الاثنين ١٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٨

صواريخ تركي عامر عابرة للقرارات

بقلم: مالك صلالحة

الصديق الشاعر المبدع تركي عامر، المولود في حرفيش (1954)، يكتب منذ سبعينيات القرن الماضي. منذ بداياته الأولى، أمسك بناصية الكلمة بشكل لافت، حيث خلق لنفسه لغة خاصة تميزه عن غيره من أهل القلم. برع في تهجين اللغة مع المحافظة على ثوابتها، وبرز في تطعيمها على اعتبارها كائنا حيا لا يموت. استحدث كلمات ومصطلحات لم يسبق لأحد أن طرحها، مثل "مِسْلاَط" (ريموت كونترول) أو "عَجَفُون" (موبايل)، الأمر الذي يدل على ثقافته الموسوعية وموهبته المتفتحة إضافة إلى تجربته الأصيلة.

كتاب تركي عامر الأخير، "صواريخ عابرة للقرارات" (2008)، صدر مؤخرا عن "منشورات معين حاطوم" (دار الكلمة)، لصاحبها الصديق الشاعر معين حاطوم (دالية الكرمل). ولهذه الدار أياد بيضاء على العديد من مبدعينا المحليين، وليس الأمر غريبًا على هذا الكرملي الرائع. إنه، لا شك، عملة نادرة في هذا العصر المادي الجارف.

يقع الكتاب، وهو نصوص نثرية ساخرة، في 80 صفحة من القطع المتوسط، كان نشرها تركي عامر تباعا، إبّان حرب تموز 2006، في أسبوعية "كل العرب" النصراوية، بإشراف الصديق الكاتب سهيل كيوان، تحت عنوان "خربشات تحت القصف" ومن ثمة تحت عنوان "صواريخ عابرة للقرارات"، يعلق فيها على مجريات الأحداث بأسلوب فذ وبلغة متفجرة، يسميها الشاعر الكبير سميح القاسم، في تقديمه للكتاب، "الكتابة البركانية".

صدر لصديقنا تركي عامر، حتى الآن، اثنا عشر كتابًا (تسعة شعرية وثلاثة نثرية). وفي مدافن العائلة الإلكترونية، كما يقول ساخرًا كعادته، ما لا يقل عن عشر مخطوطات تنتظر الصدور. من بينها، مسوّدة لسيرته الثقافية بعنوان "على هامش القصيدة: مذكرات مجرم حبر"، يعكف على كتابتها منذ 2001، نشر فصولاً منها في "ورقستان" (للأدب والفكر والفن والثقافة)، وهذه منتديات "مفتوحة على مصراعيّ الرّوح لجميع جهات الرّيح"، أسسها وأثثها على الإنترنت مطلع 2007، تحت شعار "لا للأسماء المستعارة".

تتوزع إبداعات تركي عامر ما بين الشعر بالفصحى والعامية والإنجليزية من جهة، والنثر في الأدب والثقافة والاجتماع والسياسة من الجهة الأخرى. إضافة إلى سبع مجموعات شعرية بالعربية، له مجموعتان بالإنجليزية، حيث قسم من القصائد كتبه مباشرة بالإنجليزية وقسم ترجمه بنفسه عما كتبه بالعربية.

شارك تركي عامر في العديد من المهرجانات والندوات محليا، إضافة إلى عدد من المؤتمرات العالمية، بدءا من اليابان (1996) وانتهاء بالمكسيك (1999)، حيث منحته "الأكاديمية العالمية للفنون والثقافة" (WAAC) دكتوراة فخرية في الأدب تقديرا لإبداعاته وترجماته، ومرورًا بسلوفاكيا واليونان والولايات المتحدة الأميركية وجمهورية مصر العربية.

تركي عامر، كما أعرفه عن كثب، لا يتسرع في إخراج أعماله إلى النور. باله طويل لجهة التدقيق وإعادة النظر في مخطوطاته، غير مكترث لعامل الزمن. وكأنه، في ذلك، يذكرنا بالشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى الذي كان يعمل سنة كاملة ليخرج قصيدة فسميت قصائده بالحوليات، مخالفا من يتعاملون مع الحرف بالجملة غير مراعين قواعد الأدب وأصول الإبداع.

هنالك من يأخذ على الشاعر (عمومًا) جنوحه إلى النثر، نصا أو مقالة أو قصة، وكأن في ذلك عزوفا عن الشعر أو تطفلا على النثر. لكن هذا غير صحيح. فللشاعر، كما لغيره، الحق، كل الحق، في ممارسة أنواع أدبية غير الشعر، فهو ابن المجتمع ومن شأنه أن يتأثر بما يدور حوله. فالنثر، بطبيعته، يتيح للشاعر أن يكتب بإسهاب عن مواضيع شتى ليس باستطاعة القصيدة استيعابها.

كتاب "صواريخ عابرة للقرارات"، بمجمله، نصوص ساخرة، أو كما يقول صاحبها: "مجرد شطحات نثرية، على الطريقة الفيديوكليبية، بالفصحى المُوَنَّسَة بالعامية، تراوح بين مونودرامية الإيرونيا وتلغرامية الساركازم، من خلال فوتوغرافية خاطفة لمشهدية ملحوظة (هنا) أو سِسْموغرافية خارقة لِمابَعْدَبَعْدِيَّة ملفوظة (هناك)! ولا يخلو الأمر من لحسة بورنوغرافية مارقة، قد تخدش حياء عبارة أو إشارة أو استعارة، أطلب (بشأنها) صفو خاطر "المنزهين" عن طينة "النقص"!

كان هذا من مقدمته التي يوقعها على نحو ساخر مشبع بالإيحاءات والتداعيات: (تركي عامر، شبكة "كاتيوشا" الفضائية، المربع السحري، حارة الحندور، الضاحية الشرقية، قرية حرفيش، الجليل الأعلى، تشرين الأول 2006).

يفتقر أدبنا المحلي إلى مثل هذه النصوص الساخرة، ومن يتقنونها قلة قليلة. ولنقتبس من الكتاب: (بعد طويل "مطالبة"، أقلية عرب الـ 48 الخائبة تطالها (تطولها) طراطيش صائبة من حروب "دولتهم" السائبة مع أمتهم الشائبة والعائبة!). أو، (عن مواطن عربي فلسطيني جليلي ثمانيأربعيني، دون العادي، يعيش أيامه وأحلامه من كاتيوشا إلى كاتيوشا: "لا أسمح لنفسي، هذه الأيام، أن أكون مترفا (بشكل باذخ وبائخ) لأحلم بسلام شامل!). أو، ("وشو مع العادل؟!". العدالة من مفردات السماء! والسماء رفعت يدها عن الأرض، وأطلقت العنان لقدميها إلى ما بعد الأفق، وما بعد بعد الأفق! وهنا يحضر المتنبي بقوة: "يا أعدل الناس إلا في (معادلتي)/ فيك الخصام وأنت الخصم والحكم!").

شاعرنا الكبير سميح القاسم، في تقديمه لـ "صواريخ عابرة للقرارات"، يقول: "تركي عامر مبدع عربي بامتياز، لأنه يعبّر عن وجدانه ووعيه وغضبه العربي الإنساني، بصياغة كوّنت شخصيتها الخاصة، وبلورت طابعها الشخصي، بحيث أصبحنا قادرين على الإشارة إلى تركي عامر من خلال نصّه غير الموقّع".

ويتابع القاسم: "ما من مغالاة في القول إن تركي عامر أصبح محترفًا، ومن أبرز ملامح حرفته هذه القدرة الواضحة على التصرف باللغة حتى لكأنها كتلة معجون بين أصابع طفل حالم يسعى لتشكيل عوالمه الخاصة بهذه المادة الطيعة بين يديه".

ويختتم القاسم: "ولا تستطيع يا تركي عامر أن تخدعني، فأنت لا تلعب باللغة وبالبلاغة وبالجناس اللفظي على وجه التحديد لوجه المتعة الأدبية فحسب، أنت تمارس ما أسميه الكتابة البركانية التي تقول ما لا يقال وتذهب إلى أبعد مما تقول. ومن هنا فأنا أقترح على قرائك الحذر، وإعادة القراءَة أحيانًا إذا هم أرادوا النجاة من حمأ براكينك المفاجئة بين اللفظة واللحظة وبين القفشة وأختها".

وها هو تركي عامر، في "صواريخ عابرة للقرارات"، يستعرض بعضا من مشاهد الحالة السياسية والأمنية المأساوية التي انحدرنا إليها، متخطين النواميس الاجتماعية والخلقية، وذلك من خلال لوحات ساخرة، سريعة كالصواريخ ومؤثرة في النفوس كتأثيرها، مصورا بعضا من جوانب معاناتنا إبان حرب تموز. ينتقد القيادات المدنية والعسكرية بسخرية مرة وتهكم لاذع، ملمحا إلى تخبطهم في اتخاذ القرارات وتطريز التصريحات والتنصل من المسؤوليات والوعود والمواثيق والمعاهدات، كل ذلك من أجل مآرب ضيقة لهم أو لأسيادهم في ما وراء البحار أو في ما وراء الصحارى.

بقلم: مالك صلالحة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى