الاثنين ٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠٢٥

ضرورة التبسيط في عصر التعقيد

منال مصطفى

في مثل هذا الوقت من العام الماضي، كتبت مقالًا بعنوان "التفاؤل مسؤولية جماعية"، دعوةً منّي - كمعلّمة لغة وكابْنة لهذا المجتمع - إلى أن نتمسك بالأمل في وجه عواصف الحرب والقلق والخوف. دعوتُ الأهل والمعلّمين، بل المجتمع بأسره، إلى أن نُبقي شعلة التفاؤل متّقدة، لأنّنا أمام جيل ينتظر منّا أن نُمسك بيده لا أن نتركه يتخبّط في بين لفائف العتمة وطيّات الظلام.

وهأنذا في هذا العام... أعود للكتابة من جديد، محمّلة بمزيد من المسؤولية، ومزيد من الأسئلة.

هل ما زال التفاؤل كافيًا؟ وهل وحده يكفي لعبور طريقٍ تملؤه الفجوات الداكنة والضباب المضلّل؟ وهل يستطيع المعلم أن يظلّ حاملًا لراية التفاؤل، بينما تُغرقه التعليمات، وتُحاصره البرامج، وتُشتّت هدفه الأساس وتأخذه إلى مأخذ لا يريده ليتوه في مسار لا يودي إلى ما رمى إليه؟ فلا هو يصل إلى أهدافه التي رسمها، ولا هو يتقن أن يمرّر المقرّر له من تعليمات وبرامج تكبّل حرّية الرأي. نعم، ما زلتُ أؤمن أنّ التفاؤل ضرورة. لكنّني اليوم أقول بثقة: "التفاؤل لا يكفي إن لم يُرفق برؤية واضحة، وبنية منظّمة، وقرار شجاع بإعادة ترتيب الأولويّات.

في السنوات الأخيرة، لا سيّما هذا العام، نجد أنفسنا -كمعلّمين وإدارات- وسط فيضان من التعليمات والبرامج والمشاريع والمبادرات. كلّها تُصنّف كضرورية ومهمّة، وكلّها تأتي بخطاب يحمل وعودًا بتطوير التعليم، وتحسين المناخ المدرسيّ، ورفع مستوى التحصيل.

لكن ما لا يُقال، أو يُقال همسًا فقط، هو أن هذا الكمّ من التوجيهات المتلاحقة لا يترك لنا مساحة للتنفّس بحريّة، ولا يُبقي للطالب مركزًا ثابتًا يتّكئ عليه. كلّ مشروع جديد، مهما كانت نيّته طيّبة، يقتطع من وقت المعلم وتركيزه، ويضيف عبئًا جديدًا على الإدارة، ويترك الطالب في متاهة من المضامين والأساليب والتقييمات والأهداف.

أتذكّر تلميذة صغيرة قالت لي يومًا: "أستاذة، لا أستطيع أن ألتقط أنفاسي من كثرة الدفاتر والامتحانات." عندها أدركت أنّ الصوت الذي يجب أن نصغي إليه أوّلًا ليس صوت البرامج، بل صوت الطالب. "أليس الطّالب في المركز كما أشعنا في كلّ المناهج التعليمية والتربوية؟ لماذا إذًا نجعل الطالب في خدمة المنهج؟ وأزيد: "علينا في هذا المقام أنّ نؤمن أن الإنسان/ الطالب هو المقدّس وليس المنهج ولا الكتاب المتغيّريْن اللذيْن يجب أن يعكسا عالم الطالب ويخدمانه في كلّّ تفصيل من تفاصيل العملية التربوية والتعليمية".

في خضمّ هذا الزخم، نكاد ننسى أن الهدف الأصيل لأيّ مؤسّسة تربوية هو الطالب: فهمه، نموّه، تمكينه، وحمايته نفسيًا وأكاديميًا تربويًّا وتعليميًّا.

حين يُطلب من المعلّم أن يُنجز كلّ شيء في وقتٍ واحد، وأن يُطبّق كلّ تعليمات الوزارة دون نقاش، يتحوّل من مبدعٍ خلّاق إلى منفّذ جامد، ومن قائدٍ تربويّ إلى موظّف يُنفّذ أوراقًا آمرة. وحين تُحمَّل الإدارة ما لا تحتمل، يتحوّل التخطيط المدرسيّ من عمل تربويّ إلى سباق بيروقراطيّ مع الزمن والمفتّشين والمشاريع الموسمية، ويكون دوره ملء البروتوكولات والرفوف التي يكسوها الغبار.

وبين هذا وذاك... يُنسى الطالب. يُنسى شعوره، وحاجته إلى الاستقرار، إلى الحنان، إلى أن يجد في المدرسة بيتًا، لا ساحةً للتجارب.

في عالم يزداد تعقيدًا يومًا بعد يوم، والحياة تنوء بتراكمات تيه الاستهلاك، في هكذا أوضاع تصبح البساطة هي الحلّ الأمثل. علينا أن نتذكّر أن التعليم ليس سباقًا لملء عقول الطلّاب بالمعلومات فحسب، بل هو رحلة لبناء شخصيّات اجتماعية متكاملة، قادرة على التفكير النقديّ، وعلى حلّ المشكلات بالمواجهة العقلانية، وامتلاك القدرة على التكيّف مع المتغيّرات. إنّ هذا لا يتحقّق بزيادة البرامج، بل بتركيز الجهود على الحاجات الأساسية الإنسانية.

إنّ تبسيط المنهجيّات والتركيز على المهارات الحياتية والأساسية يمنح المعلّم مساحة للإبداع، ويمنح الطالب وقتًا للتأمّل والفهم العميق بدلاً من الحفظ السطحيّ. التبسيط ليس تراجعًا، بل هو خطوة استراتيجية نحو تحقيق جودة أعلى وأثر أعمق. إنّه يفتح الباب أمام التعلّم الحقيقي بدلاً من التعليم المؤقّت.

لا نرفض التقدّم، ولا نهاب التطوير، لكنّنا بحاجة ماسّة إلى إعادة ترتيب الأولويّات:

• تقليص عدد البرامج: التركيز على عدد محدود من المبادرات الجوهرية التي تحقّق أثرًا عميقًا ومستدامًا.

• توحيد الرؤية: أن تكون جميع الجهود متّجهة نحو هدف واحد وواضح يخدم مصلحة الطالب أولًا.

• منح المدارس استقلالية: السماح للمدارس بتكييف التعليم بما يناسب خصوصية طلّابها وبيئتها ومناخها التعليميّ، بدلاً من فرض نموذج واحد على الجميع.

• إعادة الثقة للمعلّم وللإدارة: الإيمان بأنّهما الركنان الأعرف بطلبة مدارسهم، وأنّهم الأقدر على اتّخاذ القرارات التربوية الصائبة.

حين تكون المدرسة قادرة على أن تُركّز في هدف واحد وتُنجزه بإتقان، فإنّها تُحدث الأثر الحقيقيّ. أمّا إنْ ظلّت تركض خلف كلّ جديد دون أن تُتقن شيئًا، فإنّها تُضيّع على الطالب أهمّ ما يحتاجه في زمن الارتباك، وهو الثبات النفسيّ والاطمئنان.

نعم، ما زلتُ أدعو إلى التفاؤل. لكنّني أدعو اليوم أيضًا إلى شجاعة المراجعة، وجرأة التبسيط، ووضوح الهدف. لأنّنا إن لم نعد نؤمن بقدرتنا على التغيير الحقيقيّ، سنظلّ نُربّي أجيالًا وسط الضجيج... دون أن نمنحهم صوتًا، بل إنّنا نكتم أصواتهم بضجيج الجديد الضارّ. وما أقسى أن يكبر الطفل وسط ضجيجٍ لا يسمع فيه نفسه، بينما كان من حقّه أن ينشأ في سكينةٍ تتيح لصوته أن يعلو وهو يحسّ بأمان تربويّ ووقار علميّ.

منال مصطفى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى