الاثنين ١٩ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧

صح النوم - حلم طال به الانتظار!

بقلم زاهد عزت حرش

تألقت السيدة فيروز في العرض الغنائي الرحباني "صح النوم"، وهي التي لا تستطيع إلا أن تتألق. فقدر فيروز وحضورها الفني الذي كوّن سيماءه رحابنة العصر الذهبي للموسيقى العربية.. يحتم عليها أن تكون شامخة، أصيلة، طوفان من الرهبة المتاخمة حد القداسة.. وهي كذلك!!

إذ ما معنى ان يترجل الرحيل لآلاف الفلسطينيين الباقين على تراب وطنهم.. في رحيل لأرض يسكنها أكثرية أبناء شعبنا الذي شردته النكبة.. لا لتلتقي العيون بالعيون.. إنما لتكحل العيون حدقاتها ببهاء السيدة فيروز، وليشم القلب نثرات رذاذ صوتها العظيم.. فاللقاء بسيدة الصوت والرهبة والمحبة.. كان أثمن، في غفلة الزمن هذه.. من لقاء الوطن بالشتات. وكان لساعات الانتظار الممتدة ما بين يوم الجمعة في الثاني من تشرين الثاني.. بفجره ذو الشمس المتأرجحة بين الدفء ونسيم الشتاء. ويوم السبت التالي له.. سبب يعادل كل أسباب النزوح.. هو ان نلتقي بالسيدة فيروز.. ربما كان الحلم بلقائها اكبر من اليقين.. إذ إننا في صراعنا مع ما نصبو إليه وما نستطيع.. أمر مرهون بلعبة القدر. هل ستعطي لنا الأيام الآتيات فرصة أخرى للقاء يعيد التلاحم الأبدي، لامتداد قطعت أوصاله آلة الحرب والدمار؟ لماذا لا تغني فيروز في الناصرة.. في الجليل، في المثلث.. في بيت لحم، في بيت المقدس!! فيتحتم رحيل الناس بآلافهم الى شرقي الأردن.. يتأبطون أحلامهم ومشاعرهم دون ان يتبادر الى عقولهم أي سؤال عن الأسباب التي منعتهم من لقاءها هنا، تحت سماء فلسطين.

كان المسرح (وليس القاعة) أشبه بقصر صمم بناءه ديفنشيٌ عريق.. فكل ما ظهر أمام أعيننا كان مبهر، رهيب الدقة في تصميمه وتكوينه وبناءه.. كأننا أمام قصر حقيقي تتسربل منه العظمة.. التي تذكرنا بقصور أولياء الله على الأرض.. ملوك هذا الوطن العربي الممتد من الصحراء الى الصحراء.. فرِحنا به وكأنه قصر الشعب.. قصر الفقراء والمشردين.. لان على أعتابه وقفت فيروز شامخة أبية.. كمئذنة القدس أو رحاب القيامة العظيم.

العرض الغنائي.. لم يشغلنا.. ولم يستحوذ على شغاف قلوبنا.. كل ما فينا من مشاعر وحواس كان ينتظر سيدة الأمل.. السيدة فيروز.. فأن مشت، مشت خلفها العيون.. وان تنهدت سكنت القلوب خوفًا من ان تعكر صفو أنفاسها.. كل ما في الأجواء مرهون بها.. لا أكاد اصدق ان امرأة واحدة تستطيع ان تجمع حولها هذا الكم الهائل من الحب والصدق واليقين.. لا شك ان هذا الوفاء الأبدي تراكم على مر السنوات.. ومرور الزمن، لما حملته السيدة فيروز من مصداقية في عطائها الفني الكبير.

كان عليّ ان أعود من هناك بكلمات من أغنية "أهواك.. أهواك.. بلا أمل".. فما تسنى لي ذلك.. ولم تصل لوحة تأبطتها فوق أعباء الطريق الى صاحبتها.. فهي منذ "مواسم الفيروز".. منذ عام.. تنتظر اللقاء.

ربما يكتب الانسان عن ذاته بشيء من الفخر والنرجسية المفرطة في بعض الأحيان.. إلا انه أمام فيروز.. الفن والعطاء والمصداقية التاريخية.. لا يملك إلا ان يفاخر بها.. ولا يستوي به الأمر إلا ان يتنرجس برائحة عطرها الجميل.. فكثيرًا من الحب حملت فيروز في صوتها وحضورها المقدس.. وكثيراً من الحب حمل لها أبناء شعبنا النازح للقائها عبر الأردن.. وما أجمله من لقاء.

أما بعد..

طريق الألم امتد بنا من هنا الى هناك.. ولم يشغل بالنا ولم يثنينا. بيد ان ما نغص وجفف قلبي، وربما قلوب الآخرين.. هو ان يكون الوطن العربي على هذه الحال. تجوب شوارع العاصمة الأردنية.. "فلا ماء ولا خضراء ولا وجه حسن".. طرقات بلا أسماء.. ومساحات من اللون الرمادي تغطي طرقاتها الممتدة من أقصاها الى أقصاها.. وحين تصل الى أعتاب جامعة عمان الأهلية، حيث مسرح "الارينا".. تصاب بالذهول.. أهذه هي الجامعة؟!! الله أكبر.. إذا كانت هذه هي جامعات الوطن العربي.. فكيف يكون طلابها.. وكيف تكون علومها!؟؟

والأنكى من كل هذا، الطريق المودي الى القاعة.. تمر في طريق معبدة.. عبر ساحة وقوف السيارة.. يحتشد الجمع النازح بكل ما يختزن القلب من عفوية الفرح بلقاء الفرح.. فتتعثر بالحفر والحجارة المبعثرة هنا وهناك.. المكان غير مضاء.. بقيّ الناس يتدافعون في لطف لساعتين وأكثر.. والسبب وراء هذا الانتظار.. ان بعض من حاشية "الجلالة" سيحضر الحفل.. فيضطر الناس القادمون من عبر الأردن الى الانتظار.. نساءً ورجالاً.. مسنون وشباب.. فتيات وفتيان.. ومعاق على كرسي وحيد!! ويمضي الوقت ببطء رهيب.. يتنفس الناس يتأوهون.. ويسخرون مما هم عليه.. لكنهم ينتظرون.. بفرح العاشق بلقاء معبودته.. يفرحون.. فقاب دقائق وأدنى سيكون اللقاء.

ندخل القاعة عبر نزول مدرج شديد الانحدار.. ونمر عبر قنوات الرقابة.. نسلم المحظورات لهم.. المهم ان ندخل الى قاعة "المسرح". وهناك.. قاعة كبرى هي بالأساس ملعب لكرة السلة.. فلماذا أطلقوا عليه اسم "مسرح الارينا".

عاصمة "بني هاشم" لا تملك مسرحًا يليق بسيدة الأمل!! لا يوجد مقعد واحد في القاعة يعطيك إمكانية التعامل مع العرض المسرحي.. كمتفرج من الدرجة الأولى.. سوى الصف الأول من الحضور.. حيث لا يحد من مجال الرؤية أمامه أي شيء.. أما الآخرون فكل وبلوته أمامه. الم يصل علم بناء القاعات المسرحية الى الأردن بعد؟! فقاموا بتحويل المكان من ملعب لكرة السلة الى قاعة مسرح؟!! تذكروا مسرح جرش القائم منذ أيام الرومان. في البدء.. ومنذ البدء.. عرف البشر الفرق ما بين قاعة للعروض الفنية الموسيقية والمسرحية، وبين قاعة للعروض الرياضيةّ!! في المسرح يكون المدرج مواجه بخطوط متوازية ردح خشبة المسرح.. مدرج أمامي، وأن كانت به مقاعد جانبية يتم ترتيبها، بشكل متوازي نوعًا ما، مع صدر المسرح!! وإلا كيف ينظر الجالس في مقعد جانبي الى قلب الحدث المسرحي!؟ المسرح ليس ساحة للعب كرة السلة أو سباق الخيل.. فهنا يمكن ان يلف المدرج كل محيط الساحة.. بيد ان للمسرح تكوينه المتعارف عليه منذ ألآف العصور.. كي يكون مسرحًا بكل ما للمسرح من لغة يحاكي بها الممثل بأدواته كل الجمهور.

موجع هذا اللقاء..

على الرغم مما حملته من حب ورغبة في ان أكون هناك.. وعلى الرغم من المشقة والألم.. فان اللقاء بسيدة الأمل هو حدث عظيم بحد ذاته!! إلا ان هناك حقائق لا اقدر على إخفائها. فمعظم الذين حضروا العرضين الغنائيين في ليليتي الجمعة والسبت.. كانوا من أبناء شعبنا الفلسطيني الباقي على ترابه الوطني.. واستطيع ان اجزم إننا شكلنا من الحضور ما نسبته 80% وأكثر.. إلا إذا أردنا ان نعتبر ان بعض "الحاشية الملكية" على قلته.. يساوي ما نسبته أكثر من 80%!!

في مراجعة سريعة لما نشر في الصحف الأردنية ومواقع الانترنيت هناك.. لم يأتي على ذكر حضورنا الشعبي أي كان!! تحدثوا عن مسرح "الارينا"، عن جمعية "الأيدي الواعدة" التي تترأسها "سمو الأميرة" عاليه الفيصل.. وتحدثوا عن شركة "انا الأردن".. وعن الأردن الذي يستضيف السيدة فيروز في "صح النوم".. أما نحن، فهباء وغبارًا منثورًا.. لا اثر ولا حضور. كيف يسمح هؤلاء "ذوي القربى" ألا يكترثوا لحضورنا.. ولولا هذا الحضور لما كان عرض ولا شبه عرض.

للحقيقة والتاريخ.. ان هذا العرض الغنائي جاء بناءً على توجيه وطلب من هنا.. من أرض هذا الوطن الفلسطيني الأبي.. وان ختم شركة نصراوية كان بمثابة النجمة المضيئة على بطاقات الدخول.. وأن ما دفعه الحاضرون من أبناء شعبنا هنا، لقاء تذكرة الدخول.. تجاوز الـ 100 ألف دولار.. وما تبقى منها.. هو ما تسرب الى صندوق جمعية "الأيدي الواعدة" وأميرته بسموها "العظيم".. أن نكران هذا الوجود.. لا يقلل من حضورنا.. إنما يفقد هؤلاء القوم "الأردن" مصداقية الحقيقة!!

حين تلتقي بأحدى أبناء الأردن وتلتقي بأحد أبناء شعبنا الفلسطيني هناك في الأردن.... تعرف الفارق الكبير ما بين القبلي والوطني.. ما بين البداوة والحضارة.. فحسبنا إننا من فلسطين.. أرضًا وتاريخًا وانتماء.

همسة عتاب..

من المتعارف عليه في مثل هذه الأحوال.. وخاصة حين يكون الحضور قد قطع مسافة من العناء لآجل لقاء تاريخي بينه وبين من يحب.. ان تكون كلمة تكريم.. أو شيء من الاعتبار.

وعلى أعتبار ان السيدة فيروز قليلة الكلام في مثل هذه المناسبات.. فلا عتب ولا اعتراض!! لكن أما كان بالإمكان ان ينوب عنها ابنها زياد، الذي ورد عنه في الصحف الأردنية ان "بدأت في عمان منذ نحو أسبوع، تحت إشراف زياد الرحباني، البروفات الخاصة بالمسرحية".. أو أن ينوب عن الفرقة ويتحدث باسمها الممثل القدير أنطوان كرباج.. ليقول وفاءً لجهد هذا الحشد الممتلئ حبًا وشغفًا بلقائهم.. ولقاء السيدة فيروز.. كلمة حق!؟؟ أما كان بالإمكان ان ينثر بعض الكلمات.. طيبًا وتقديرا لهم؟!!

كلهم ينشدون فلسطين.. كلهم يدبكون ويرقصون من أجل فلسطين!! وحين تأتي فلسطين إليهم.. يهربون!! ورغم هذا فلست نادمًا على شيء.. فحسبي إنني كنت هناك.

بقلم زاهد عزت حرش

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى