شهوات الريح لمليكة بنمنصور
1- ترشيف الدخول:
إن كتابة المرأة ولفترات طويلة شهدت الإحساس بالدونية والسيطرة الذكورية المبثوثة في اللغة من جهة، وفي مقومات الحياة الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى.
إن التذكير بهذه المعنى قد يسعفنا في تعيير إبداع المرأة وشروط إبداعيتها التي ظلت مطموسة بسبب هذه الشروط الاجتماعية الكابحة.
فالكثير من الالتباسات التي شكلت دوائر سياقية حول ما تبدعه المرأة، شكلت الاستشكال الاصطلاحي من مثل “كتابة نسائية” الذي يستشف منه افتراض محدد أساسي لهذه الكتابة يمايز بينها وبين كتابة مبأرة للرجل.
إن أي احتفاء بكتابة المرأة يجب أن يرصد أهم المتغيرات التي تختص بها هذه الكتابة إذ الاحتفاء بما يمايز هذه الكتابة إنما هو تأكيد للاختلاف الذي يتجلى في تعبيرها عن تجربتها الخاصة ورؤيتها للواقع عبر متخيل خاص بها تمتح من العلاقة الخاصة والمتشكلة ما بين المرأة الذات والمرأة الكاتبة، وأيضا ما بين جسدها وموضوع الكتابة.
إن الوعي النسوي وهو يمسك بأبعاده التي تجعل من الكتابة النسائية توصيف خاص بما تنتجه المرأة على المستوى الرمزي: (قصة، رواية، قصيدة، لوحة، سيناريو، فيلم …). إن عالم المرأة يمثل أمامنا مملوء بالقيم أكثر مما هو فعل خاص، إذ تجربة الأنثى لا يمكن فصلها عن التجربة الإنسانية.
إن النص الإبداعي ما يزال بالنسبة لنظرية الأدب يخفي آليات اشتغاله عن المتلقي، ومع ذلك فالإمساك بانزياحات المعاني التي ينتجها النص لا يتم بشكل معزول عن تجربة المبدع الذي يضع تجربته الخاصة بين الواقعي والمتخيل، خاصة وأن التجربة الذاتية تشير في نهاية المطاف إلى نمط تستعين به الذات الكاتبة عند ولوجها منظومة القيم.
2- الأفعال العشقية وبنية الاشتهاء:
إن هذا الديوان الذي بين أيدينا -ديوان الشاعرة مليكة بنمنصور الموسوم ب”شهوات الريح” – بقدر ما يشكل نسقا دلاليا وهو يعبر عن شمولية ما يقوله، يشير إلى نمط الوجود وهو يقع بين الأفعال العشقية المحققة فيه وبين ما يخفيه في ثنايا المسافات الفاصلة بين البنية المفهومية التي تمنحها الصورة الشعرية ووصلة الخيال وأيقوناته داخل القصائد حيث لا حياة هنا للأيقون الأخرس.
يعرج بنا هذا الإحياء الأيقوني إلى مساءلة بنية الاشتهاء في ديوان مليكة بنمنصور، الشيء الذي يدفعنا لطرح عدة تساؤلات بما هي تجربة كلية، لكن يظهر أن كل فعل تعبيري لدى المرأة الكاتبة هنا وهي تستضمر وجودها شعريا، يشير بشكل واضح أو مضمر إلى نمط معين تنتظم فيه القيم وهي تشخصن وتستثمر حدود المجال الجنسي المحدد الأبعاد فيما تنتجه المرأة والمتمحورة حول: نسائي/رجالي.
إن فعل المرأة في حقل الكتابة يمارس إغراء من نوع خاص وخاصة في تلقيه العام وبما يشكله الجسد الأنثوي والكتابة به من اشباع متنامي للعلامات، فشرط الجسد الذي أصبح مقياسا للكتابة التي تدعى “الكتابة النسائية” يتأود داخل النص النسائي سافرا ومعروضا للملاحظة والمراقبة والتأثيم”، فبين الجسد الفاتن والجسد الآثم تكمن أجساد عدة تحمل من الدلالات بحجم تعددها، الشيء الذي يجعلنا مقتنعين بأن فعل إدراك الجسد ينبني أساسا على عملية بناء العام. إن الجسد النصي داخل القصيدة ناب هنا عن الشاعرة وكتب عالمها بصدق، فالمتلقي وهو يتلقى النص النسائي لا يستطيع إى أن يدخل هذه الكتابة ضمن سجل السيرة الذاتية والاعترافات والمذكرات الشخصية في حين نجد أن الكاتبة لاتكتب إلا ضمن وضعية الإبداع المتخيل.
ففي الكتابة الإبداعية يغدو الجسد وسيطا فزيولوجيا يحلل كيمياء الذات إلى مختلف الخطابات التي يمكن نسجها حول النص الذي يقع على حدود كل شيء ويلامس المشاعر والأفكار والتجارب لصوغ لحظات التحول التي تتيح وضع الجسد موضع سؤال بما أن المرأة تعيش داخل وضع مجتمعي مطبوع بالحيف، يعمل على تقسيم الأدوار وفق شرط الرجل الذي يمنع المرأة من أن تركب عبر المتخيل حافة جنونها كي تستعيد حريتها وإنسانيتها.
3- حضور الوعي/الجسد جسد قصيدة/الرقابة الذاتية
“ولن يشملني قانون النارهكذا أغنيها وتغنيني القصيدة دوما”. (ص. 34)“كي لا يسرق النوم منك قافيةوتصبحين ولهى تنادين:اين ضاعت قرتفلتي؟وأريج مر من هنا ولا أثر؟ (صك 78)التلقي الشعري يشاكس وعي اللغة
ـ هل اللغة بالديوان تفكر وتحس إحساساتها الخاصة بالموازاة مع الشاعرة؟
ـ هل ينبني إنتاج النص على وجود خطاطة أو خلفية مفترضة تمنعنا الشاعرة من تلقيها؟
ـ هل تتسع دوائر الخوف عند الشاعرة إلى إيقاف المسارات التأويلية التي تطمئن إليها الذات المتلقية؟
ـ هل أنتِ المؤنثة بالنص تنتشي بأنتَ المذكر ولو عبر مشارف لغة حالمة؟
ـ ما هي آليات هذا الكبح الذي يرافع داخل النص الإمكان المتخيل وحصر السياق في تصور عام لعشق “مثال” بعيدا عن آهات الجسد؟
إن المتن الشعري هنا يؤسس لخريطة عشقية تستبيح التعميم حينما تستدرجه نكهة التقديم” تقول الشاعرة:
“وريح تبدو ظالمة غير مبالية وهي تضرب الأعشاش وتطيح بالفراخ، وتشتت مرافئ الدفء، ومظاهر الائتلاف”.
إن الشاعرة تقف على وجه أفق التوقعات الحالمة للتلقي تعمل على تجميد حالات انتظار سلوكية ينمطها المتلقي حول كتابة المرأة، إنها تحتمي بالقصيدة وتتدثر بالحروف من هذا التنميط لتخلق عبر لحظات الديوان حالات مستعصية وشهوة لا تستقر بدائرة الجسد الأنثوي تقول:
“ليت للريح ذاكرةبها تحتمي الطيور التي فقدتأعشاشهاودهشةكلما هبَّ .. تعتريني”(ص:14)
ذاكرة العشق هنا لا تنتفض لتصبغ الريح بشهوة الجسد، إن الإيقاف التأطيري في قصيدة “أنا والريح” يتمثل عندما قالت :
وصرخة ممتدة.في كل ديوان من دواويني .. (ص. 14)
إنها شهوة تتحقق باللغة، ودهشة كلما هبت تعري وقد لا تصل إلى الإغواء العام للجسد، إن العمر ممتد في القاموس يتنفس متخيله الحالم.
“وعمري أنا
كعمر القصيدة يلحقني” (ص. 15)
إن العشق وتحققه يستدعي الامتلاء المزدوج للشهوة. فالصور الثقافية المتعددة لأنثى الشعر تتمثل جسدا مغر يحمل طاقته الإغوائية خارج نسق اللغة، فهو يوحي كي يخرج من عزلته الوجودية ليعيش اللحظة بمثابة العمر الكامل. إن الجسد يذوب كي لا يعيش لذاته المتنتغمة مع الرغبة في الوجود، أنه يعطي كل شيء للآخر كي يتحقق وجوده، إنه الانسجام الذي يوقع الأغنية الأزلية، فما إن يغلق دائرة حتى تبدأ الدوائر الأخرى في التناسل، إن العشق لا يؤدي إلى الشبع فهناك جوع دائم.
“الأغنية التي لم تتموالأغنية التي لم تبتدئسيتعلن العشق غدادورته الكاملة” (ص. 20)
على الشعر أن يمارس إبهارا للذات والآخر وهو يختبئ وراء الوعي.
إن الشاعرة مليكة بنمنصور وراء كل الكوابح الاجتماعية التي تزلزل دفء الأعشاش ونظرا لالتزامات الأسرية والاجتماعية تقر للريح بالسكن في تخوم الشهوات تلك الشهوات التي كانت تقمعها وهي تحيلنا دوما على أنها تعبر عن شهوات متخيلة تقول:
“هكذا يسكنني عرس القوافي:
قمرٌ ذاهبٌوآخر آتٍ (ص. 32)“ولن يشملني قانون النار
هكذا أغنيها وتغنيني القصيدة دوما” (ص. 34)
فهل يا ترى استثنى قانون النار شاعرتنا في النص ؟ أم أن حرقة السؤال الشهوي تم التعبير عنه لا واعيا بالرغم من الاحتياط الذي أبدته الشاعرة واعيا من الوقوع فيه.
تقول:
“إن سقط الحلم سهوامن شاعرةنامت على شهوة الريح” (ص. 86)
وحيث يكون المختفي أهم من الواضح يظهر أن شهورة الريح لابد من أن تنفلت من الرقابة الذاتية للشاعرة.
“فالأحلام الممنوعةعادة … ما ترقص خلفالستار” (ص. 57)
ولما كان النقد هو فن التقاط السلوك الانساني على خلفية النص الإبداعي فإن عنوان القصيدة “أنا الريح المؤنثة” يحيل بشكل آلي إلى أنتَ الريح المذكرة، إن جل القصائد المسكونة بشهوة الريح لا تعادل قصيدة “كي لا تنطفئ” التي يتم الإعلان فيها عن منبع الشهوة حيث يحمل عينيه بلا لغة وهو ساهم في حروفه المترعة بالعشق.
“قال اتبعيني .. ومشينا” (ص. 27)
إن نمط الصياغة عند الشاعرة هو الذي جعلنا نفسر الطريقة التي بنت من خلالها “المشاهد الجنسية” وعلاقتها بالجسد، يجسدها ويجسد الآخر، إن هذا الأسلوب الشعري يشتغل خارج الخطية الشعرية التي تبني أفقها انطلاقا من أحداث الجسد حيث تتراكم في وعي الشاعرة بناءات وصور تقف أمام كل استيهام ممكن أن ترتاده الكلمات والتراكيب كي ينضح النص جنسا ولذة وشهوة، فلما وقف الشعر عن الانزياح اللاواعي تحركت آلة المتخيل، والإحالة عليه، لكن من خلال الغوص في الأعماق النفسية لنصوص الديوان تسلل إلى الصور الشعرية عالم جديد، لا يمكن أن يدرك إلا من خلال قوانين تجربة الاشتهاء ذاتها. أن تكتب المرأة لا يعني التقيد بالمقاييس المعي** عند المتلقي أو الناقد.
فالشاعرة عندما توظف الجسد يُفسح أمامها أفقا مغايرا يتجاوز نطاق التعبير، إن هذا التوظيف تشريط مطروح بإلحاح على الكاتبة بما هو موجود بالقوة عندها، وهو المؤهل لاستنطاق وتشكيل عوالم طالما غلفها الصمت وحجبها النسيان.
إن ما تتجه له ليس مسألة وضع وصفة جاهزة لكتابة مفارقة بل المقصود هو إيلاء مسألة تذويت الكتابة أهمية قصوى بوصفها عنصرا ملازما لسؤال الكتابة المقرون بالنسائي، سؤال ما يزال ضاج بالاحتجاج، محتشد بالاستنكار، سؤال مهووس بالتفاصيل التي تفضح وتعري وتغري كي يجعل النص النسائي في إطار تلقيه إلى السفر في الحدود القصوى لهذا الممكن المتاح، “فما تزال المرأة تكتب عن ذاتها وما تزال القراءة بتلصص تحكم تلقي الذكر لهذه الكتابة.
كلمة أخيرة:
لابد من القول بأن الامتلاء بالأشياء الزائدة يثقل كاهل الوجود لكن عندما تتحول النشوة إلى الارتقاء بفن القول يمكن للوجود أن ينبني على انتصار الإنسان على ذاته.