السبت ٥ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
رواية "دماء أبوللو" للدكتور زين عبد الهادي
بقلم شريفة السيد

طفل أخرس وإله إغريقي جديد يعبثان في المدينة..

دماء أبوللو هي الرواية الثالثة للدكتور زين عبد الهادي، بعد روايتيه "التساهيل" و"مرح الفئران".
والتي صدرت عن دار نشر ميريت
وتوزع في: ميريت – ومكتبات الديوان – و الخان– و عمر بوك

استعراض عام لموضوع الرواية

تقول الشاعرة شريفة السيد:

في هذه الرواية يقدم الكاتب عالمًا جديدًا تمامًا؛ فهو يعيد الأسطورة الإغريقية للحياة، يكسو أوديسة هوميروس ثوبًا عصريًا جديدًا، يعيد أبوللو لسماء عالم الستينيات، ليجوس البطلان في المدينة، طفل أخرس وإله إغريقي جديد.

في روايته الجديدة دماء أبوللو يستحضر زين عبد الهادي الأسطورة الإغريقية ليعيد خلقها من جديد في العام السابع والستين، يعيد أبوللو إلى التحليق في المدينة، حيث تهاوت الأحلام وانهارت الحياة، وحل ظلامٌ مطبقٌٌ وسكونٌ عابثٌ على كل الأشياء، إنه يعيد بناءَ الحياة بعد الهزيمة مباشرة، يعيدها في شكل طفل هو بطل القصة الذي يُترك وحيدًا في المدينة بعد الهزيمة؛ حيث يواجه أقداره وهو متجاذب الأطراف بين أبوللو هذا الإله جالب الفرح والشمس، والراهبة اليونانية كريستينا، التي كانت كهفه حين يضيق العالم، وعمه خضير الذي يتسكع معه في المدينة بعد نهاية المدينة، حيث يغرق في الخمر وعشيقته وابنته من عشيقته السابقة، وخيالات أسرته التي لا تفارقه وأصدقاؤه الصغار.

لا تنحني الخيالات ولا تتسرب إلى شقوق لا يعلمها الراوي، بل هي مخزونة في عقول أبطالها الحقيقيين، لكن ذاكرة المدينة هي الأقوى، كيف تموت المدن وتحتفل بانتهائها، فلا تعود المدينة مدينة، فهي فقط في عقل من عاشوا فيها، أما هي فقد تغيرت، تغيرت تمامًا، تشوهت ملامحها، انهار بحرها والحياة اليومية التي كانت تقطنها، انهارت الشوارع فخلت من الباعة والمارة والمتسكعين، حتى السماء أصبحت سماءًَ متجمدة، سماءً بلا طيور أو سحابات تعابثها.

يستحضر زين عبد الهادي المجتمع البورسعيدي، الذي هو انعكاس لكل مصر قبل النكسة مباشرة وبعد النكسة بعشرة أيام تقريبًا، إلا أنه يقدم كل ذلك بلهجة غير يقينية متشككة، فلا ندرك يقينًا مَنْ الراوي.؟ هل هو الطفل الذي كبُرَ، أم الكبير الذي ارتدَّ طفلاً..؟.
إنه يلقي بأكثر أسئلتنا وجودية للعالم على لسان الطفل - في حوار مع جدته- كعلاقتنا بالأشياء ومفهوم هذه العلاقة، ربما يكشف الحوار التالي عن طبيعة هذه الأسئلة :

  منقوع الصُرم حرام مش كده يا ستي.
  أيوه يا حبيبي .. أوعى تقرَّب منه لتروح جُهنم.
  هُوَّ أنا ما قربتش منه.. أنا بس شُفت عمي خُضير.. ويانِّي بيشربوا مع بعض، وكانوا مبسوطين قوي.
  ما هو علشان كده حرام..
  حرام علشان مبسوطين..؟ ولاَّ حرام علشان بيشربوا منه؟.
  حرام علشان أي حاجة.. اتلهي على عينك واسكت..
  طب ليه احنا زعلانين بقى..؟ زعلانين علشان هم مبسوطين.. يعني هم لو ماشربوش ها يبقوا زعلانين..؟ ولما يشربوه ينبسطوا.. ويغنوا ويضحكوا.. علشان كده ها يخشوا النار..؟!

يقدم الكاتب روايته في ثلاثة أجزاء متتابعة، أطلق عليها مقاطع؛
المقطع الأول بعنوان عصر الجنيات، حيث يتناول العمل أسرار سن الطفولة من خلال علاقة جدلية بين الطفل وجدته وجده من جانب، وبداية علاقته بعالم الجان والآلهة الإغريقية، وعلى وجه التحديد زيوس كبير آلهة الأوليمب، وأبوللو إله الشمس والجمال والمرح، خاصة هذا الأخير الذي يعد كحامٍ له من أصدقائه الشياطين الصغار داخل المدينة، أو من الأحداث المميتة التي يمر بها، إنه مقطع الاكتشاف والأسئلة الوجودية الأولى، مقطع المرح والجنيات الصغيرات اللاتي لا يتركنه لحظة.
المقطع الثاني بعنوان خيار هرقل، فللمرة الأولى يواجه خيار حياته، عليه أن يختار أيًا من السبيلين كما فعل هرقل ذات يوم؛ حين عرض عليه أن يختار بينهما، وكما تعرض عبد الناصر بعد الثورة، وكما تعرض الجميع، ها هو عمه خُضير الذي فقد ساقه في حرب سابقة يصرح له:
  ايه هو الحقيقي في رأيك..؟ إحنا واحنا ماشيين بالليل.. ولا تفتكر الطيارات الإسرائيلية اللي كانت بتقع وبنهلل لها في الشوارع.. ولا خطب عبد الناصر.. ولا جيشنا اللي اتمرع في سينا.. ولا تفتكر أبوك المرمي في السجن.. ولا ستك واخواتك.. ولا حامد الفاروقي اللي سافر ومراته حامل في شهرين.. ها يشوف بنته ولا لأ..؟ راح فين..؟ ولا هُدى بنتي أنا.. طبعًا ما نتاش فاهم حاجة م اللي بأقوله.. ولا عمرك ها تفهم..ولا حد ها يفهم.. تعرف يا وله (وسكت لحظة) حتى أبوللو بتاعك مش هايفهم.. طاعون فيك وطاعون فيه!!

إنه يكمل الاعتراف حين كان المجتمع المصري مجتمعًا يقبل الآخر بلا شروط مسبقة، لا دخل فيها للملة والجنس، فيقول :
  حمار، أنا كنت حمار.. ستر عليها القبطي الجريجي الملعون.. الأجنبي أشرف مني الجريجي يانِّي طِلع جدع قوي، وأنا طلعت خيخة.. إخييييه.. إخيه عليك ياله يا خضير ..إخيه.. كنت فاكر نفسك سبْع البُرومبه.. طلعت فالصو ما تساويش صلدي!
وفي المقطع الثالث الذي يحمل دماء أبوللو أكثر المقاطع شجنًا في الرواية حيث يموت أبوللو، ويتعرض عبد الناصر للهزيمة، ويتعرض الطفل نفسه للهزيمة، ويتعرض جميع أصدقاؤه للنكبات.

هذه الرواية تحاول التعرف على السبب في تشويه المجتمع المصري في نهاية الستينيات، لقد قيل الكثير عن تلك الفترة؛ لكن زين عبد الهادي يُصر وبقوة على أن هناك الكثير الذي لم يُعلن بعد، ودون ادِّعاء أصواتٍ عالية أو نبراتٍ زاعقة.. يحاول في روايته التي تقترب من الحُلم وتستند إلى الأسطورة إلقاء الضوء على وضعية المجتمع الساحلي قبل النكسة مباشرة، إنه مجتمع تسحقه رغباته التي يكتشف زيفها من خلال تعريضها لضوء الشمس، ضوء الآلهة القديمة.

لا يمكن الإلمام بكل العناصر التي صاغ بها الكاتب روايته؛ لكن يمكن الوقوف أمام بعض المعطيات، فاللغة التي يستعملها هي لغة الحياة اليومية في بورسعيد، اللهجة البورسعيدية القُح، بل إنه يحاول التعريف ببعض مفرداتها المُبهمة، كما يستعمل أحيانًا اللغة اليونانية في المقاطع التي يظهر بها يانِّي أحد أبطال العمل اليوناني، الذي يسكن منطقة شعبية من مناطق بورسعيد، وكذلك كريستينا الراهبة اليونانية أيضًا التي تمثل الآخر في بورسعيد.

لا يتوقف العمل عند ذلك فمعمارية الرواية تعتمد في بنيتها على المتاهة السردية شكلاً وموضوعًا، فالحدث يُقدم من وجهتيِّ نظرٍ في ذات الوقت، والذي يقدم وجهتي النظر شخص واحد هو الراوي في طفولته وكبره، كما تتفكك الصورة إلى عشرات الصور لتتداخل ثم تنقشع سحابات شبكتها لتعيد تكوينها من جديد.

صدرت الرواية عن دار نشر ميريت، في 269 صفحة في الأسبوع الأخير من شهر ديسمبر لنستقبل بها العام الجديد.
ألف مبروك للدكتور زين .. وألف مبروك على المثقفين العرب صدور رواية بهذه الأهمية في العصر الحديث.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى