صحيفة الجرة
وفيها نعترف أننا اطلعنا على بعض الكتب، وعرفنا حقائق واكتشافات، منها قول "فرويد": الأحلام صور متلاحقة يبثها عقل النائم، وهى تعبير عن رغبات مكبوتة. هكذا قال هذا العالم، ولكنا نقول إنها إحدى نكاتنا الكبرى فوق ديامو جزيرتنا التى نعيش على يابستها، اخترعناها كالحقيقة لنسخر.. عليك أن تبحث عما وراءها..
سيأتى يوم تحل أشياء بديلة عن أشياء، وتكون "ديامو" عاجزة عن أن تهب تاريخها، أو تتخلى عنه – ومن كان فى جورة نار، ليس كمن يسبح فى بركة ماء، الأول يصرخ لـوعة، والثانى يصرخ متعة – أكان الغربال مليئا بالماء؟! كنا جميعا أهل "ديامو" نرى فرعون، والبقرات العجاف، وكذا البقرات الأخريات.. كنا معه نلمسه جلدا بجلد، وزفيرا بزفير، دون دهشة منا، أو منه، ثم اختفى كما تختفى الأحلام فى أى منام، وأحاطت بنا صور، ظلت تتوالى، والليل سيد لنا، ونحن خدامه – لعدم الإفصاح الكامل هنا أننا مازلنا، وسوف نظل على خجل لما حدث فى تلك الليلة المذكورة – ستكون لصاحب الصوت النكرة الغلبة، وعلينا حسن الطاعة، صور.. صور: أولا أعطانا الشائب البحر سمكة عجيبة، بلا رأس ولا ذنب، عيناها فى كتفها، وفمها فى صدرها، ولها ثمانى أرجل، ولذلك فهى تمشى على جانب واحد، كسكران، أو مصاب بفالج، فلما قمنا بوضعها على النار، انبعثت رائحة شواء طيبة آثرة، دعتنا لتذوق لحمها، فى التو غمغمنا، كنا نستمتع ونستلذ، واكتشفنا أنه كلما أمعن البحر فى التعمية، كلما كانت رسالته حاضرة ناصعة، صاح صوت ضائق: "نحن على البر لا فى البحر"، وماذا يعنى؟! نحن فى ضائقة سواء كنا على بر، أو فى بحر، ديامو – كما تعرفون – جزيرة، لم تكن لنا فيها غابات، لتسكن فيها الزرافات أو الغزلان، أو توحشها الضباع والذئاب والنمور، وكافة حيوان بناب أو مخالب، هى كلابنا طبعا – إذا عدت من السباع، وهى لا تعد – فهى لا تفلح إلا فى أن تمرح فى ربوعنا، تتسيد ليلنا بنباحها، الذى لا يثبت سوى أنها كلاب لا شغلة ولا مشغلة.. إذن ديامو يابسة بيضاء وسط ماء، والبياض هنا يعنى أنها بلا حيوان ينهش، أو يلغ، أو يبقـر، هى فى الحقيقة يابسة بنية اللون والرمل، هكذا بلا وحش، إلى أن ظهر الـوحش، وبتنا من المصيبة نصرخ: يا ويلاه يا ويلاه، سنكون عبرة بين الأمم، ولا أحد يرحم، هل نصنع عدونا؟! من يجيب على هذا السؤال يملك المفتاح، وبعدها يصمت أو يجادل، فعنده حينئذ وفرة فى الإجابات، سنقتل هذه الطيور، التى أرسلها البحر إمعانا منه فى اكتمال الحوسة، ومن صاح لينقل خوفه إلينا: "طيور عمياء.. اهربوا يا جدعان" هبدناه بحجر فى رأسه، فتفجر دمه، أخرسناه، والتفتنا.. سماء ديامو غامت بآلاف منـها، كأنها تخلقت من رزاز الموج، تطير فى هيجان فيه جنة، وطيش الطيش، تصـرخ: "صو. عوو. صو. عوو"، وهى فى طريقها إلينا، عازمة على الويل، والدمار الكاملين، وخطف العيون، شهب مسلطة، وصوبنا نحن، حجارتنا سلاحنا، وصرخنا مثلها: "صو. عوو. صو. عوو"، والنبابيت عمياء فى أيدينا، ونتف اللحم المريش تتطاير فى كل الأنحاء، كل ذلك جرى، وحلقت الطيور الباقية مرتعبة، ومندحرة نحو البحر، وغابت خلف أمواجه البعيـدة، وتجلت تحت أعيننا حقيقة: ما الذى جاء قبل، وما الذى يحدث بعد؟ لتجعلنا نسأل سؤالا يموت، وينبعث من موته حيا دائما، ومشاكسا للأجداد والآباء، الذين عمروا ديامو، وصرنا الخلف يحيط بنا "اليوم" بما يلد من عظائم الأمور، ومستجدات الفعـال – دعنا من هذه اللغة – حق لنا أن نسأل نيابة عن فضولنا، بل وحتى قلقنا، وهمومنا، كانت الوقائع تحاصرنا بألوان، وروائح، وأصوات كأنها تمسك بنـا، ونراها جلية حاضـرة، والمتعوس يقلب راحتيه، يمشى على مهل، نازلا من العلايـة، آتيا من عند جدار الحجارة، بعد أن نقش اسمه على حجر، وكتب: للذكرى.. أكتب اسمى على مآقى العيـون، فلا تمحوه السنون.. عبيط، ولكنه قبل أن يستوى فى نزوله تعثر على وجهه، وتلعثم، وهو يرى هذه الجرة الممتلئة حتى تبتها بالعملات الذهبيـة، جنيهات جنيهات، تصدرها الدولة فى مناسبات بعينها، وحسب فى اللحظة أنه بهذه الجنيهات قد انفتحت له أبواب الدنيا، وعجل بحملها، وهى الجرة الثقيلة، عتل عتلـة، ولما صار تحتها، انتفخ وجهه، ونطت عروقه، وكان أن ضرط بواحدة مثل طلقة مدفع، فضاع فى التو حلمه، واستيقظ على رجع صدى الضرطة فى أذنيه، لم يستفد من حلمه سوى كنية أطلقناها، وصارت متوارثة بديامو إلى يومنا هذا.
قال قائل منا: "لا يكون الأشرار أغرابا دائما"، لا نتذكر أقالها، ولها مناسبة، أم لنذكر أنه حكيم يتمتع بالحكمة، قال: انظروا.. كانت السماء احمر أفقها، ولسنا فى صبح أو مغرب، وكانت السحب تتكون بمشهد فى منتهى العجب: عشرة حمير طويلة الأذن، لها ذيول بخصلة شعر ومعرفة، ورؤوس كبيرة غليظة إذا تأملتها، راسخة القدم، تتهيأ لحمل أثقال على أرض صلبة، فى رحلة شاقة، كثيرة العنت.. أجمل امرأة فى ديامو صرخت، ونحن نرفع الوجوه، حيث تداخلت سحب الحمير، وتفككت، وضاع المنظر، ليتشكل مرة أخرى، تجلت فيه الجميلة جسدا عاريا خارقا، شاهدنا عبقريته، يتقلب فى عريه، متكسرا مستلقيا مقعيا مقرفصا مفرشحا مقبلا، يأخذنا جميعا فى أحضانه كروان يضحك، بلبل طليق اللسان، شحرور ينغم بنغمات، عصفور الدورى يغنى أثناء الطيران، قنبرة لها شدو مطرب، مزيج من شجن وأنين، كان لجسد الجميلة كل هذا الحضور، وكان لحمير ديامو العشرة حضورا على أرضها، حين سلكت الغريب عن طبعها، جعلتنا نبتلع ذعرا متوهجا لا يخمد، وهى تستبدل النهيق بالزئير، والمسكنة بالبطش، غيرت رأيها فينا أكثر من مرة، نحن أهل ديامو هل يمكن أن نقول أن الخيال غادرنا؟! بئس الرأس بلا خيال.. الذى تشـجع، وأطلقها لسانه، نال عشرة رفسات حالا، فانكتم، منزويا يعانى، يعض على لسانه، لا يستطيع إطلاق أصوات ألمه، الذين مالوا نحوه، اصيبوا بنفس العقاب، فابتعـدوا.. فجأة توقفت السحب عن التشكل بأى أشكال، ويموت الزمن لحظة أن نطقت بلساننا الآدمى: "اخرجوا من هذه الجزيرة"، وأشارت بذيولها إلى البحر: "اخرجوا من هذه الجزيرة"، ماذا؟! أنخرج من ديامو؟! إلى أين؟ قلنا بفزع.. أربعون قدما دقت الأرض بالحافر، تخلخل فضاؤنا بأصواتها، كانت مقعية، تكشر عن أسنان قواطعها، تكنس الأرض بذيول رائحة غادية، بأس فى عيونها، وفى طبعها وحشة، غدر فى تصرفاتها، أسود غبرة.. أنصدق؟! كنا فى ضائقة، وكانت الحمير تعكنا بلفح أنفاس زفيرها، ومخاطها المختلط، صاعقة نزلت، فى وميض رعدها تأمرت، وعدلت فى فرمانها السابق، صاحت: لا دخول، ولا خروج من الجزيرة، هل نختنق بهذا الأسر؟! كانت قد فكرت، انتقت عشرة رجال، سيتم إخراسهم بعملية سريعة باترة، هم الصلة بين ديامو والبلاد، سيذهبون حيث يجلبون التعيين من فول، وتبن وبرسيم، قالت: هذا طعامنا، أما علب السمنة، وزجاجات الزيت، وعبوات الأرز، وأجولة الدقيق، وحمولات البصل والثوم، وكمية من بهارات منوعة، وأدوية سعال، وحبوب صداع، عطارة، ولوازم المزاج من معسل وتمباك وفحم وكبريت وبترول، فسوف يحضرها الرجال العشرة الذين بلا ألسنة.
تضاحكت الحمير ساخرة: لنا فضيلة المطلب الواحد، أو الاثنين، أما الإنسان كثير المطالب فله المتاعب، وأنهت سخريتها آمرة: سيكون مع الرسل قائمة مكتوبة، وهم عندئذ لا يحتاجون لألسنتهم، فاللسان عضلة تلت وتعجن فى الفاضى والمليان، وتخمر العداوة والخصام، التهمتنا بعيون حمراء واسعة، يختبئ فيها سر تعاستنا، فمن أطاع فضوله، تأخذه إلى ظلام قيعانها، يضرب فيها إلى أبد الآبدين.. أيفعل هذا بنا؟! ماذا يراد بنا بالضبط؟! دوّم السؤال ريحا لفت أزقتنا – حتى الحمير ارتعشت – أليس من انتهاء؟ أليس من انتهاء؟ والريح تمد أيديها تخلع أبواب بيوتنا، ونوافذها، تطيرها نحو البحر، حتى صارت البيوت طيور غر سوداء عارية مخرمة، تخرج من خرومها أضواء تتلون بألوان قزحية، ظلت تتلاطم أمواجها المتلاحقة مدة، فى آخر عهدنا بها ظهر عند نقطة انعدامها طريد ديامو، عائدا من العاصمة، ضعيفا وكان عزيزا، مهلهلا وكان وسيما، هى طبيعة التمرد وبطره، من أين يأتى أو يذهب يولد القلق، يخرج من الجزيرة أكثر من مرة، وفى كل مرة يرجع، يخرج مرة أخرى، الآن يبدو فقيرا إلا من معرفة، وكم نكتة فاحشة، يتناقلها الشباب، وتتصاعد ضحكاتهم تثير البنات، تجعلهن يتساءلن دائما: لماذا للرجال رائحة ليست ثقيلة؟! هى إلى الخفة أقرب، ولكنها – ياللعجب – تؤثر تأثيرا.. قلنا بصوت واحد لطريدنا: "أهذا يوم تختره لتعود؟!"، قال: "هو يوم ككل الأيام.. أريد حمارا من هذه الحمير.. أركبه، وأطوف بديامو.. أوحشتنى"
الصراخ والنخير أحاطا بنا، يخرق الطبلتين، دارت حولنا وهى تصول: سنشرب من دم الأبله سطلا، ونسحب مخه عن طريق أنفه، والأحشاء تنزع بشق بطنه، لنترك له جزءا ضئيلا من جسمه، الجلد والعظم، والغضاريف، وًتشبع جثته بالملح، وتنقع فى النطرون مدة شهرين، وبعد ذلك نرفعه خيال مآتة.. كانت الأرض تدك بأربعين حافر بقسوة عاتية، تخرمت يابسة ديامو بسبب ظلم عنفها، واندفع فيضان من مياه البحر، من تحت الجزيرة لفوقها، دوامات تصفر وترعد.. هذه بيوتنا تبتلع المياه، بيوتنا تبتلع، تطلب المزيد، والبحر يعطيها المياه المياه فى كل وقت، فى كل مكان، فى أعلى، فى أسفل، فى يمين أو يسار.. المياه المياه.. هل تغرق ديامو، ويأخذها البحر؟! ماذا يراد بنا بالضبط؟! لاشىء.. فقط كن غريقا، دون غرق، تغمرك المياه حتى شفتك العليا، يعنى حتى شنبك، فلا تصل المياه إلى فتحتى أنفك، تنفس ما شاء لك من هواء، ولكنك يا حلو فى حالة غرق، لأن ليس لك قدرة على الخروج من هول اليمّ، لن تثور، لأنك غير غريـق.. لن تفرح، لأنك غريق فعلا.. هى ورطة، فانظر ماذا أنت فاعل؟ كنا نتهيأ لهروب فعلى، وأخذت أرجلنا تجرى فى محلها، وحتى تتحقق الانطلاقة، همسنا فى أذن طريد ديامو: "الجيد يساوى السيئ، وعليك أن تكون حذقا"، كان يتأمل الحمير التى شيبتنا، سمعناه يضحك، وهو يقول: "أما زالت حميركم هكذا فى سمتها الغبى؟! ما هكذا تكون الأحلام!!"، كانت هذه العبارة هى المفتاح لخروجنا من هذا المنام الجماعى، مع الشمس وهى فى سبيلها إلى السيطرة على عنق اللغز، وديامو تتعرف على إنسانها، وحيوانها، نباتها، سمائها وأرضها، وجميلتنا كانت أخرجت الحمير العشرة المملوكة لنا، كل حمار من تعريشته، وساقتها إلى تلك المساحة من الأرض الفضاء تحت العلاية، كانت تحممها بالماء والصابون، وكانت تضرب كل حمار على كفله، عند الانتهاء، لينطلق بلا مقود فى الرقبة، يرمح بين الأزقة. ولسوف تصير الليلة الفائتة، والمنام الذى قبض على أدمغة أهل ديامو من مآثرنا السيارة.