق الإلهي، إلى درجة جعلت الفقهاء يدينونهم ويتهمونهم بالشرك. يقول الطاهر اللبيب في تحليل هذه السطوة:(إن الحبيبة، القوية، الوحيدة، المنيعة، تسلب القلب بنفي العقل. وهي تقود الحبيب إما إلى عبادة الأصنام التي يتحدث عنها ابن الجوزية، وإما إلى حالة من اللامسؤولية الدينية مشابهة للحالة التي يدعوها فقهاء الشريعة " عدم التمييز " أو "الإكراه ". ومما تجدر ملاحظته، بهذا الصدد، أن العذريين لم يعدموا تبريرا لهواهم، وذلك بالاستناد إلى الإرادة الإلهية. هكذا يقول جميل لأحد أصدقائه طلب منه أن "يفيق" وأن يتخلى عن "ضلاله":
فقلت له: فيما قضى الله ما ترى//عليّ، وهل فيما قضى الله من ردّ
إن هذه الإرادة الإلهية قاهرة أحيانا، بل وباعثة على التمرد. وإذا كان قيس بن ذريح قد اكتفى بقول:
أبى الله أن يلقى الرشاد متيّمٌ//ألا كل أمرٍ حُمّ لا بُدّ واقعُ
فإن المجنون كان له أن يقول:
قضاها لغيري وابتلاني بها//فهلاّ بشيء غير ليلى ابتلانيا
ولعل هذا ما أثار حفيظة المؤمنين، كما يقول صاحب"الأغاني": فبسماع أحدهم المجنون ينشد هذه الأبيات، رد عليه بصوت مرتفع:(أنت المتسخط لقضاء الله، والمعترض في أحكامه !).
إن إحلال الحبيبة هذه المكانة يشبه إلى حد بعيد قصة ذلك الشاب الذي أغرم بشاب اسمه(أسلم)، فاشتد به الأمر إلى أن أصابه المرض، وحين حضرته الوفاة قيل له قل لا إله إلا الله فقال:
أسلمُ يا راحةَ البال العليل ويا شفاء المدنف الخليل. رضاك أشهى إليَّ مــن رحمة الخالق الجليـل.
وكما أسلفنا الحديث عن هذا فإن هذه الأمْثَـلة L’idéalisation لا تتجاوز اللغة واستعاراتها، ولا تمت للواقع بصلة، لأن العذريين رغم تسويدهم لمئات الصحائف عن دنفهم، وشغفهم، واستثنائية نسائهم؛ فإنهم عاشوا حياتهم، ومارسوا وجودهم كأي فرد من أفراد قبيلتهم. وشعرهم(=الشعراء العذريون) هو موضوع التساميSublimation الأنثوي والشغف العذري، وهو الميدان الذي مارسوا فيه تعويضاcompensation لما استهاموا به، وحلموا به.
ويقدم لبيب معطى آخر، يعتبره خاصا بالعذريين ولا يشبهون فيه قيم العرب، وهو ارتباط الحب العذري بالزمن؛ الزمن السرمدي الذي لا يتغير فيه الحب العذري، رغم تغير سنوات العمر، وصروف الدهر، عكس الحب الذي يعيشه الإنسان العادي، والذي تتقد جذوته مع الصبا و الفتوة، وتخفت مع الكهولة وأرذل العمر. ويمدنا لبيب ببيت شعري لشاعر غير عذري وهو الأخطل الشاعر العربي المسيحي الذي غلبت على قيمه ثقافتان مختلفتان: الثقافة الإسلامية والثقافة المسيحية اللتان تؤمنان بخصوصية كل مرحلة عُمْرِيّة بدءا من زمن التهتك إلى زمن التعبد والتهدج ونبذ ما عداهما، يقول الأخطل:
فدع ذا وخلّ عنك بحسرة//زمول إذا صام النهار وهجرا
إن الأخطل هنا لا يعبر عن يأس أو فوات فرص العشق، بقدر ما يعبر عن إيمانه بأن زمن الحب والصبا قد ولى مع مرور الزمن، ووصوله إلى مرحلة لا تسمح بمثل هذا، لأنه معيب ولا يليق برجل في نفس سنه. والعذري لا يعير لعامل الزمن أي اهتمام لأنه يمنح حبيبته سلطانا يفوق الزمن وينفلت منه، ولا تفعل فيه عوامله أي شيء؛ إن الحبيبة شابة خالدة في حين يقسو الزمن في حق حبيبها ويصل أرذل العمر وهو ما زال في ريعان شبابه:
تقول بثينة لما رأت//فنونا من الشّعر الأحمركبرت، جميل، وأودى الشباب//فقلت:بثين، ألا فاقصريوأنت كلؤلؤة المرزبان، //بماء شبابك لم تُعصريقريبان، مربعنا واحدٌ//فكيف كبِرْتُ ولم تكبُري
مفارقة عجيبة يعيشها الحب العذري: يشيخ المحب ولا يفقد المحبوب شبابه وتوهجه. و تتكالب صروف الزمن، والشيخوخة، والأهل ضد المحب فلا يدري من يواجه، ولا من يستمع لشكواه ولواعجه. حب كتب عليه أن يبقى أسير الترقب، والخوف، والحذر: من العذال، والوشاة، والرقباء، واللائمين.
إن الزمن كمقولة "فلسفية" أثار ويثير جدلا كبيرا –وما زال- في الثقافة العربية؛ فالعربي كما أسلفنا يهاب الدهر، ويهاب عواقبه، ورغم مجيء الإسلام وقوله بوجود زمن أخروي، فإن العرب تحتفي بزمن واحد هو زمن اللحظة"الآن" فلا تهتم بما مضى لأنه ولى، ولا تحلم بالغد لأن ترقبه ينقص حلاوة عن الحاضر:(غد بظهر الغيب واليوم لي)، (قد يكون الغيب حلوا إنما الحاضر أحلى)، (تعالى أحبك الآن أكثر)، إن هذه المفاهيم المرتبطة باللحظة والتي يعتبرها الدارسون –خطأً- معطىً ثقافيًّا غرْبِيًّا عرف مساهمة خاصة من طرف المدرسة الوجودية في الغرب عند هيدجرHeidegger وسارترSartre، وخاصة هذا الأخير الذي نعى مفهوم الزمن كما كان رائجا في المجتمع الغربي قبل الحرب العالمية الثانية، وسفّه جميع مقولاته، واعتبر أن ما حصل من ويلات بعد حَرْبَيْنِ عالميتين ضاريتين يحتم على الإنسان أن يعيش لحظته"آنيته"- فالحياة لا يؤمن جانبها. وعلى الإنسان الاستفادة من لحظته وتأزيلها-:(الخروج من عادية الزمن، إلى الزمن الوجودي الذي يقاس بالحالة النفسية للإنسان في فرحه وفي قرحه)، وهذا عاشه العرب منذ قرون وضمّنوه كتاباتهم النثرية والشعرية: فكيف نفسر الوقوف على الأطلال؟ وكيف نفسر كلام امرئ القيس: "لا صحو اليوم ولا سكر غدا، اليوم خمر وغدا أمر."
إذا لم نفسره بهذا المفهوم الخاص للزمن الذي لا يعير أي أهمية إلا للحظة (الآن). لعل هذا ما فعله الشاعر العذري الذي منح زمن شباب سرمدي للحبيبة وأعطى لنفسه زمنا فيزيائيا يتحرك(=الزمن) ويفعل فعلته فيه كما يفعلها في غيره من الناس والمخلوقات. إنه مفهوم يتفاعل مع معيش هذا العربي الذي تتجاذبه ثنائية (الاستقرار والترحال)؛ فكلما اطمأن لحياة الاستقرار والعيش في سلام يتصرف الدهر"الزمن" عكس ما تشتهيه نفسه(=العربي) فيجذب المكان -الذي يقيم فيه- وينقص الكلأ، ويحكم عيه بالترحال بحثا عن الماء والكلأ. بحث مستمر عن الاستقرار لم يزد العربي إلا إصرارا على التمتع أقصى ما يمكن من اللحظة التي يعيش فيها، فيسمح لنفسه بأن يشرب، وأن يحب، وأن يصالح ذاته التي أظناها بالبحث عن استقرار مستحيل. إن كل دقيقة من هذه الاستراحة تتمدّد، وتتجاوز حجمها الزمني الحقيقي، لتشغل حيِّزا يفوق أضعاف أضعافها.
4-الحب العذري والحب الصوفي:
إن القارئ الحذق لا يمكنه أن يتجاهل فعالية هذا الرّبط بين العذريين وحبهم للمرأة وبين الصوفية وعشقهم لله، وليس غريباً أن يرتبط فعل الحبّ بالشعر عند العذريين وعند المتصوفة، نظراً للتفاعل الكامن والتواصل الذي يضمنه فعل الحب، والشعر، باعتبار أن وحدات الإخبار الشعري:(عناصر تسعى إلى تنظيم التركيب وضبطه وفق معايير وزنية وإيقاعية قد تكون أحياناً أكثر تأثيراً في المتلقي، من الدلالة التي يسفر عنها التركيب الشعري، إنها وحدات تتحكم بشكل كبير في التفاعل القائم بين المصدر والمقصد، بل قد تكون العنصر الأساسي الذي ينبثق عنه هذا التفاعل).وليس بعيداً أن يكون هذا الارتباط بين الحب والشعر استجابة للتقليد الأدبي العربي، إذ لا غزل ولا حبّ إلا بالشعر وفي الشعر. إن العذري والصوفي كلاهما تعلق بالحبيب الوحيد الأوحد. هذه الفرضية كونت لب الإشكالية التي عرضها الطاهر لبيب في تحليله للظاهرة العذرية.
إن حاصل ما وصل إليه كاتبنا، تأويل استحق جزاء الاجتهاد، لكنه أخطأ في تشخيص العناصر المؤسسة (للكون العذري) وأعاد صياغة ما اتفق عليها الفقهاء والباحثون المعاصرون الذين اعتبروا الحب العذري ظاهرة فريدة تتميز بصدق طرفي ثنائيتها: الذكر المدنف الوله الذي لا يرى في هذا الكون إلا أنثاه، يفعل كل شيء من تأجيج حبه لها دونما رغبة في استهلاك المتعة الفانية، والأنثى التي تزهق روحها عندما يصلها نعي الحبيب !. إننا لا نغمط دراسة لبيب حقها ولا نجردها من أي جهد؛ بل نقدّر جهده حقّ قدره، ونعتبر أن جديده يكمن في إدخال عناصر في البحث لم يستعملها آخرون اهتموا بالحب العذري؛ كالرؤيا للعالم، والبنية اللغوية في علاقتها بالبنيات الاجتماعية.
5) سوسيولوجيا الغزل العربي أو عندما يسطو المنهج على الموضوع:
إن العنوان الذي اصطفيناه لا يقصد الإثارة و لا الغواية؛ بل يعكس حال أغلب الدراسات العربية المعاصرة التي اهتمت بالتراث العربي الإسلامي.فهذه الدراسات وقعت في شرك تصور مقلوب يجعل المنهج سابقا للموضوع المدروس أي أن الباحث يقع تحت سطوة أو فتنة منهج ما و يبحث له عن مادة يطبقه عليها فيدخل في صراع لا متكافئ مع هذه المادة و يكد للي ذراعها حتى تأتي صاغرة إلى هذا المنهج الذي ارتضاه. و هذا وجدناه في الدراسات التي قام بها طه حسين في كتابه:" في الشعر الجاهلي" و طيب تيزيني:" مشروع رؤية جديدة للتراث العربي الإسلامي " و حسين مروة في كتابه:" النزعات المادية في الفكر العربي الإسلامي " و علي أحمد سعيد(أدونيس) في كتابه:" الثابت و المتحول ". علاقة تجحف حق المادة و تجعلها تابعا لا حول له، و لا قوة، و قصارى جهد هذه المادة هو أن تثبت ما يرومه المنهج، و لو كان على حسابها. وهكذا ألفينا الطيب تيزيني، وحسين مروة يتحدثان عن الصراع الطبقي في المجتمع الجاهلي، ومن بعده المجتمع العربي في عهد الصحابة فقط لأن المنهج الذي اختاراه، و هو المنهج المادي التاريخي يتكئ على مقولة الصراع الطبقي كمحدد لا محيد عنه لتحليل أي ظاهرة كبر شأنها أو صغر. ونسي هؤلاء أن هذا المنهج جاء ليحلل أوضاع المجتمع الغربي في القرن التاسع عشر، وهي أوضاع تختلف اختلافا كبيرا عن أوضاع المجتمع العربي القديم، و كان حريا بهؤلاء الباحثين أن يتعاملوا بمرونة مع هذا المنهج، واعتباره مادة تعين على التحليل، و بعيدة كل البعد عن أي تصور أرثوذوكسي لا يقبل أن تغير فيه. ولعل الانبهار بالنتائج التي حققتها المناهج الغربية، و التقدم الذي عرفه الغرب تقف وراء هذه التبعية – العمياء أحيانا – مما جعل الباحثين العرب يجعلون منها مرجعا لا يشق له غبار.
والقارئ الحصيف يحس بهذه السطوة، وبالارتباك الناتج عنها عند محللين عرب كثر؛ فشك طه حسين المنهجي بات شكا كليا في المادة التي كان يقصد من دراستها تنقيتها من الشوائب، والإضافات التي لحقتها في المرحلة الأولى للإسلام. ونحن هنا لا نذهب مذهب من أثّـم طه حسين، ونعته بأخس النعوت، ولكن في نفس الآن لا نذهب مذهبه في تنزيه المنهج الديكارتي، واعتباره منهجا كاملا، والنتائج المترتبة على تطبيقه نتائج لا يدخلها الشك. وهكذا بات المنهج الذي يتحدث عن نسبية المعرفة هو نفسه عند طه حسين المنهج الذي ينفي هذه النسبية، ويغرق في أتون المطلقية. والمنهج الماركسي الذي رفع شعار نسبية المعرفة والتحاليل، واختلاف الأحيزة التي تطبق عليها النظرية المادية التاريخية، نجده عند طيب تيزيني وحسين مروة قد علقت به شمولية لا تعير للخصوصية الثقافية أو الاجتماعية أي اهتمام. وألفينا النتائج المحصل عليها أقل بكثير من النتائج المنشودة، بل في أحايين كثيرة معاكسة للهدف المعلن. والطاهر لبيب لم يسلم من هذه السطوة المنهجية كبقية أنداده و إن كنا نسجل لهم جرأة البداية، و جرأة طرق باب الموروث الثقافي الذي أراد له البعض أن يتخذ صورة أكبر من صورته وألبسوه لبوس القداسة، و أوصدوا أبواب الاجتهاد التي تحاول أن تقرأه أو تقوِّمه فهذه حسنة تقلل من هناتهم.
6) الربط غير الموفق بين السوسيولوجيا العلمية و علم النفس التحليلي:
لقد عرفت أواخر الستينيات، وما تلاها، رد الاعتبار لمنهج التحليل النفسي من طرف المفكرين الماركسيين الذين كانوا يعتبرونه ضربا من ضروب الفكر البور جوازي الصغير، ونزوة من نزوات المفكرين الغارقين في "أنوية مركزية"égocentrisme مرضية تجعلهم يبتعدون عن هموم مواطنيهم ويخلون بالالتزام بقضاياهم. ومما عقد مأمورية هذا المنهج أن حكومات المعسكر الشرقي آنذاك منعت منعا كليا تداول وتدريس علم النفس التحليلي، وحاربت كل من يدعو إليه. فكانت محاولات المصالحة الأولى على المستوى الفكري هشّة، وكان رواد هذه المزاوجة التي سميت مقاربة -إن مصطلح مقاربة منذ هذه اللحظة بات دارجا على الألسن ليعبر عن تداخل عِلْمَيْن أو أكثر في دراسة معينة- أغلبهم من الفرنسيين، أو الذين جنسوا بالجنسية الفرنسية، و نخص منهم بالذكر جوليا كريستيفا، وزوجها السابق فيليب سولرس، ورفاقهم في مجموعة تيل كيل، ومفكرون آخرون من أمثال روبرت إيسكاربيت، و جون دوفينيو، و جاك لا كان، وفيليكس غواتاري. ومن نهج نهجهم من المفكرين المناضلين، الذين انخرطوا في حركة المجتمع، و كان لهم حضورا جليا في الرجات التي عرفتها فرنسا، و غيرها من بلدان أوروبا الغربية سواء كانت سياسية أو ثقافية؛ كحركة الطلاب الفرنسية في ماي 1968،وخريف براغ 1968 . ومواقفهم في نصرة الشعوب المستعمرة والقضايا العادلة. كما ساهموا في بناء صرح فكري جديد، يقطع كل صلة مع فكر سنوات الحرب، والحرب الباردة، ويصفي تركة الحجر الفكري للجمهورية الخامسة؛ والتي امتازت بظهور الحاكم "المستبد العادل" والذي تجسد في مؤسسها الجنرال دو غول. فرفع هؤلاء المثقفون شعارات ثقافية عميقة تدعو إلى تقويض العلاقات التقليدية، التي حكمت المجتمع الغربي الخارج من أزمة وجود وقيم حقيقية، بعد الحربين العالميتين، ومن بين هذه الشعارات ما مسّ العائلة التقليدية، وصورة المرأة، وسطوة الأب البيولوجي، أو الرمزي داخل المجتمع. والطاهر لبيب عاش في هذه الأجواء وتأثر بما عرفته العاصمة الفرنسية من حركة سياسية و ثقافية. وكان أن طبق جزءا مما اكتسبه في أطروحته فزاوج بين المادية التاريخيةMatérialisme historique، وعلم النفس التحليليPsychanalyse، محاولا تطويع المتن الشعر العربي العذري لهذين المنهجين. و بما أن لبيب كان من الأوائل في هذا المجال فعمله لم ينج من نواقص المحاولات البكر. و ردود الفعل التي تركتها محاولته، رغم نواقصها، فتحت المجال له ولناقدين آخرين لتثبيت دعائم هذه المزاوجة (= المقاربة ).
7) مسوغات وطرق إنشاء كتاب سوسيولوجيا الغزل العربي:
إن الطاهر لبيب لا يعدم مسوغات لتناول المواضيع المتعلقة بالحب ولغته عند العرب عكس ما جرت عليه العادة عند السوسيولوجيين العرب الذين يصفهم "بحلالي المشاكل ليس إلا ". ويعتب عليهم، كونهم دون مستوى التفاعل مع الواقع العربي، و استشراف آفاقه المستقبلية، بل يأتون وراء الأحداث ليعلقوا عليها في أحسن الأحوال. وهكذا نجدهم في حيرة من أمرهم يبحثون عن حلول للمشاكل التي يعيشها مجتمعهم، وكان حريا بهم أن يكونوا سباقين لقراءة واقعهم، والتكهن بما قد يكون أحد مثبطات أو مشاكل هذا المجتمع. إن مساهمة الطاهر لبيب في إغناء الدراسات السوسيولوجية المتعلقة بقضايا المجتمع العربي الراهن لا تضاهيها إلا مساهمات قليلة جدا. وطرافة مواضيعه تثبتها دراساته التي عرفت بتفردها عن الحب العذري، وعن العرب وأغيارهم. وما جاء في حُـكْـمِه السالف عن الدراسات السوسيولوجية الذكر يمكن أن يؤخذ كتشخيص موضوعي وصائب أفرزته تجربة كتابية رزينة و جدية.
فكتابه سويولوجيا الغزل الذي تناولناه بالتحليل يعتبر محاولة جديدة، واستثنائية، في تناول الموروث الثقافي و مناقشته، بعيدا عن المسلمات والوثقية التي غلبت على متناوليه المعاصرين. وبعيدا كذلك عن المواقف العدائية والمتشجنة التي طبعت دراسات بعض المناوئين-بطريقة باثولوجية-لكل ما هو تراثي. فالتوازن الفكري الذي طبع أعمال الطاهر لبيب جعل دراساته تسهم في تجلية بعض المحطات المظلمة من الفكر العربي، وإشباع فضول الدارسين سواء كانوا عربا مسلمين أو أجانب. وهذا ما لمسناه من ردود الفعل الإيجابية التي حازتها دراساته من مرجعيات فكرية عربية من أمثال أدونيس، ويمنى العيد، وأحمد عبد المعطي حجازي، ورضوى عاشور، ورجاء النقاش، وكذلك من مرجعيات مستعربة نذكر قطبين من أقطابها جاك بيرك، وأندري ميكيل.
إن الفرد العربي يستحق-حسب الطاهر لبيب-أن يكون معيشه الخاص بكل قضاياه الوجدانية والعاطفية موضوعا جديرا بالتناول. و رغم إقرار لبيب بوجود قضايا يعتبرها البعض أهم من الحب والعاطفة عند العربي، فإنه يرفض تغييب دراسة حياة الفرد العربي ومشاكله الوجودية لأن هذا التغييب جرم يرتكب في حق هذا الفرد الذي سجنته أغلب الدراسات في حروب وهزائم ومشاكل تكبره بكثير، ولم ينسج خيوطها، وتكبت رغباته باسمها؛ فلا صوت يعلو فوق صوت القضايا التي يعتبرها هؤلاء الدارسون مصيرية ومهمة في تاريخ الأمة !، وكأن الحب والوجدان والعاطفة قضايا تافهة وهامشية ولا تستحق أن تكون موضوعا للدرس !. فالانطواء والإحساس بالإحباط اللذان يحس بهما الفرد العربي نابعان من هذا الاختزال الفظيع للواقع العربي في دراسات لا تبرح تيمات الإرهاب، والتكفير، والنبذ، والعروبة، والقومية، وما إلى ذلك من المواضيع التي استهلكها العرب لعقود طويلة، دون معرفة طبيعتها، ولا طعمها، ولا جوهرها.
إن تمتع الفرد بنوع-أو حد أدنى-من النرجسية شرط من شروط العيش العادي، و بدونه لا يمكن لهذا الفرد أن يحب ذاته، و لا أن يحب الآخرين. فالعرب ألفوا، بل أدمنوا جلد ذواتهم إلى درجة جعلت المتن المعاصر عبارة عن كتابات نكدية لا يضاهيها إلا الهذيان الآتي من المارستانات وعيادات الطب النفسي. فباتت هذه الدراسات عبارة عن كنبة كبيرة تتسع لكل أفراد المجتمع العربي الإسلامي (نحيل هنا على مصطلح فرويدLe Divan)؛ أي أن هذه الدراسات تتعامل مع هذا الفرد كحالة مرضية تحتاج إلى وصفات سيكو-باثولوجية. وهي بهذا تَتَعثَّـرُ في تَـشْخِيصِها وتُخطئُ في الكشف عن أمراض هذا المجتمع العربي، وعن الْبَلْـسمِ الشافي لهذه الأمراض. لأنها غيبت هموم الفرد العربي وغلبت عليها هموم الجماعة، واعتبرت الاهتمام بالفرد و همومه ضربا من ضروب الأنانية، التي وجب تأثيمها لأنها تُعتبر-من طرف أصحاب هذه الدراسات-ترفا لا يليق بمجتمع جريح و مكلوم، تنهشه المشاكل و الأعداء.
إن مفهوم "العيب" الذي اعتبر حاجزا دون مناقشة بعض المواضيع، لا يمكن أن يكون العامل الحاسم في رفض أو اختيار بعض المواضيع، لأن هذا المفهوم يختلف: من فقيه إلى فقيه، ومن كاتب إلى كاتب، و من عالم إلى عالم آخر، و من فرد إلى فرد آخر...فهذا العالم العربي المُوزَّع و المُـقسَّم إلى طوائف، و جماعات، و انتماءات فكرية، لا يمكن حصرها و لا عدها، ليس لمصطلح العيب فيه نفس التحديد ونفس التعريف. فرأينا كيف نظر الشيعة إلى زواج المتعة مثلا، وكيف كان موقف السنة منه. ورأينا كيف نظر بعض من فقهاء العرب المسلمين إلى المحرمات الدينية، وكيف نظر معارضوهم أو مناوئوهم إلى هذه المحرمات. ونقط المقارنة كما أسلفنا هي بعدد هذه التيارات و الشِّيَّـعِ.فلماذا نسجن الفرد العربي في هذه الترسانة "الطِّـبـِّسَرِيرِيَّـة"، عوض فتح آفاق دراسية أكثر تفاؤلا، و أليق للعربي، تجعل منه أس اهتمامها، و موضوع دراستها الأول.
إن الطاهر لبيب أعرض عن إجماع ما اعتبره-واعتبرناه-جانحا وأعلن صراحة نقده لأغلب الدارسين الذين يرى في دراساتهم مضيعة للوقت و الجهد، و تواطؤا مقصودا مع من يحجر الفكر و الفرد العربيين.
إن من أهم نقط قوة أعمال الطاهر لبيب كما أومأنا إلى هذا سابقا؛ مقارناته الكثيرة بين المتون العربية الحديثة، والمتون العربية القديمة، و مقارنة هذا الكل مع ما يقابله، أو يشبهه، في الثقافات الإنسانية الأخرى.
وكتاب سوسيولوجيا الغزل العربي هو في الأصل أطروحة تقدم بها الطاهر لبيب لنيل دكتوراه السلك الثالث من جامعة فرنسية تحت إشراف جاك بيرك، وقام بترجمتها إلى العربية القاص والناقد المغربي مصطفى المسناوي. والمحاور التي تناولتها هذه الأطروحة ناقشت الكون العذري الذي هو مثار نقاش بين دارسي التراث العربي الإسلامي. وتعتبر دراسة صادق جلال العظم من أهم الدراسات التي سبقت عمل الطاهر لبيب وأثرت على بعض نتائجه واتفق معها في تفسيرها لظاهرة الشعر الغزلي العذري و أقر بتفرد تحليلها عن الدراسات السابقة تلك التي خطها شكري فيصل، أو الأخراة التي تضمنها كتاب أحمد الحوفي. ومنطلق كتاب سوسيولوجيا الغزل العربي هو نفسه الذي وجدناه عند صادق جلال العظم ويتلخص في كون ما صيغ وقيل عن الشعر العذري تعتوره مغالطات كبيرة نابعة من التسرع في متن هذا الشعر أو في الهالة التي يتمتع بها الموروث الثقافي و تجعل من بعض المعاصرين يقبلون ما جاء فيه كأنه حقيقة مطلقة. وهذا التفرد أو الاختلاف هو الذي أغرانا وجعلنا متحمسين لدراسة كتاب سوسيولوجيا الغزل العربي. وإن كنا لا نذهب إلى حد استنتاج نفس النتائج التي جاءت في هذا الكتاب، فإننا نسجل له جرأته المعرفية، وتفرد طرحه.
والتمس كاتبنا حقيقة هذا الشعر، والحقيقة التاريخية للشعراء الذين ألصقت أسماؤهم به، بمقاربة اعتمدت السوسيولوجيا منهجا؛ فكان أن درس الانتماء الاجتماعي لزمرة الشعراء العذريين، والعلاقات التي كانت سائدة في عصرهم وتأثير الصراع السياسي بين الأمويين و آل البيت و أثر انتقال عاصمة الخلافة إلى الشام و تمتع الشاميين بجميع الامتيازات المادية و الاجتماعية والسياسية. وتقهقر الحجاز وكراهية الأمويين له الذين حرموه من وسائل العيش الدنيا، وقمعوا، كل تحرك مناوئ أو احتجاج ولو كان سلميا، بطريقة لا تخلو من بطش ودموية. إن هذا الواقع هو الذي جعل لبيب يؤطر أطروحته ويقرأها مستحضرا تقنيتي (التورية والتقية) اللتين كانتا مستعملتين آنذاك لدرء قمع السلطة، و كل من له قوة أو صولة. وألفينا ما كان يعتبر مناجاة للحبيب، وعتابا له كان في الحقيقة انتقادا ولوما للحاكم. واتحدت صورة الحبيب، وصورة الحاكم في هذا الشعر، وطفقتا تشكلان صورة واحدة قاسمها المشترك القسوة والتجبر. فالخصاء وظيفة مارسها الحاكم والحبيب، واستيحاء صور واحد منهما للدلالة على الآخر كان ديدن العرب آنذاك. ولا غرو كما أسلفنا إذا التجأ العذري إلى الحديث عن الحبيب المتغطرس والرافض للوصال، و المُعْرِض عن صريعه، و هو يقصد الحديث عن الحاكم الذي جعل من حياة بني قبيلته، و حياة أهل الحجاز جحيما و معاناة لا تضاهيها معاناة.
إننا أمام تقنية تعبيرية مقصورة على اللغة العربية دون غيرها وتشكل طاقتها الهائلة في تمرير المضمر، والمسكوت عنه، بأساليب لا يتقنها إلا ناطقوها. وهذا نابع عن كون اللغة بنية من البنيات الاجتماعية تتأثر بما يتأثر به المجتمع، وتعكس هواجس وهموم متكلميها وكذلك الحدود التي تفرضها تركيبا ومعجما. فلا يمكن فصل الواقع العربي -الذي لم يعرف لحظة مورس فيها حكم عادل-وبنية اللغة العربية المهووسة بالتقية، والتورية، إلى درجة بات المُضمر، والْـمَجاز، وماشاكلهما، بنيات من البنيات الأساسية التي لا محيد عنها لهذه اللغة. إن الثنائيات الإنسانية التي اشتهرت في عهد بني عذرة-سواء وُجِدت أي مارست وجودا تاريخيا، أم كانت من صنيع الخيال-تختزل جميع الظواهر التي تحدث عنها الطاهر لبيب؛ من انتماء اجتماعي، وازدراء لرغبات الفرد، ونوع القيم السائدة، وجبروت السلطة السياسية، وحال اللغة و الثقافة آنذاك.
كما أومأنا إلى هذا سالفا يندرج كتاب الطاهر لبيب في إطار الدراسات والأطاريح الأكاديمية وهذا النوع من الدراسات يمتاز بدقة وجدية-أو أحدا منهما-تفوقان ما نلفيه في الكتب التي يكتبها أصحابها بدوافع تختلف عن الدوافع الأكاديمية. يقول الكاتب متحدثا عن الدوافع الذاتية والموضوعية التي كانت وراء اختياره لهذا الموضوع والخوض فيه.
8) آراء الطاهر لبيب في الجمال والحب أو ما بعد الحب العذري:
يفسر الطاهر لبيب اختياره لموضوعة الحب في دراساته لتدارك النقص الذي مس الكتابات السوسيولوجية العربية متهما إياها باستمراء حل المشاكل والانشغال عن الجمال. فالجمال - كما يعتقد لبيب - ظلّ دائماً في موقعٍ قَصِيّ من اشتغالات علماء الاجتماع، الأمر الذي أدّى لتسطيح مفهوم السوسيولوجيا واقتصاره على حلّ مشاكل المجتمع العربي؛ وهذا برأيه، ما لم تفعلْه أكبرُ مدارس العلوم الاجتماعية في الغرب. ويعترف كاتبنا للسلف إبان تميزهم الحضاري وإشعاعهم الثقافي قد عبّروا عن الحب بأرقى ما يمكن التعبير به، وألهموا ثقافات أخرى بمفاهيم الحب النبيلة ولقد ذكرنا كيف تولدت ردود فعل عشقية في أوروبا تأثرا بقيم العشق العربي كالتروبادور مثلا ؛ لكن إخفاقهم الحضاري الذي تضافر مع مطلع القرن الثاني عشر أدى إلى تراجع هذا التراث، الأمر الذي قاد في النهاية إلى شيوع ثقافة الكراهية وبغض الآخر.
ويذكر لبيب وهو يتحدث عن صورة الأغيار في الثقافة العربية في عصورها الذهبية يستنكفون عن إعلان إعجابهم بحضارات الأمم الأخرى، ولم ينكر العرب فضل تراث الهنود والفرس والروم عليهم، أما الآن كل شيء تغير في قيمهم وبات كل مغاير لهم عدوا.
إن انفتاح أسلافنا على الثقافات الأخرى أثر إيجابا على خطاب الحب في الأدب؛ واغتنى معجمهم بكلمات أكثر رهافة ورقة وعوض أن يصفوا حبيباتهم بما ألفوه من ألفاظ مثل "الظباء" و"الغزلان" تغنوا بمحاسن "الشركسيّات" و"البيزنطيّات" و"الروميّات" بلغة مدينية منقحة قادمة من البلاد التي فتحوها أو كانت لهم معها علاقات ثقافية أو تجارية. واليوم يقول لبيب معلقا على كره العربي لنفسه وانتحاره/تفجير نفسه لأتفه الأسباب باعتباره محصلة طبيعية لتفاقم خطاب الكراهية وتغييب خطاب الحب لأن العرب الذين أنتجوا أعظم صيغ الحب، صار المطلوب منهم، اليوم، أن يثبتوا أنهم قادرون على الحب!.
ويعتبر لبيب أن نشوء الحواضر الإسلامية أن نشوء الحواضر الإسلامية أدّى إلى ظهور أنماطٍ جديدة في التعبير عن الحب، منها ظهور الشعراء العذريين وما أطلق عليه "الحب العذري". وأكد أن الدين لم يكن دخل مباشر أو غير مباشر في هذا الظهور.وهذا ما ذهب إليه في الكتاب الذي درسناه" سوسيولوجيا الغزل العربي" ونحن نميل إلى هذا التحليل ونزكيه:
ولبيب كما رأينا في الفقرات السابقة بنى تصوره لفلسفة العذريين على فكرة رئيسة، تقول "إن المرأة لا تدرك"، وأن الفئات التي طالها التهميش في ظل الدولة الإسلامية خاصة الدولة الأموية عبرت عن هذه الهامشية بواسطة علاقتها بالمرأة. وخلص إلى أن العذريين لم يكونوا أسرى لمثالية دينية أو مجتمعية أو سلطوية؛ بل جماعة مهمشة رمزت إلى هامشيتها من خلال علاقتها بالمرأة وكثفت هذا الترميز في شعرها.
ولا يفوت كاتبنا الفرصة ليبين أن الحضارة الإسلامية وإلى حد منتصف القرن الحادي عشر لم تقف حاجزاً أمام الشعراء "فكانوا يعبرون عن حبهم الصريح للمرأة، ويتغزلون بجسدها، ولم نسمع أن أحداً منهم كُفّر أو قُتِل". ويجرم التمركز الذكري الذي أضاع تراثا شعريا للمرأة؛ فالمرأة أحبّت ولا بد أنها قالت شعراً ولكن الميزوجينية العربية حالت دون وصول هذا التراث إلينا.
9) خاتمة:
كما رأينا أن الطاهر لبيب برع في صياغة كتابه الذي درسناه ومنذ كتابته قبل أربعة وثلاثين سنة، أثار ضجةً في حينه، بل وما يزال. ولعلّ ما قاله المستشرق الفرنسي الأستاذ بالكوليج دي فرانس أندريه ميكيلAndré Miquel (إن المهتمين بالأدب العربي الكلاسيكي لم يعد بإمكانهم بعد أن صدر هذا الكتاب -أي سوسيولوجيا الغزل-أن ينظروا إلى هذا التاريخ كما كانوا ينظرون إليه) وشهادة كهذه من عالم ملم بالثقافة العربية أحسن ثناء يقدم لعمل الطاهر لبيب.