الأحد ١٥ نيسان (أبريل) ٢٠١٢
فيلم آماديوس
بقلم مهند النابلسي

عبقرية الموهبة وسيكلوجية الحسد!

في الفيلم الشهير آماديوس (نال الفيلم ثماني جوائز اوسكار في العام 1985 إضافة إلى 33 جائزة أخرى و 15 ترشيح في المهرجانات العالمية منذ عام 1984 و حتى 2003!)، قضى المخرج التشيكي الأصل ميلوش فورمن اربعة اشهر للعمل سويا على النص مع كاتب السيناريو بيتر شيفر، ولم يحتج الأمر الا لبناء بعض الاستديوهات الجديدة للتصوير مثل غرفة المستشفى الخاصة بأنتونيو ساليري، وشقة موزارت الخاصة ومسرح "فاندفيل " الشهير في فينا، اما باقي المواقع فقد كانت طبيعية، حيث كانت براغ البديل الأمثل والأكثر شبها لفينا القديمة، نظرا لخلوها حينئذ من أنتينات التلفزة ومن اليافطات الدعائية والبلاستكية، ومن بريق الأضواء الملونة اللافتة والمتقطعة، وكذلك لطبيعة شوارعها وازقتها المبلطة (الخالية من الاسفلت!)، حيث ساعد النظام الاشتراكي السائد حينئذ في المحافظة على اصالة المدينة ونكهة العراقة والقدم فيها خلافا لفينا التي اصبحت مدينة عصرية صاخبة. كما اضطر توم هولس الذي أبدع في تقمص شخصية موزارت للتدرب اربع ساعات يوميا على البيانو ولأشهر لاقناعنا بان عزفه يتطابق مع عزف الموسيقار الشهير. الفيلم الذي تكلف ثمانية عشر مليون دولار أبهر العالم، واعاد لنا بمصداقية كبيرة قصة حياة الموسيقار العبقري الذي مات مبكرا (مقهورا ومحبطا) عن ستة وثلاثين عاما فقط، وعانى من الاقصاء والحسد والمرض.

أبدع موراي ابراهام في تقمص شخصية الموسيقار الحسود "أنتونيو ساليري"، وكان يعتقد حتى قبل ان يلتقي موزارت أن موسيقى أماديوس خارقة، ولكنه كان يتمنى في أعماقه لو انه كان موهوبا مثل موزارت ليتمكن من عبادة الله من خلال التأليف الموسيقي، ولكنه لم يفهم أبدا لما اختار الله موزارت وأودع فيه هذه الموهبة الخارقة، وكان يعتقد ان هذا الكائن " التافه والسوقي " وصاحب الضحكة المجنونة (التي تشبه زعيق حافة المعدن الحادة عندما تحتك بقوة على سطح زجاجي!) لا يستحق ابدا موهبته، فلماذا اختاره الله اذن ليكون أداته؟! حسد ساليري المتزايد تحول لوسواس قهري جامح يلازمه وينغص عليه عيشه ، مما جعله بالمحصلة "خصما للله ذاته " الذي تجلت معجزته الربانية في خلقه لموهبة موزارت....وقد دفع هذا ساليري لملاحقة موزارت بلا هوادة وحبك المؤامرات والمكائد ضده، ساعيا لتهميشه واقصائه بلا ضمير او وازع أخلاقي، مما قاده للالحاد ثم اتبعه بمحاولة انتحار فاشلة، وانتهى به الأمر للجنون .

الفيلم يستعرض عبقرية موزارت الموسيقية ومسار حياته القصير البائس من خلال سرد خصمه اللدود الحسود اثناء اقامته في المصحة العقلية، باسلوب استرجاع وتداعي الذكريات (حيث يقوم بالاعتراف لقس بعد ان ساءت حالته النفسية!)، والشريط يتعرض بشكل مدهش لسيكلوجية الحسد، حيث يعتقد الحسود أن الموهبة (او الذكاء و المال والعقل والممتلكات والجاه والخلف والجمال والصحة..) يجب ان تكون له لأنه الأكثر استحقاقا لها، كما انه يعاني من كراهيته للآخرين ولذاته، ويعاني من الهوس والملل والاحتقان والعزلة، وهو لا يمكن ان يكون شخصا مؤمنا وفاضلا وسويا، كما انه لا يحترم الآخرين ولا يتقبلهم . وفي لقطة ذكية معبرة يقوم موزارت (وهو على فراش المرض والموت) بخداع انتونيو ساليري اثناء محاولة الأخير اجباره على تلقين " مقطوعة الموت الأخيرة "، حيث يتجاوز سطور النوتة الموسيقية قاصدا لاظهار عدم التكامل والترابط، ولاعطاء الانطباع بعجز ساليري عن فهم موسيقاه! وفي لقطات دالة على حقد دفين يقوم ساليري بابتزاز زوجة موزارت (التي تسعى جاهدة لدعم موهبة زوجها بالسر والعل )، وذلك عندما يتحرش بها جنسيا بوضاعة ويحرضها على الخيانة، ثم يتركها بلامبالاة لتعاني من احتقار الذات وتأنيب الضمير!

التخصص في اظهار الجنون!

يبدو ان ميلوش فورمان متخصصا في اظهار حالات الجنون والادعاء والنفاق الاجتماعي (بأسلوب مدهش ونمط شبه سيريالي)، ابتداء من أحد أفلامه التشيكية القديمة (قبل نزوحه للغرب) ويعتبر آخر أفلام فورمان في تشيكوسلوفاكيا وأول أفلامه الملونة. ويحكي الفيلم (الذي رشح للاوسكار لعام 67) قصة متطوعين في فرقة
إطفاء في مدينة

صغيرة ينظمون حفلتهم السنوية على شرف رئيسهم السابق:

حيث تحاول لجنة مختارة من كوادر الحزب البيروقراطية اختيار ملكة جمال من بين فتيات بلدة تشيكية، ويظهر في هذا الشريط الكوميدي الممتع كل مساوىء النظام الاشتراكي السائد من سخرية و تظاهر وادعاء وفساد وكذب واحتقان جنسي مكبوت، ثم نال الاوسكار بعد نزوحه للغرب عن تحفته السينمائية "طار فوق عش الواقواق ":
(راندل" الذي صدر عليه حكم بالسجن لمدة قصيرة يتظاهر بالجنون. ويتوقع أن يقضي فترة عقوبته المتبقية في حرية وراحة اكبر داخل مصحة عقلية. لكن ممرضة قاسية ومتسلطة تدير جناحه في المصحة وتخضع مرضاها بإذلالهم من خلال الانضباط المؤسسي!)، وقد صور الفيلم أوضاع و تفاعلات ومعاناة المرضى في مصحة عقلية بمحاكاة مذهلة، مما يؤدي لانهيار "جاك نيكلسون " (الذي نال اول اوسكار عن دوره الرائع) و الذي يدعي الجنون أولا ويتعاطف مع المرضى بل ويحرضهم ويقودهم ضد الطغيان و القسوة السائدة في المصحة، لينتهي الأمر بتعرضه لشحنات كهربية كبيرة تؤدي لفقدانه لعقله وجنونه، وكذلك هنا في شريط أماديوس فقد أدى الشعور الطاحن بالذنب لجنون ساليري وانعزاله في مصحة عقلية وهو يعاني من الهلوسات و تداعيات الماضي وارهاصاته المؤلمة، وبالرغم من اللقطات السريعة للمرضى النفسيين والعقليين في المصحة الا انها كانت بالغة الدلالة والمغزى والاتقان، وخاصة في تزامنها مع تداعيات ساليري وهذيانه العصابي!

سمفونيات موزارت وذاكرة هوكنغ!

الذي يعتقد أن احباط العبقرية وطمسها هو ابتكار "عربي" صرف، عليه ان يشاهد فيلم " ولفغانغ آماديوس موزارت "، والذي كان يظن أن وضع المعيقات والمحبطات يحطم قدرات الابداع والانجاز لدى الاشخاص القادرين، عليه أن يتعلم ان هذا غير صحيح، فنهر الابداع والانجاز والتجديد لا يقف في مساره الكاسح سد، والعقل المنفتح لا تعيقه المؤامرات الخبيثة ولا المكائد اللئيمة . في الشريط يتحدث " الراوي " الذي هو موسيقار البلاط النمساوي الواصل، وكبير حساد موزارت عن القدرات الموسيقية الفذة التي عجزت كل الحيل والأساليب والمناورات عن ايقافها او تجميدها! فيلم "ميلوش فورمان" يدهشنا لأنه يكشف لنا ان أحسن موثق لانجاز العبقري هو خصمه، فربما لو كان الراوي صديقا لموزارت لما تمكنا من الاطلاع على المخاض الصعب لانجازاته الموسيقية الرائعة كما طرحت لنا في سياق القصة: فموسيقار البلاط الملكي النمساوي الشهير يتواطأ باستمرار مع حاشية منافقة لتحطيم سمعة موزارت، ويتجسس عليه ويسرق افكاره، ولكن النتيجة مدهشة فالعالم لم يذكر الا موزارت وموسيقاه الخالدة، وبقي موسيقار البلاط منسيا ومهملا في دهاليز النسيان مثقل الضمير " يتعفن " في مصحة نفسية طوال 32 عاما عاشها بعد وفاة موزارت بالحمى! "ستيفن هوكنغ " هو الآخر يقبع منذ عقود مشلولا في كرسي بعجلات واجهزة استشعارعصبي، بعد أن وقع في بدايات شبابه ضحية لمرض نادر يصيب الأعصاب الحركية ويؤدي للقضاء على معظم الوظائف العضلية والعصبية للجسم البشري، ولكن يبدو أن عقله قد ترك جسمه العليل العاجز، وطاف لوحده في أرجاء الكون الشاسع ليبحث في معادلات نشؤ الكون ويكشف طلاسم ظاهرة " الثقوب السوداء"!

وهكذا وضع الخالق عز وجل سره في هذا الكائن الضعيف-الهزيل والمعاق جسديا، والذي يتمتع بقدرة عقلية هائلة تسعى لسبر أغوار الكون المعجز، وهو يتشابه مع موزارت عقليا من حيث أن النتاج الفذ لذاكرته يمائل ما كان يقوم به موزارت من القدرة على تأليف سيمفونية كاملة في رأسه (وهذا ما رأيناه في الفيلم)! لقد تحول بمرضه الجسدي القاهر لمخ بشري خارق صرف وطليق يقود حفنة من الفيزايئيين الأفذاذ، اللذين يقيمون على كوكب " صغير" اسمه الأرض يدور حول نجم "تافه" اسمه الشمس في مجرة صغيرة هائمة في درب التبانة، ويسعون بتركيز قدراتهم الذهنية لفهم معجزات نشؤ الكون والثقوب السوداء! وقد استنتجوا أن الكون الذي نعيش فيه هو جزء صغير من وجود أكبر هائل يتكون من أعداد لامحدودة من أكوان أخرى تظهر وتتوسع كما تظهر الفقاعات وتكبر في الماء المغلي! كما انه (للطرافة) أي سـتيفن هـوكنغ يـحذر مـن غـزو فـضائي محتمل لكوكب الأرض، و يـشبه ذلـك بأكـتشاف كـولومبس لأمـريكا الشـمالية و مـوقفه مـن الهـنود الحـمر بـل يـحذر مـن أيـة مـحاولة للأتـصال بـمخلوقات مـن الفـضاء الخـارجي!

السخافة والاعاقة!

في الفيلم يطلق خصم موزارت عليه لقب " المخلوق السخيف " الذي اودع الله فيه معجزة الابداع الموسيقي، وحيث يتصرف موزارت ببراءة وعفوية وبساطة تشبه لحد بعيد براءة وعفوية الأطفال الصغار، ولا تنسجم اطلاقا مع تعقيدات ودهاليز الحرفة الموسيقية المعقدة! وفي الكتاب " العبقري والكون " يظهر هوكنغ كرجل معاق جدا يتحدث بصعوبة بالغة ولا حدود لقدراته العقلية..... واثناء دراسته كان ممتحنوه أذكياء بما يكفي ليدركوا انهم يتحدثون الى شخص أذكى منهم! ماذا نستفيد من رؤيتنا لشريط " آماديوس " ومن قراءتنا لكتاب " العبقري والكون "؟ نستفيد اولا بأن التقدم في حياتنا لا يضعه الا الأشخاص المستعدين لأن يتخلوا عن "تفكير القطيع" (وهم قلة) ولأن يخطوا وينطلقوا خارج التيار التقليدي السائد، ليخرجوا الى ما يتجاوز الأفكار السائدة والدارجة والمقبولة الى ما يسمى اصطلاحا ب" مغامرة البحث الحرة "، ثم نستفيد ثانيا بأن نقتنع بأن لا شيء يعيق تفجر الطاقات الذهنية والابداعية لدى الأشخاص القادرين الحقيقيين! ان كثرة الحديث عن المعيقات والمحبطات هو ذريعة كبيرة " غير مقنعة " للتقصير والعجز عن الانجاز، وهي حجة العاديين والبسطاء! والسؤال الذي يتبادر فورا لأذهاننا في خضم ثورات الربيع العربي القائمة هو: هل هناك حقا نوايا لوضع استراتيجيات مغايرة للتعامل مع المبدعين العرب بكافة ميولهم وصنوفهم ومجالاتهم؟ أم انه في غمرة الانشغالات والأولويات والفوضى الخلاقة القائمة فلا أحد " فاضي لهم " (حسب التعبير العامي الدارج)، ومصيرهم سيكون اما الانزواء والاقصاء ومحاولة "سرقة " ابداعاتهم وجهودهم من قبل الانتهازيين وسارقي الأفكار والثورات، أو الانغماس في مكاسب المناصب والفرص والمال للمحظوظين! والا فحضارة ومؤسسات الغرب "الذكية " مستعدة دوما لافساح المجال لهم لممارسة ابداعاتهم (وتطويره لآفاق جديدة) بلا أدنى نوع من التمييز الطائفي او العرقي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى