الثلاثاء ٢٧ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠١٢
بقلم مادونا عسكر

عندما يشدو قلب الإمام للحبّ.

حبيبٌ باتَ يأْسِرُني الحبيبُ

وَمَا لِسِوَاهُ في قَلْبِي نَصِيْبُ

حَبِيْبٌ غَاْبَ عَنْ عَيْنِي وَجِسْمِي

وَعَنْ قَلْبِي حَبِيْبِي لا يَغِيْبُ

إن كان للكلام ملك فعليّ سيّد الكلام، وإن كان للبلاغة أسياد فعليّ سيّد البلغاء، وإن كان للقلوب رائحة من عبق الإله، فهو من قال فيه جبران خليل جبران: " إن عليّ بن أبي طالب كلام الله النّاطق، وقلب الله الواعي". فقلب عليّ الممتلئ من محبّة الله أفاض حكمة استمدّها منه وأغنى الفكر بلاغة استقاها من فكره.

بيتان شعريّان نطق بهما قلب عليّ* عند قبر فاطمة (ع)، حملا كلّ الحبّ السّاكن في الأثير. بيتان أغنى من قصائد حبّ نُظمت وأثرى من كلام في الحبّ نقرأه في سطور لا تنتهي، ولا تلمس قلوبنا.

حبيبٌ باتَ يأْسِرُني الحبيبُ

وَمَا لِسِوَاهُ في قَلْبِي نَصِيْبُ

هو الحبيب المالك القلب بكلّيّته ومالك الحياة بأكملها، هو سيّد الكيان، فكيف لسواه أن يغرف من هذا الحبّ؟ وكيف لآخر أن يملك على كيان أسره الحبيب؟
والحبّ إن احتوى كيان الإنسان بدّل معالم الكون، فلا نعود نرى في سحره إلّا سحر الحبيب وفتنته، ولا نعود نسمع إلّا همسه المسافر عبر ذبذبات الأثير، ولا نشمّ إلّا عبيره المنتشر في أعماقنا فنتوه في عالمه ونشدو اسمه كلّ حين.
هذا الحبّ النّادر الأصيل، لا يدركه إلّا من كرّسوا قلوبهم للحبّ وللحبّ فقط، كما أنّه للأقوياء، فهم السّائرون على الأشواك في دروب الحياة، يحملون قلوبهم شعلة حبّ يتحدّون بها كلّ المصاعب والمخاطر.
ولو لم يحمل عليّ في قلبه الحبّ، لما كان فخر التّاريخ ومنارة له، ولا اعتزّت به أمّة، وتغلغل حبّه في قلوب كثيرين فترجموه شعراً ونثراً، منهم الشّاعر والوزير اللّبنانيّ " جوزيف الهاشم" الّذي قال في قصيدة لمدح الإمام عليّ:

على منابرهِ، أشذَاءُ خاطرِه

ومن جواهرِه، الصدَّاحةُ الخُطَبُ

ومِنْ مآثره، أحْجى أوامرِه

ومن منائرِه، تَستمْطِرُ الكتُبُ

إنْ غرَّدَ الصوتُ هدّاراً "بقاصعةٍ"

كالبحرِ هاج، وهلَّتْ ماءَها السُحُبُ

ونظم شاعرنا الكبير بولس سلامة، قصيدة من أجمل ما كتب في مدح الإمام عليّ نقتبس منها الأبيات التّالية:

يا عليَّ العصورِ هذا بياني

صِغتُ فيه وحيَ الإمام جليّا

يا أميرَ البيان هذا وفائي

أحمَدُ اللهَ أنْ خُلِقتُ وفيّا

يا أميرَ الإسلام حَسْبيَ فخراً

أنّني منك مالئٌ أصغَرَيّا

جَلجَلَ الحقُ في المسيحيّ حتى

صَارَ مِن فَرطِ حُبِهِ عَلَويًّا

يا سماءُ اشهَدِي ويَا ارضُ قَرِّي

واخشَعِي إنَني ذَكَرتُ عَليِّا

وغيرهم ممّن رأوا في عليّ شخصيّة عظيمة استحقّت أن تدخل التّاريخ لشجاعتها وبسالتها وقيادتها الحكيمة، كجرجي زيدان وميخائيل نعيمة وعبد المسيح محفوظ وغيرهم ممن ذكروه في آثارهم الشّعريّة والنّثريّة.
إنّ عظمة عليّ، تكمن في قلبه الممتلئ حبّاً لله، ذاك الحبّ الّذي لا يطلب إلّا الزّهد في سبيل الوصول إلى الكمال، والّذي يمنح الإنسان حرّيّة الفكر ورزانة الخلق. لا يمكن للإنسان أن يسلك في الحبّ ما لم يمتلئ من الحبّ الإلهيّ، فالإنسان لا يعرف كيفيّة الحبّ، فإمّا يكون حبّه مؤقّتاً وآنياً، وإمّا لمصلحة ما، وإمّا لحاجة ما. أمّا الحبّ الإلهيّ فهو مطلق شامل ومجّانيّ، لا يعرف حدوداً ولا نهاية. تملّك حبّ الله من قلب عليّ، فحمل الرّسالة ودافع عنها بقوة الحبّ الخالصة وبرز شخصيّة رياديّة، تفيض ذكاء وحكمة.

حَبيبٌ غابَ عَن عَيني وَجِسمي

وَعَن قَلبي حَبيبي لا يَغيبُ

هو الحبيب الحاضر وإن غاب، قد لا تراه العين ولا يحسّه الجسد، وإنّما يلامسه القلب وتعاينه البصيرة. حبيبٌ، إذا غاب عن الطّرف، اتّقدت نار البصيرة لتعاينه، وتحرّك الفؤاد لملامسته.
ذاك الحبيب الّذي لا يغيب وإن غاب، ولا يحتجب وإن احتجب. يرفع المحبوب إليه، بهمسة حبّ، ويسمو به إلى ديار الخلد. وهذا ما يشير إليه الإمام عليّ في خطبة له:

"انظروا إلى الدنيا نظر الزّاهدين فيها، الصّافين عنها. فإنّها والله عمّا قليلٍ تزيل الثّاوي السّاكن، وتفجع المترف الآمن. لا يرجع ما تولّى منها فأدبر، ولا يدري ما هو آتٍ منها فينتظر. سرورها مشوب بالحزن. وجلد الرجال فيها إلى الضعف والوهن. فلا يغرنّكم كثرة ما يعجبكم فيها، لقلة ما يصحبكم منها رحم الله امرأً تفكّر فاعتبر، واعتبر فأبصر."

هذا هو قلب عليّ، قلب مائت عن العالم ليحيا في قلب الله، وزاهد في الدّنيا مغتنيّاً بأبديّة الحبّ الأزليّ. لا تغريه مفاتن الدّنيا ولا تغويه، نظر بقلبه إلى الله فشرب من حبّه، حتى الثّمالة. هو عليّ الخلق والخُلق، وعليّ القلب والبصيرة. من فهم أنّ الأمان والأمن يكمنان في محبّة الله، وأنّ الدّنيا بكلّ ما فيها ليست سوى هبة الله للإنسان. هو عليّ الإمام المنارة، هو كما رآه بولس سلامة:

فإذا لم يكن عَليٌّ نَبيّا

فَلَقَد كانَ خُلُقَهُ نَبوّيا

* من كتاب (من الشعر المنسوب إلى الإمام علي- ديوان الإمام علي) قدم له وشرحه: د. صلاح الدين الهواري، دار مكتبة الهلال، ودار البحار، بيروت، طبعة 1، 2003، ص 35، رقم 35


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى