الأربعاء ١٣ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
بقلم شعيب حليفي

على أبواب القاهرة

مثل طمي خلاَّق

أحبُّ أن أبدأ تدوين رحلتي هذه، بتذكر كل الرحالة الذين زاروا مصر عبر مراحل مختلفة من التاريخ ولأسباب شتى، وقد يُسعفني تخيل أجزاء متناثرة مما عاشوه وأحسوا به.

في كل رحلةٍ لي،سواء كتبتُها أو تركتُها في وجداني ضمن أرشيفٍ صامت، أحبُّ قراءة أشياء كثيرة عن البلد الذي أزوره، سواء من التراث أو من تآليف حديثة ومعاصرة لعرب أو أجانب. مثلما هي قراءاتي الدائمة للرواية العربية وضمنها السرود المصرية.إنها تجعلني قريبا من المتخيل العام لأرض الكنانة ؛كما شكلت النصوص الرحلية إلى مصر أو تلك العابرة منها إلى الديار المقدسة مرجعية هامة لي.

هذه المرة، قرأتُ فقط للصُّبيحي السَّلاوي رحلته الطريفة إلى مصر،كما قرأتُ ما أمدني به الدكتور عماد أبوغازي من دراسات خمس له حول " مصر قصة حضارة"، وعكفتُ على قراءة الكتاب الذي أهداني إياه الصديق العزيز جمال العسكري "النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة "لابن تغري بردي الأتاباكي.

كما أسَرَّ لي، رفيقُ رحلتي، عبد المنعم بونو أنه يحوزُ كتابا نادرا لأديب من غواتيمالا اسمه انريكي كوميت كاريو زار مصر في مطلع العقود الأولى من القرن الماضي، ودوَّن رحلة طريفة بعنوان (انطباعات من مصر) نشرها سنة 1919.. فاقترحتُ عليه تخصيص جزء من وقته لترجمتها.

قراءاتي قُبيل الرحلة وبعدها، ركزتُ فيها على نصوص بعينها تروي عطشي وكأني بذلك أسعى إلى تمديد وتحويل الفترة القصيرة التي قضَّيتها بمصر إلى آلاف السنوات.

من غريب المصادفات أن يبدأ الأسبوع الذي سأسافر فيه بمتاعب لا حصر لها، يمكن اختصارها،دون تفصيل فيها،في رفض السفارة المصرية منحي التأشيرة بدعوى أن الثلاثة أشهر مدة الصلاحية المتبقية بجواز سفري،غير كافية كما تنص على ذلك القوانين، وقد جرَّبتُ إعداد جواز جديد،غير أن ترتيبات النظام المستجد للجواز البيومتري المرتبط بدار السكة في الرباط،يتطلب على الأقل عشرة أيام، فعاودتُ الاتصال حيث تدخَّل الصديقان وائل شلبي من المجلس الأعلى للثقافة بمصر وحسن حسني من ملحقية الإعلام المصري بالرباط... وتجاوزنا القوانين وتسلمتُ التأشيرة.

في نفس الأسبوع، قُبيل السفر،كنتُ كل يوم وابتداء من الساعة السادسة مساءً،أتواجدُ رفقة عدد كبير من الأدباء والمثقفين والأصدقاء ومواطنين أيضا بساحة السراغنة وسط الدار البيضاء لحضور ومتابعة أشغال اللقاءات المفتوحة على الهواء الطلق، ضمن معرض الكتاب الكازابلانكي والذي انعقدت دورته الثالثة تحت شعار "مغاربة الهامش"، في إشارة ساخرة مُعارضة لشعار معرض النشر والكتاب المنعقد بالدار البيضاء في يبراير ألفين وعشرة " مغاربة العالم "، والمنظم من طرف وزارة الثقافة.

كان عليَّ التوجه نحو مطار محمد الخامس،وهو على بُعد أربعين كيلومترا جنوب الدار البيضاء، يوم السبت ثامن ماي في الساعة التاسعة ليلا، لذلك رتَّبنا ندوتنا الأخيرة وسط الساحة ابتداء من الساعة الخامسة في موضوع حول انتقاد ومحاكمة السياسة الحكومية، والخراب الذي تجُرُّه على الجميع.

كنتُ سعيدا ونحن نتلمس جزءا من أحلامنا.. شيء مشترك نعتز به، بل وأنا أرتجل كلمتي، انسابت مني فقرة دالة، قلتُ فيها:

"... نُجدد التأكيد على عهدنا الذي التزمنا به أمام المثقفين منذ عشرين يبراير الماضي.وأقول أن زمن الصمت المريب قد ولّى..ولن نُسلِّمَ رؤوسنا لأحد.وأقول أيضا بأن القوس قد أوتيت باريها فانهضوا أيها المثقفون ولا تترددوا..واضربوا بأفكاركم ونصوصكم وجه العبث والصمت وحقارة الزمن الذي لا ينصف الكلمات.

"... إننا ونحن نخوض انتفاضتنا لا ننوبُ عن أحد..لأن الجميع منخرط معنا .نحن جميعا أبناء الشرط التاريخي العصي، بأخطائه التي تريد تدمير جيل المثقفين وهَزْم خيالاته.نحن أبناءٌ شرعيون لعبد الكريم الخطابي والمهدي بنبركة وعلال الفاسي..كما نحن أبناء سي أحمد اليبوري ومحمد نوبير الأموي أمد الله في عمريهما..نتمثل قيمهم الثقافية والفكرية ونواجه بهم كل المنبطحين الذين خذلوا أصواتنا وصنعوا من جلودنا نعالهم للركض في الأمتار الثلاثة عشر الأخيرة نحو بنيقات دار المخزن.."
وكنتُ أريد التصريح بكلام لم يأت وقته بعد،للجهات التي مازالت تشك في مرجعياتنا، لنؤكد على الاعتزاز بالذين يحرسون أحلامنا ويُعَلّموننا، وقد مرَّت على طرف لساني أسماء أخرى لأنبياء وشعراء وثوار من لحمنا ودمنا،من قارتنا وآسيا وأوربا وأمريكا اللاتينية... جميعهم صاغوا لحظتنا المنبثقة مثل طمي خلاَّق.

انتهينا في الثامنة والنصف ومباشرة توجهتُ إلى البيت ثم المطار.
أيام قاهرية

وصلنا مطار القاهرة الدولي في الساعة السابعة والنصف من صباح يوم الأحد، تاسع مايو ألفين وعشرة، لحضور الندوة الدولية حول "تفاعل الثقافات الإفريقية في عصر العولمة"، والتي ينظمها المجلس الأعلى للثقافة بالقاهرة في ما بين ثامن ورابع عشر مايو، وقد كان عنوان ورقتي " الإبداع الإفريقي بين تقاليد الشفاهية والهوية الثقافية "، إلى جانب أزيد من ستين مشاركا من أدباء ونقاد وجامعيين ينتمون إلى عدد من الدول العربية والإفريقية جنوب الصحراء، أما الوفد المغربي فكان متكونا من حسناء اللبادي، عبد المنعم بونو، محمد الفلاح العلوي، ربيعة ريحان وعبد ربه،كاتب هذه الرحلة، غفر الله له ولهم جميعا.

كان يوما صاهدا بلغت درجة حرارته إحدى وأربعين درجة مئوية، ورغم ذلك خرجنا في جولة تفقدية بوسط البلد، قبل أن نعود متأخرين، وقد اقترحتُ على صديقيَّ منعم ومحمد الفلاح قضاء بقية السهرة، إلى غاية الساعة الواحدة والنصف صباحا، بمقهى خان شقاوة.

كنا ثلاثة نتداول حول مشروع مجتمع خيالي ونرسم حدوده في السماء الواسعة.الأول فينا، مُنعم بونو، متخصص في اللغة الإسبانية والبرتغالية وخبير في آدابهما وثقافة شبه الجزيرة الابيرية فضلا عن عربيته الجميلة ؛أما الثاني فهو محمد الفلاح، مؤرخ متخصص في تاريخ المجتمع والثقافة ،بينما أعتبر نفسي ثالث ثلاثة،راع للخيالات المفقودة.

القاهرة لا تُصبح مدينة بدون أحيائها المحملة بتواريخها وعمارتها وثقافتها، سواء في الجهة الغربية حيث قصر النيل وغاردن سيتي والزمالك ؛أو في شرقها بمصر الجديدة والعباسية وحدائق القبة والمصرية..أما شمال القاهرة فتوجد به شبرا وروض الفرج والمنيرة الجديدة ؛ وفي جنوبها مصر القديمة، المعادي، وحلوان...وأخيرا الموسكي والمقطم وباب الشعرية والسيدة زينب بوسط القاهرة.

أحياء هي علامات تحمل أسرارا مُعتَّقة ، تتحول إلى رسالات من وجهين، حقيقي وتخييلي..فهذا حي الأزهر الذي بناه جوهر الصقلي منذ 970 ميلادية حيث يوجد مسجد سيدنا الحسين بالقرب من أهم مركز تجاري وأثري، خان الخليلي، والذي أنشأه الشريف الخليلي كبير التجار في عهد السلطان برقوق سنة 1400 ميلادية، وأعادَ السلطان الغوري ترميمه بعد قرن وإحدى عشرة سنة.

وإلى جوار هذا الإرث، يوجد حي الغورية ثم شارع المعز لدين الله بكل عجائبه، فهو متحف تاريخي وثقافي مفتوح، يُفتنُ باستمرار في كل الأوقات..منذ بناه جوهر و أنشأ سوره الشمالي من بابين: باب النصر وباب الفتوح أما السور الجنوبي فمدخله يحتوي على بابين هما: باب زويلة.ومن باب الفتوح إلى باب زويلة يمتد شارع المُعز والذي يُسمى أيضا بالمقطم والقاهرة والقصبة.

يوم الاثنين، انطلقت أشغال الندوة في حفل افتتاحي بقاعة الأوبرا الصغيرة، وسط جو ربيعي معتدل الحرارة، قبل الانتقال إلى قاعة الندوات بالطابق الثالث بالمجلس لمتابعة جلسات المحاضرات والتي ستعرف مناقشات ساخنة ومهمة حول ثقافات إفريقيا بأصوات الأفارقة في الشمال الغربي والشرقي أو في دول جنوب الصحراء.

يوم الثلاثاء، يستمر نفس المستوى ويتشعب النقاش في محاور جديدة ؛ أما ما يخص أحوال الدنيا فقد بلغ إلى عِلمنا أن سحابة بركان ايزلاندا تَعبُرُ سماء المغرب،مما أجبر المطارات الثمانية إلى الإغلاق المؤقت، ففكرتُ بسرعة في البحث عن وسيلة أخرى للسفر إذا ما رفضت السحابة القاتلة الانسحاب عن سمائنا.

وحتى استثمر كل الزمن القاهري بشكل جيد ومنظم،كنتُ أنتهز فرصة السويعات بين الجلسات الصباحية والمسائية،وتحديدا في ما بين الظهيرة والساعة الخامسة، لقضاء بعض الأشغال والزيارات.

وهكذا زرتُ الجامعة الأمريكية الموجودة بشارع القصر العيني في جلسات عمل مع فريال غزول ووليد الحمامصي، كما زرت أصدقائي في الهيئة العامة لقصور الثقافة بعمارة العرائس، وفي المسافة ما بين الجامعة الأمريكية والهيئة، صادفتُ مظاهرات بالقرب من مجلس الشورى، لعمال يرفعون شعارات تطالب بإنصافهم، يعتصمون ليل نهار.. في حين كانت هناك مظاهرات أخرى تحتج على استمرار قانون الطوارئ، والذي صودق على تمديده لفترة أخرى.
زمن السلطان الغوري

منذ فترة طويلة قرأتُ للأديب جمال الغيطاني (الذي صادف حضوري بالقاهرة الاحتفال بعيد ميلاده الخامس والستين) روايته " الزيني بركات"،ثم عاودتُ قراءتها لمرات.. وفي كل مرة كان جمال التخييل في التاريخ يشدُّني.
تذكرتُها بكل تفاصيلها الصغيرة،كما لو أن الغيطاني قد كتبها لنعيشها مرات ومرات. تذكرتُها وقد هيأ المجلس الأعلى للثقافة للمشاركين وبعض المدعوين، فرصة اللقاء بقبة الغوري للاستمتاع بحفل فني وشعري بديع شاركَت فيه فرق فنية من مصر وخارجها.

ونحن بداخل القبة،في تلك المساحة المفتوحة على أكباد السماء الحنون.. والمحاطة بحيطان عالية ذات نوافذ بشبابيك حديدية، جلسنا على كراسي أمام منصة قليلة العلو ستفيض بما رَحُبت.. أغان ورقصات افريقية وأناشيد وأشعار أعادت الروح للمكان واستعادت الزمان.

فجأة في رمشة عين، وخلال ثوانٍ معدودة، رنَّ هاتفي.كلمتني زوجتي تُطمئنني بسرعة، ثم تقول لي بأن مريم ابنتي(أربع سنوات ونصف) مُصرة على الكلام معي والدموع بعينيها.كلمتها بكلام رقيق وعابر وأساسي،لكنها لم تكن معنية بشيء غير قولها لي وهي مفزوعة: " عُدْ إلينا سريعا يا بويا فقد توحَّشتُك بزَّاف بزَّاف ؟".

انقطعت المكالمة وأنا أرتعش، خائف ألا أرجع من زمن الغوري المشتعل الذي أحسست أني مندفع إليه دون العالمين وحيدا لأراه عن قرب وأحيى زمنه.متفكرا بذهول في ما قالته ولية الله مريم وكيف نادتني بكلمة بويا لأول مرة، لأننا اعتدنا جميعا، في البيت وكل الشاوية، المناداة بها على والدي.

فجأة،ظلُمَ المكان ثم عاد إليه نوره الأزلي الأول، بالأبيض والأسود... نفس الحضور بنفس ملابسنا،الجينز وقمصان بنصف أكمام، محاطون بجنود المملكة؛ وفوق المنصة على كرسي فخم وعال يجلسُ السلطان قنصوه الغوري بملابسه الرسمية ينظر إلينا وهو يبتسم، ثم شرد للحظة يخاطب نفسه:

"أنا قنصوه الغوري، الملك الأشرف، الملك السادس الأربعون من ملوك المماليك بالديار المصرية. اعتقني قايتباي وجُعلتُ من جملة المماليك.انتقلتُ كثيرا وعملتُ هنا وهناك، إلى أن ذهبتُ في تجريدة عسكرية إلى حلب وتوليت نيابة طرطوس وعُينتُ حاجبا بحلب ثم نائبا بملطية.

حكمتُ مصر خمسة عشر سنة وتسعة أشهر وخمسة وعشرين يوما وساعات قليلة ابتداء من يوم الاثنين فاتح شوال 906 هـ وانتهتْ بقطع رأسي يوم الرابع والعشرين من غشت 1516.

لن أنسى أبدا يوم اتفق الأختاد الأمراء،بعدما تجنبوا السلطة خوفا من بعضهم البعض، فاختاروا الخليفة الأضعف الذي هو أنا متفقين على إقالتي متى أرادوا وحتى أكون أداة لهم جميعا.

كنتُ خائفا ومنذهلا وراغبا، فقررت أن أشترط عليهم شرط الضعيف المهزوم والتعهد لي بعدم قتلي إذا ما رغبوا في خلعي.. فوافقوا.

لم أكن أعرف أن كرسي السلطة به قوة آلاف الشياطين والقتلة.فتعلمت كيف أتحول بسرعة من ذلك العبد الخانع إلى الملك القاطع،فبنيت وأصلحت وظلمت وتعسفت ونهبت في أموال شعبي حتى انقطعت المواريث وصرت الوارث الوحيد.

لكن في مرج دايق انفصل رأسي عن جسدي وعميت فلم أستطيع جمع نفسي والعودة إلى الحياة كما عدت على الحكايات."

عاد من شروده...يرفع يده اليسرى فيشرع عساكر مدربون في دق الطبول وآخرون بالمزامير؛ بينما خلف القبة تقبع نساء سوداوات يزغردن دون توقف. ومن دهليز على يميني، به غرف بسقوف مقببة، خرج ستة من العساكر مدججين بأسلحتهم المتدلية من أحزمتهم، يحملون جدع شجرة زيتون في حجم متر طولا، وذات قطر مماثل. وضعوها بمكان يتوسط المنصة. وخلفها،على عرشه، يتتبع السلطان الغوري المراسيم الجارية، قبل أن يأذن بالدخول - بإشارة،هذه المرة،من نظراته فقط- للعسكري السابع وهو يحمل سيفا كبيرا ؛ثم ينتظمون فوق الخشبة انتظاما، ثلاثة على اليمين وثلاثة على اليسار، أما صاحب السيف الكبير فيتوسطهما بجوار القرطة/ المذبح.

استمر دق الطبول والزغاريد وصوت المزامير، ورأيتُ رجلا قصير القامة،يحمل تحت إبطه كُنَّاشا كبيرا، مهرولا يجلس بالقرب من السلطان. إنه القاضي عبد البر بن الشحنة الحنفي يدُ الغوري اليمنى على مظالمه وخرقه للقوانين والأعراف الدينية والاجتماعية.

وَشْوَشَ عبد البر للسلطان الغوري، ثم فتح دفتره ذا الصفحات الكبيرة، فأسرع واحد من العبيد يضع الدواة والأقلام المبراة بين يدي القاضي، فقد كان يوما مشهودا حينما فُتح الباب الخلفي لنبصر صفوفا طويلة تصل إلى أبعد من المقطم،ربما، مسلسلة من أيديها وأرجلها، رجال ونساء وأطفال، جِيءَ بهم للقصاص منهم، أو ليتنازلوا عن ممتلكاتهم غصبا عنهم أو تُقطع رؤوسهم ويتم حملها لتُعلق على باب زويلة.

شخص أعرفه جيدا أبصرته مع الداخلين، في مبتدأ الصف، مقيدا بالسلاسل، الشاعر جمال الدين السلاموني وخلفه المئات أو آلاف من المواطنين والأرامل والأيتام، في حال يرثى لها، فلم أشعر وأنا أقوم من مكاني شاقَّا القميص الأزرق الذي كنت أرتديه، وأصرخ في وجه السلطان دون أن يهز وجوده شعرة في مفرقي:

 "أيها الرئيس السلطان الظالم، الأشرف قانصوه الغوري. أنا لستُ من عصرك أو دمك. ألم يكفيك ما نهبتَ وصادرتَ وغششتَ وخرقتَ وقتلتَ وخالفتَ أمر شرعنا،وبنيت مجدك الزائل بالحرام... فتأتي اليوم لتستكمل جُرمك أمامنا".

ثم تقدمتُ نحوه كمن يريد فداء أهله بدمه. فارتمى عليَّ الجنود الستة وحملوني إلى المقصلة، وضعوا رأسي على القرطة، ولم أجد الثانية التي أشتم فيها رائحة الزيتون حتى نفد سابعهم القرار، بسيفه البتار، فانفصل رأسي عن جسدي، في اللحظة التي استمرت فيها دقات الطبول عالية وصافية مرفوقة بصوت المزامير والزعاريد، أضيفت إليها ما تناهى إلى سمع رأسي المرمي ووجهي إلى السماء بعينين مفتوحتين. عويل كظيم يأتي من خارج سور القبة، ونواح كتوم من الداخل يؤرقني.

قمتُ،ولم يكن أحد ينتظر أن المعجزات الحقيقية هي التي تجري ضد الحكام الظالمين. قمتُ وأنا بدون رأسي لا أرى ولكنني أتلمس بحدوسي إلى أن عثرت على رأسي فحملته ثم وضعته بقوة، فانتفضتُ وعدتُ كما كنتُ وصرخت في وجهه مرة أخرى بنفس الكلام، مكررا ما عزمتُ عليه متقدما نحوه.فعاد الجنود الستة وقد تسربت الدهشة المحتارة إلى يقينهم.. فأخذوني وعاد السياف يضرب ضربته الثانية، وسط الزغاريد ودق الطبول والنواح الذي أحسسته يأتيني ساخنا من كل العواصم فيسري في كل دروب القاهرة متسللا إلى وجداني... وجداني اللاهب.
تستمر نفس المعجزة ويواصل السلطان الغوري " معجزته" في قتلي مرات عديدة لا تحصى... حتى تعب ومَلَّ ثم استسلم وتوجه إلى مرج دابق خائر القوى للقاء مصيره المحتوم.

كلاكيت خارج المسرح

صبيحة يوم الأربعاء، قمت باكرا. استحممتُ من آثار رحلتنا من زمن الغوري ثم توجهنا، بعد ذلك،إلى مقر الندوات لنواصل نقاشاتنا. كما عرف، نفس اليوم،جلسة عمل عقدتها مع الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة د/ عماد أبو غازي لأجل ترتيب ثقافي، كما ظلت مطارات المغرب مغلقة، فسألت عن البواخر التي كانت تعبر المتوسط مُعرجة على الأطلسي من الإسكندرية إلى الدار البيضاء. اكتشفتُ بأنها لم تعد موجودة منذ فترة طويلة، ففوضت أمري لله.

في المساء، نظم المجلس زيارة ليلية للأهرامات، واخترتُ الذهاب إلى المسرح، لمشاهدة مسرحية "ملك الشحاتين" بمسرح السلام،الموجود بشارع القصر العيني، وهو نص للأديب الراحل نجيب سرور،أخرجه محمد الخولي وتمثيل محمود الجندي، سامي العدل، ريكو، نجوى فؤاد، لقاء سويدان، منيرة كرم، عادل الكومي، محمد عابدين.. وفريق آخر من الممثلين والكومبارس، وهي مسرحية غنائية لحن أغانيها الفنان صلاح الشرنوبي.

حضرتُ المسرح قبل موعد العرض بساعة.وأمام بوابته،بالقرب من الحائط المجاور رجلين بلباس متهالك يجلسان على الأرض كأنهما في انتظار طلعة نجيب سرور ليُعدل لهما المشهد الأخير.انتبهتُ إليهما بشكل عابر لكن واحدا منهما،صاحب النظارات المقعرة، فاجأني بسؤال إن كنتُ سأشاهد المسرحية؟أشرتُ إليهما برأسي، ثم عقَّبَ صديقه،ذو السن المكسورة، بأنها مسرحية تستحق المشاهدة.

كنتُ بعيدا عنهما بأكثر من ثلاثة أمتار، وفهمت من هذه المناقشة،التي لم تتجاوز دقيقتين، أنهما من الكومبارس يُمثلان ضمن فريق من اللصوص في مواجهة الشحاتين.وروى لي صاحب النظارتين (واسمه شوقي عطية، بينما اسم صديقه محمود أبو القمصان) أن المسرحية سياسية تحكي عن فرقتيْ اللصوص والشحاتين وصراعهما الذي أجَّجه الحاكم الإنجليزي.وفي الأخير يتحدان بعد عدد من المشاكل.

كما شرحا لي،في هذه اللحظات اللامسرحية القليلة، أنهما يعملان ككومبارس لزيادة مدخولهما المادي، فالسيد شوقي عطية، (وقد أراني بطاقته المهنية- دون أن أكذبه أو أطلب منه إثباتا- وبها أنه يعمل موظفا أو مخبرا بالنيابة العامة) ؛ أما السيد محمود فقد عمل لمدة ثلاثة عشر عاما في ليبيا عاملا،قبل أن يعود ويشتغل "سبع صنايع" وضمنها المسرح الضايع !.

في الساعة العاشرة، دخلنا الصالة، وبدعوة من مخرج المسرحية محمد الخولي، جلستُ في الصف الأمامي المقابل لخشبة المسرح، إلى جوار الأديب المصري سعيد الكفراوي والروائي الليبي أحمد إبراهيم الفقيه والأستاذ الخضيري.

وخلال ساعتين تتبعنا عملا أوبيرتيا عاديا، لم يبذل فيه الممثلون أدنى مجهود لإقناعنا بأفكار واضحة،كما هو الحال في النص الأصلي لنجيب سرور،بقدر ما أقنعتنا رقصات لقاء سويدان وفرقة الفتيان والفتيات؛ أما نجوى فؤاد فكانت تتقدم كثيرا منا وتحقق النظر.. وأنا مدرك أنها كانت ترى فينا أبطالها الذين عاشت معهم على مدى أزيد من نصف قرن، وتقول في نفسها هذا.. رشدي أباظة، أنور وجدي، فريد الأطرش، عبد الحليم حافظ... وغيرهم.

 اصْح يا نجوى.. نحن هنا نبحث عن حكايات للمستقبل الهارب وليس من زمنك المستعصي..

ثم التفتَ إليَّ سعيد وهو يقول (لحظة وقفت نجوى مرة أخرى أمامنا متعبة دائخة من الزمن الهارب تنظر إلينا بعيون حزينة):

انظر يا شُعيب....
بَحِبَّها وهي مالكة الأرض شرق وغربْ
وأحبها وهي مرمية جريحــــــة حــــــربْ

فهمتُ خفة دم عمنا سعيد،الكاتب الذي يحبه الجميع، وأنه استعار البيتين الشعريين من قصيدة " اسم مصر" لصلاح جاهين وأسقطهما على لحظتنا تلك.
أشفقتُ على شيخوختها ورقصاتها الفاقدة لرشاقة بعيدة.خرجنا بعد منتصف الليل ثم مشينا وسط حي غاردن ستي البهي..فشعرتُ فيه بحالة غريبة من الفرح وأنا وسط أشجار شامخة تتساقط أوراقها في غنج وهدوء. ركبنا السيارة وتوجهنا إلى فندق البيراميزا.

عدتُ بالليل متأخرا، وعاد إليَّ شيطان النثر يدعوني بإلحاح للكتابة، وهو غير سلطان الشعر الرشيق. فصاحبي جاءني محملا بعدد من الحقائق التي ملأت نفسي... وذكَّرني بالنص النائم الذي يستفيق بداخلي كلما هاجرتُ وطني، فقلت له بأن نصوصا نائمة كثيرة تزدحم في خاطري ولا ألومها على شيء في كل هذا، سواء هنا أو هناك.
 أنا معك،معنىٌّ فقط بحكاية الجبل وأهله.. أما غير ذلك مما تفكر فيه أو ما ستصادفه في الأيام المتبقية بمصر..فهو مِلكُكَ وحدك (قال لي شيطان الحكاية ).

أخرجتُ أوراقي القديمة، وقرأتُ ما كنتُ كتبته في رحلتيَّ السالفتين إلى القاهرة والشام، ثم رميتُ القلم وتمددت على فراشي الوثيرمتفكرا في ما جرى لاحقا بالجبل.وسرعان ما نسيت الأمر ونمت تاركا شيطان النثر واقفا دون أن يلوي على شيء من خيالي.

مثل نهر شارد

كل مكان أزوره وأعود إليه إلا وتكون وشائج المودة الحقيقية بيننا راسخة، تعززها صداقة أهله من أصدقائي، ففي كل مرة أبحث عن لحظاتٍ لزيارة ولقاء أصدقاء أعزهم، فيما تعذر عليَّ اللقاء بآخرين لوجودهم خارج القاهرة،أو لأن هواتفهم النقالة لا ترد.
يوم الخميس هو آخر يوم في الندوة التي تواصل فيها النقاش بحرارة،وعرفت الجلسة الأخيرة اقتناعا بمواصلة الانفتاح على ثقافتنا الأفريقية في مسارات جديدة للدنو من هويتنا المشتركة.

وقد فاجأنا إخوتنا في المجلس الأعلى للثقافة بدعوة كريمة، بعد الثامنة ليلا، إلى عمق القاهرة الفاطمية وسط سورها بشارع المعز لدين الله الفاطمي بحي الجمالية.فرُحنا في اندهاش جماعي وتجولنا لساعة بتلك المعالم برفقة حكَّاء يبعث الحياة في الأمكنة التاريخية وهو سعيد الكفراوي، ومؤرخ أنجز أهم أعماله على نفس الفترة د/عماد، وبرفقة الصديق وائل.

بعد حوالي ساعة من الدهشة، دخلنا الدرب الأصفر.خطونا مائة متر لنجد بيت السحيمي،وهو قصر كبير ذو بيوتات ومساحات واسعة، فتعشينا في جو حميمي ممتع.. ثم فجأة لمحت الدكتور جابر عصفور يحضر بيننا،جاء يسلم على الحاضرين، فقمتُ من مكاني وعانقته وقد شعرت بدفء غريب يغمرني..نسيتُ كل شيء إلى جواره (أخذني جانبا يطمئن ويسألني إن كنت في حاجة إلى أي شيء بالقاهرة. شكرته وأنا أحس بحرارة وهو يخاطبني كما لو يخاطب ابنه الذي عاد من سفر).وهو نفس شعوري الذي أحسه حينما التقي بوالدي محمد بن عبد السلام أو بأساتذتي في العلم والحياة... أطمئن وأشعر بالأمان إلى جوارهم..فالدكتور جابر لوحده جامعة متحركة بالعلوم والمعارف والأخلاق النبيلة،وأنا اعتبر نفسي واحدا من تلامذته وأعتز بذلك، ولنا دين في أعناقنا تجاهه.

عُدنا متأخرين إلى الفندق، ثم خرجنا بعد منصف الليل نحو مقهى خان شقاوة حيث قضينا فيه،نحن الثلاثة: محمد ومنعم والعبد الفقير إلى الله، أزيد من ساعة ونصف قبل العودة إلى غرفنا وقد أنضجتُ أمرا جللا في نفسي، لم أخبر به أحدا من قبل أو من بعد.

قبل خلودي إلى النوم، قررتُ زيارة شارع المعز لوحدي ولم يكن متبقيا على التنفيذ سوى أربع ساعات فقط، وهي حصتي من النوم، حيثُ استفقتُ في الرابعة والنصف، خرجتُ بسرعة في ظلام فجر آت لا ريب. ركبت التاكسي.نزلت بحي الأزهر سابحا بمسجد سيدنا الحسين، متسربا عبر خان الخليلي في دروبه السحرية (حي خان الخليلي واحد من ثمانية وثلاثين سوقا كانت منذ أيام المماليك..والسوق يقع فوق مقابر الخلفاء الفاطميين ). وصلتُ إلى شارع المعز.. كان صامتا متأملا وسط أضواء خافتة، بخطوات ثقيلة وأخرى سريعة، ومن حين لآخر تتناهى إلى سمعي أصوات محملة بآثار النوم... فأسمعها مثل الخيال.

دخلتُ وحيدا في فجر صامت فصرتُ متعددا في زمن يضج بأكثر من حياة، تختلف وتتبدل كل ثانية.جلستُ بمقهى فرعية، هناك، شربتُ شايا ثم قمتُ فمشيتُ ذهابا وإيابا وسط عصور تترآى أمامي وأنا أسبح بجوار جامع الحاكم بأمر الله، وكالة قايتباي، بيت السحيمي، جامع سليمان آغا السلحدار،جامع الأقمر، الدرب الأصفر، سبيل عبد الرحمان،قصر الأميربشتاك،جامع السلطان قلاوون،مدرسة الظاهر برقوق،تربة الصالح أيوب،المدرسة الصالحية،المدرسة الكاملية،مدرسة الناصر محمد بن قلاوون،جامع الأشرف برسباي،مدرسة وسبيل السلطان الغوري،حمَّام المؤيد...

على طول كيلومترين متعرجين مثل نهر شارد ومتعب يحمل على كتفيه أنواء أزمان بعيدة، من باب الفتوح إلى باب زويلة، تشيدت ستة مساجد وسبع مدارس وسبعة أسبلة وأربعة قصور ووكالتين وثلاث زوايا وحمّامين وبوابتين ووقف أثري.

عدتُ مشبعا بالحياة. بقيتُ صامتا أتفكر في المعز لدين الله رابع الخلفاء الفاطميين في تونس وأولهم في مصر والإمام الرابع عشر من أئمة الإسماعيلية.وفي المساء عاد إليَّ شيطان الحكاية بعدما اختليتُ في غرفتي وصرتُ وحيدا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى