الثلاثاء ١٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٧

عودة ليليت لجمانة حداد ترجمةً إسبانية وفرنسية وألمانية

وطبعةً مصرية ومقاربةً مُمَوْسقة

صدر حديثاً ديوان "عودة ليليت" للشاعرة جمانة حداد باللغة الاسبانية، بترجمة هكتور فرناندو ڤيثكارّا، لدى منشورات "براسيس" في مكسيكو

www.editorialpraxis.com

التي يديرها الشاعر الغواتيمالاني كارلوس لوبيث. "عودة ليليت" يصدر أيضاً بالفرنسية قريباً، عن دار لينفينتير

www.editions-linventaire.com

في باريس (بترجمة أنطوان جوكي، وبغلافٍ يحمل بورتريه للشاعرة بريشة الفنان محمود الزيباوي)، وبالألمانية عن دار "هانز شيلر" في برلين (بترجمة فؤاد العوّاد)، ناهيك بصدوره بطبعة مصرية خاصة عن دار "آفاق" في القاهرة. فضلاً عن ذلك، قام المؤلف الموسيقي السويسري من أصل لبناني محمود تركماني بموسقة الديوان، على أن يُطرح السي دي في الأسواق سنة 2008، وهو من إنتاج شركة.

في المناسبة، قراءةٌ جديدة في هذه المجموعة، التي كانت صدرت عام 2004 عن "دار النهار" في بيروت.

ليليت امرأة ما قبل العناصر وما قبل القانون والتاريخ تعود، تقول لنا جمانة حداد في كتابها "عودة ليليت". اسم هذه المرأة الأصل يبدو كأنه حشود ليل تتكثف في هيئة واحدة وتجد لنفسها مستقرا في تجاعيد جغرافيته المعتقة. هكذا يصبح الاسم خمرة الأصول وشهوتها الى الكشف عن ذاتها في فعل السكر واهداء معناها الى الظلال المترسبة في القاع. تكمن الحركة المنشودة في انزياح الترتيب والتدبير لصالح فوضى تكوينية تتيح المجال لكل شيء ان يتحول الى رقص. لا يتم هذا الرقص داخل عالم قائم بل ان العالم ينبثق منه. هكذا يبدأ التكوين المحموم لعالم السر الخاص بليليت، المرأة التي ارادت أن تكون بنتا لأحوالها وأن تكون دائما وفية لأصابعها الخاصة التي عزفتها وكوّنتها. لذلك طردوها من التاريخ وزوّروها وحجّبوها بالنقص والحاجة وشوّهوها بالطاعة وموّهوها بالفضيلة. صنعوا من هذا الخليط الميت امرأة الاعوجاج المخلوقة من ضلع ذكوري أعوج. اسم هذه المرأة حواء، وهي التي من المفترض أن تكون أمّنا الكبرى الأصلية وتغدق علينا من فضائل نقصها ما يمكننا من أن نكون كائنات الخضوع والاستكانة وكائنات الصمت. لكن ليليت عادت وفتحت الهاوية وأطلقت فتنة الأصول وجحيم التناقض الخلاق، وهذا الديوان هو محاولة لقراءة بعض متاهاتها.

مخادع التيه: اسم غريب تطلقه الكتب القديمة التي تروي قصة الخلق على الشجرة المحرمة التي يُمنع الاقتراب منها واكل ثمارها. تسمّى تلك الشجرة شجرة المعرفة. الممنوع والمحرّم ليس سوى العقل الذي من الممكن أن يؤدي الى صياغة الأسئلة وصولا الى الرفض والتمرد. الجنة تاليا ليست سوى الجهل والعماء حيث الأشياء تفتقر الى الدهشة والمكابدة والتوهج. هي دائما مجانية ومتكررة وعمياء. لحظة الاغواء كانت بداية نشوء الوضع البشري الذي صنعته الأنثى، اذ انحازت الى الخطر والاكتشاف على حساب الأمان المغفل والكئيب. هذه اللحظة كانت لحظة اكتشاف الرغبة، اذ كان العري قائما في القبل ولكن دونه حجاب الجهل السميك. اكتشاف العري كان اكتشاف الفن والارادة، وكان ايضا وبشكل جوهري اكتشافا لخصوصية الرغبة وقدرتها على اختيار مجالها خارج الاكراهات الاجبارية للذائذ الجنة المغلفة بالوهم. اللذة الحقيقية، كما أظهرتها الخطيئة، هي لذة تتطلب مسؤولية وليست لذة مجانية وعامة. لذا كان لا بد من اغتيال الجنة بثبات لذائذها وجمود أحوالها وسكون مفاهيمها. هذه المهمة ليست مهمة المرأة التي ارتضت أن تكون النموذج الثاني بل مهمة ليليت. من هنا تدخلنا ليليت في مخادع التيه بوسائل شيطانية هي وسائل اللغة التي لا تكف عن صناعة التيه.

تتبنى الشاعرة جمانة حداد ليليت وتدخلها في تكوين اناها الخاص فتسيطر الـ"أنا" على مجمل حركة النص. قد يبدو هذا الموضوع فخا كان يمكن أن تقع فيه الشاعرة، اذ إن احالات الأنا ضيقة وملزمة ومانعة لتدفق النهر الشعري. لكن حداد تنجح في تحويل هذا المأزق مشروع كتابة خاصة تقيم في المضائق براكينها وتستطيع على الدوام بث الشعر من مناطق يعتقد انها خامدة ومعطلة شعريا. تجعل كتابها معجما لأنا ليليتية غامضة وعصية على التصنيف. اذا كانت الـ"أنا" هي القسم الواعي من الجهاز النفسي وفقا للتفسير الفرويدي، فان حداد تجعل منها متحفا فريدا يضم الأنا العليا والـ هو الذي يوصف بأنه خزان الرغبات والغرائز. انطلاقا من هذه الانا المتكررة الحاوية كل شيء، تتماسك الصور وتترابط برابط التيه، وهو الثابت الوحيد في النص.

هذه بعض أنوات جمانة حداد: أنا ليليت المرأة القدر. أنا المرأة القمران ليليت. أنا العذراء ليليت، وجه الداعرة اللامرئي، الأم العشيقة والمرأة الرجل. أنا المرأة المائدة وأنا المدعوون اليها. أنا المرأة الأولى التي لم تكتف لأنها الوصال الكامل، الفعل والتلقي، المرأة التمرد لا المرأة الـ نعم. أنا ليليت المرأة الأولى، شريكة آدم في الخلق لا ضلع الخضوع. أنا المرأة المرأة، الإلهة الأم والالهة الزوجة. أنا العتمة الأنثى لا الأنثى الضوء. أنا ليليت المخلوقة الند والزوجة الند، ما ينقص الرجل كي لا يندم وما ينقص المرأة كي تكون. أنا ليليت المرأة الغابة. أنا ليليت اللبوءة المغوية. أنا ليليت سر الأصابع حين تلحّ. أنا الزهرة العارية أمنح العري زهرة معناه. أنا التي في الجهات كلها فأين تهربون مني وأنتم اليّ تفرون.

تضم الأنا الليليتية اليها كل شيء وتبدو الحامل الاساسي للوجود. في جمعها الحثيث للمتناقضات وصبّها في بنية موحدة، تجعل اللغة أيضا تقيم فيها، فكيف تصفها اذاً؟ لا يمكن القيام بمثل هذه المهمة الا حين ندرك ان اللغة تستبطن اسباب نشوئها من رحم الأم الكبرى ليليت، وتاليا لا تصف بل تروي. أكثر من ذلك: تنتشي. رعشة ما بعد اللذة التي تلتقط فيها اللغة أنفاسها هي التي تسمح للكلام أن يكون، ولكن دائما في وضعية الظل لأحوال تقبع دائما خارج الوصف. لا حل لمشكلة التعبير المحصور في امكانات اللغة التي تقصر ازاء فيض التحولات العارم، الا بدفعها الى أقصى حدود الهذيان والاسراف. هكذا لا تعود عقلا ولا جنونا ولا تعبيرا أو وصفا أو سردا. تصبح بذخا وتصبح هي أيضا تيها. هكذا تنجو اللغة من فخ الوسيلة وتصبح غاية، كونها صارت هي ايضا ليليتية.

تسوق الشاعرة مشهدا تخاطب فيه ليليت آدم: "اجمعني/ فالمطلوب واحد/ تعال في سيول عينيك اجمعني/ مسمر قممك في هاوياتي/ احفر تقاطيعك على ذاكرة راحتيّ/ وتنشق النمرة الكامنة عند مسقط الكتفين". ليليت المتفرقة، تطلب من آدم جمعها في ما يرفضه من صفاته. تطلب منه أن يضمها بالدمع والحنان، ولكن ماذا تفعل النمرة عند مسقط الكتفين؟ مسقط الكتفين هو ما تحت الكتفين، اي انه الجسد كله. لذا يبدو استخدام كلمة مسقط كأنه ترميز ينحو في اتجاه تصوير الجسد كله على انه هاوية في حالة سيلان دائمة، أو هو هاوية تقع في نفسها دائما. الدعوة اذاً هي للتنشق، لشم رائحة التيه، لكي تسيطر اغواءاته وتغري آدم الرجل القانع بلذات السكون في محاولة اكتشاف العالم الغامض. النمرة تحرس الهاوية، وهي نمرة من رائحة، من عطر خفي، أي من مادة الظلال والضباب. تغوي كلمة "الكامنة" باحتمال احالتها على معنى الاختفاء ومعنى نصب الكمين. كلاهما يحيل أحدهما على الآخر. فلكي تنصب كمينا، عليك أن تختفي. وحين تختفي، تكون في وضعية تؤهلك لنصب الكمائن. المخدع الذي يدعى اليه آدم ليس للطمأنينة والسكون، بل مخدع التيه، الذي أكملت النمرة الكامنة عند مسقط الكتفين، أو ليليت، أو الشاعرة جمانة حداد، رسم عناصره.
شادي علاء الدين

حواران حول ليليت

تُنسب القصيدة الأولى (المعروفة) التي كُتِبت عن ليليت الى شاعر فرنسي مغمور من القرن الثالث عشر، اسمه اوغوست لول. ولكن لا شك في أن قصائد كثيرة كُتبت عن هذه المرأة القدرية قبل ذلك، وبعد ذلك على السواء. في ما يأتي لقاء انترنتي سريع مع شاعرة وشاعر معاصرين استلهما ليليت: الأولى هي الشاعرة الكندية من أصل ياباني جوي كوغاوا، التي أصدرت عام 2001 كتابا عنوانه "أغنية ليليت" بالانكليزية. أما الثاني فهو الشاعر الغواتيمالي فرناندو لويس خواريث، الذي أصدر عام 2006 مجموعة شعرية بالاسبانية عنوانها "البحث عن ليليت". يذكر أن من المقرّر أن يكون لجمانة حداد قراءات مشتركة حول ليليت مع خواريث في مهرجان "اللقاء العالمي للشعراء" في السلفادور، كما يتم العمل على أن يحصل الشيء نفسه في كندا مع كوغاوا لدى صدور الترجمة الانكليزية من "عودة ليليت" (يعمل عليها الشاعر البريطاني ديفيد هارسنت).
طرحنا الأسئلة نفسها على الشاعرين عبر الإيميل، وهنا أجوبتهما:
ر.ر.

حوار مع جوي كوغاوا

* تناولت مئات الكتب ليليت، في الشعر وفي الأدبين التخييلي وغير التخييلي. فما الذي حدا بك الى الكتابة عنها بدورك؟
 في الواقع لم أكن أعرف شيئاً عنها. بل كنت ببساطة أستجيب طلب موسيقي وفنانة اهتما بالتعاون معي في سبيل تنفيذ عرض "مولتي ميديا". جاءتني شتى المعلومات التي حصلت عليها من الفنانة ليليان بروكا.

* حدِّثينا عن كيفية عملك على الشخصية. هل واجهتِ صعوبة في التعامل معها "شعريا"؟
 لا أدرك تماماً كيف تبلور ذلك كله. أتت الكلمات ببساطة خلال "شهر من منتصفات الليالي المتتالية".

* هل أجريتِ أيّ نوع من الابحاث قبل ان تنكبّي على الكتابة عنها؟
 لا. بعثت لي ليليان بروكا بالمعلومات وكانت الوحيدة في حوزتي.

* ألم تتأثري بما قرأته عنها؟
 لا أظن. تطورت الافكار من تلقاء نفسها.

* هل أضفتِ منحى تخييليا على الشخصية أم التزمتِ القصة الأصلية وحوّلتِها شعراً؟
 أدركت انها شخصية ميثولوجية وتراءت لي امرأة قوية وعادلة تغلبت على تجارب متنوعة. صممتُ التجارب الثلاث التي ركزت عليها في كتابي بناء على تجارب السيد المسيح.

* تراها ألهمتكِ في يومياتك أيضا؟
 لا يمكنني الجزم.

* هل شعرتِ خلال مسار الكتابة عنها أنك تكتبين أيضاً عن نفسك؟ هل تماهت الشخصية والشاعرة في لحظة محددة؟
 لم أكن واعية تماماً، لكن في رأي بعضهم ثمة جزء من السيرة الذاتية في كل عمل بالمطلق.

* وما هو التحدي الذي واجهته خلال كتابتك عنها؟
 على نحو عام، يكمن تحدي الكتابة بالنسبة اليَّ في التزامي الانفتاح على مخاطر عجزي عن الولوج، وتالياً عجزي عن نقل اختبار وضع جلي وصائب في منحى ما. في هذا المعنى، أحدس أن كتابي عن ليليت غير ناجح.

* أتختارين بيتاً شعرياً ورد في كتابكِ عنها وتفضلينه؟
 لا أدري. أجتاز الآن مرحلة من تفتت الثقة. آه ليليت، أين أنت؟

حوار مع فرناندو خواريث

* تناولت مئات الكتب ليليت، في الشعر وفي الأدبين التخييلي وغير التخييلي. فما الذي حدا بك الى الكتابة عنها بدورك؟
 صحيح أن كثرا كتبوا عن هذه الشخصية، ولكن نحن ككتّاب، وحتى كبشر، لا نعيش التجارب والعلاقات والخيالات بالطريقة نفسها. تالياً فكّرتُ أن أكتبها على طريقتي. هل ينبغي لنا مثلا ألا نكتب عن الحب لأن سوانا سبقنا الى الكتابة عنه؟ ليليت هي رمز ومعيش، تماما كالحب. ولا يمكن أن نقارب هذا الرمز أو هذا المعيش بأسلوب واحد موحّد.

* حدثنا عن كيفية عملك على الشخصية، هل واجهت صعوبة في التعامل معها "شعريا"؟
 بالعكس. إنها أكثر شعريةً من موهبتي ولغتي وأفكاري. الصعوبة الوحيدة كمنت في أني كنتُ، كشاعر، "أقلّ" منها.

* هل أجريت أيّ نوع من الابحاث قبل ان تنكبّ على الكتابة عنها؟
 قرأتُ أبحاثاً عنها، وأيضاً بعض الأعمال الأدبية بالاسبانية والانكليزية خصوصا.

* ألم تتأثر بما قرأته عنها؟
 لا. آمل على الأقل أني لم أتأثر. تأثرت بقصتها فحسب. بسحرها وسوداويتها وتطرّفها.

* هل أضفت منحى تخييليا على الشخصية أم التزمت القصة الأصلية وحوّلتها شعراً؟
 فعلا، كانت الكتابة عنها عملية اختراع أكثر منها اختبار وفاء لقصّتها أو لاسطورتها.

* تراها ألهمتك في يومياتك أيضا؟
 انعكست معرفتي بها على علاقتي مع النساء عموما، ومع المرأة التي أحبّ خصوصا. نحن هنا في أميركا اللاتينية نعيش في مجتمع ذكوري الى حد كبير، وقد ساعدتني ليليت في تجاوز بعض مظاهر ذكوريتي المزعجة، الموروثة عن والدي وأجدادي. علّمتني "الاستسلام".

* هل شعرت خلال مسار الكتابة عنها أنك تكتب أيضاً عن نفسك؟ هل تماهت الشخصية والشاعر في لحظة محددة؟
 لا أعرف. ربما. ولكن يمكنني القول بلا مبالغة إنها أيقظت "المرأة" التي فيَّ. ربما يكون هذا نوعاً من التماهي. في أي حال استغرب كثر أن أكتب عنها، لأنها تستميل الكاتبات أكثر من الكتّاب عموما.

* وما هو التحدي الذي واجهته خلال كتابتك عنها؟
 مثلما ذكرت سابقا، كانت التحدي الأعظم في أنها اجمل من قدرتي على وصفها شعريا.

* أتختار بيتاً شعرياً ورد في كتابك عنها وتفضله؟
 "أنتِ أنا، ليليت، عند المقلب الآخر من جسدي".

"ليليت والحركة النسوية الحديثة" لحنّا عبود

حين تستيقظ الربّة من جديد

دمشق – من روزا ياسين حسن:

لم تكن إلا رسالة من عالم الغيب، عندما اكتشفتُ أن الإيقونة المعلقة في صدر بيتي، تلك الكف الزرقاء والعين المكحّلة في وسطها، تعود إلى أكثر من خمسة آلاف سنة مضت! لطالما استطاعت جدتي ليليت أن تحمي أرواح الأطفال والنساء عبرها! كانت رسالة فحسب، تحاول أن تشرّع روحي المغلقة، لتخبرني أني لست سوى ذاكرة متواصلة منذ بداية التاريخ، أو مجموعة من الحيوات المتراكمة عبر الزمن.
"يا ليل يا عين..."، لم تدندنها نساء قريتي فحسب، بل غنّتها النساء قبل ذلك بألوف السنين، وهنّ يهدهدن المهود، ويحاولن استعطاف ليليت بأغنيتها، كي تؤرجح أطفالهن بشعرها الطويل الأسود الشبيه بليل دافئ.

هذه بعضٌ من رسائل يحاول حنا عبود في كتابه الجديد "ليليت والحركة النسوية الحديثة"، الصادر هذه السنة لدى وزارة الثقافة في سوريا، أن يوصلها إلينا عبر سرد حكاية الجدة الأولى ليليت، منذ ولادتها حتى اليوم. هي ليليت نفسها التي أحيتها شعرياً، في لغتنا العربية، ولثلاثة أعوام خلت، الشاعرة اللبنانية جمانة حداد، وها هو حنا عبود يقاربها اليوم من جهة البحث. وهو إذ يقوم بمسح تاريخها المضني والمشرق عبر سبعة فصول، يتكلم في كل منها عن حقبة من حقب تمظهرات ليليت في كفاح النساء التاريخي ضد السلطة البطريركية. كتاب عبود هذا قد يكون عمله الأول على صعيد التأليف، لكنه ترجم قبلاً أكثر من كتاب حول الأسطورة والحركة النسوية، منها "يوم كان الرب أنثى" 1998، و"موسوعة الأساطير، بولفينش" 1997 وغيرها.
ليليت الربة الأسمى، ربة المهد والليل، هي في الفصل الأول "ليليت تنهض من خرائب سومر" حيث تبدو صورتها الأولى أيام العصر الأمومي، حين كانت سيدة مطلقة في تربية الأطفال. كما كانت إنانا أيضاً، صديقتها الحميمة آنذاك، السيدة المطلقة التي تتحكم بالسماء والأرض ومصائر البشر.
مع مرور الزمن ومحاولة الرجل أخذ زمام السلطة، راحت تتبدل الأمور. فليليت ظلت الربة الوحيدة التي لم تتخلّ عن صلاحياتها النسوية في رعاية المهود، ولا عن حقها في أن تكون الربة الأقوى والمتفردة، فيما تخلّت الربات الأخريات، وأولاهن إنانا، عن قواهن وسلطاتهن لصالح الأرباب الذكور، ما جعل سيطرة الرجل تنبسط تماماً على كل شيء، وجعل الربة إنانا، التي خانت بنات جنسها، عدوة ليليت اللدودة. تشكل إنانا وليليت نموذجين لسياستين أو تصرفين نسائيين مختلفين تجاه التطورات التي أدت إلى سيادة الذكر على إدارة المجتمع.

ملحمة الهرب من الجنة

يفرد عبود الفصل الثاني ليتحدث عن حكاية ليليت في سفر التكوين التوراتي. كانت آنذاك زوجة آدم الأولى قبل حواء، لكنها لم تُصنع من ضلعه، كما حواء، بل خلقها الله من طين كآدم، وندّاً له. ملحمة الهرب هي سيرتها كامرأة حرة تجاهد للتخلص من ظلم الرجل الأول ورغبته بالتسلط، وفيها تطالب بنظام يوفّر الحرية ويحقق الذاتية، فيما يصرّ آدم على نظام الخضوع والمراتب الجنسية.

يرصد الكتاب من ثم التغيرات التي طرأت على سيرتها عبر التاريخ، حين راح الحكم الذكوري يلوي الحقائق لصالحه، ويشوّه التاريخ، ومعه سمعة ليليت وصورتها، كي يقتلعها من قلوب النساء، ويقتلع حقها في شيء مهم ومفصلي في الحياة ألا وهو تربية الأولاد، وخصوصاً أنها بقيت الأنثى المعتدّة التي لا ترضى التدجين رغم كل محاولات القمع.

ستضحي ليليت الجميلة ساحرة شريرة، تسكن الخرائب والبراري المقفرة، وتتربص بالرجال والمواليد الجدد لتخنقهم. شعرها الذي كان مهد الأطفال وأرجوحتهم الليلية، يتحول إلى أنشوطة للخنق! وبإدراك الرجال حجم خطورتها وتأثيرها، راحت الحكايات تتكون في أصقاع العالم، لتغدو ليليت ربة الشرور. ستغدو الدراكولا الذي يمتص دم الصغار والرجال، وقائدة الحروب والخراب وهلمّ. لكن ذلك كله لم يستطع حرمان ليليت من قداستها، فبقيت وحدها التي تمتلك سر الله، أي اسمه، ووحدها التي تلفظت به حين كانت تحاول الهرب عبر أبواب الجنة الموصدة.

ليليت تطوف العالم

ظهرت الربة ليليت في الأساطير والميثولوجيا في أنحاء العالم كافة، من أيام الإغريق، مروراً بالأساطير الليبية، حيث كان اسمها الربة لميا، وصولاً الى مجتمعات البربر، التي لا تزال تعيش مجتمعاً أمومياً بامتياز، فإلى ليليت العربية واليهودية.
ينتقل الفصل الرابع إلى تمظهرات ليليت الجديدة، منارة الحركات النسوية الحديثة، ليوضح الظروف التي أحاطت بعودتها، وترافقت مع ما سمّاه الكاتب "الوثنية الجديدة"، حيث طغت النزعة الفردية على الشعور القطيعي، منذ أواخر القرن التاسع عشر، وصار الكفاح من أجل الحرية وامتلاك زمام السلطة، الذي تخوضه النسويات في العالم، عنواناً للقرن العشرين وما يليه.

تقطع ليليت خلال حياتها الطويلة مراحل متعددة، منذ حاولت السلطة البطريركية تجريدها من استقلالها وحتى اليوم، وهي تمرّ بمراحل من الثورات والانتفاضات النسوية، منها قبائل الأمازونات، وتاريخها الطويل الذي يشهد لصراعها المستميت لإعادة السيطرة النسائية على العالم. من أمازونات الإغريق، حتى أمازونات البحر الأسود، إلى الأمازونات الإفريقيات، إلى الأميركيات الجنوبيات، اللواتي قتل منهن الغزو الأوروبي الملايين أثناء اكتشاف العالم الجديد على ضفاف الأمازون الذي سمّي باسمهن.

تعتبر ظاهرة الساحرات، التي سادت في القرون الوسطى في أوروبا، انتفاضة نسوية أخرى. جبهت بالشراسة نفسها التي جبهت بها ظاهرة الأمازونات. كانت كل امرأة متفردة تُتهم بالهرطقة بالسحر والشعوذة، وبأن هناك شياطين وأرواحاً شريرة تسكنها. حرقت أيام محاكم التفتيش في إسبانيا وحدها 30000 امرأة، فيما وصل العدد إلى عشرات الملايين خلال القرن السادس عشر في مختلف أنحاء أوروبا.

الحركات النسوية الجديدة على طريق ليليت

كانت أسلحة الحركات النسوية الجديدة مختلفة عن أسلحة الأمازونات، التي شابهت الأسلحة الذكورية. سلاحها كان الجنس، ومن ثم إعادة نبش التاريخ. فالحقيقة، وهي حبيسة الأسطورة، لا تحتاج إلا إلى تحرير، من أجل أن تتجلى بكامل أبعادها. وكان للمرأة اليهودية، التي خضعت تاريخياً لأقسى أنواع السيطرة الذكورية، دور كبير في بعث صورة ليليت في العصر الحديث، فأصدرت باسمها الصحف والمجلات والمتاحف والمعارض والفرق الموسيقية.

يذكر عبود العديد من الناشطات النسويات في القرن العشرين، أولهن البلغارية جوليا كريستيفا، وهي من أهم الداعيات النسويات، وكانت عالمة لغوية لسانية. ومن ثم الفرنسية سيمون دو بوفوار وغيرهما. ويبدو أن هناك اقتناعاً عمّ الأوساط المثقفة العالمية، بأن تغيير العالم يبدأ من اللغة، فاللغة الذكورية خلقت مفاهيم ذكورية، وينبغي قلب اللغة كي تنقلب تلك المفاهيم.

لم يقتصر النضال النسائي على الأدب والفنون، بل تعداها إلى تقديم إيديولوجيا كاملة أو متكاملة. فالأوسترالية جيرمين غرير تقدّم ما يشبه الإيديولوجيا في كتابها "الأنثى المخصية" 1970، وفي كتابها "نكاد لا نعرفك يا أبي" 1989. أما الفوضوية إيما غولدمان (ليليلت العملية) فخاضت صراعاً بين العمال في الولايات المتحدة الأميركية، ونفيت منها ومن هولندا ومن العديد من الدول الأوروبية، ثم انخرطت في الثورة البلشفية لتتركها بعد حين محبطة من تحول حلمها إلى سلطة ذكورية ديكتاتورية أخرى، ثم دخلت غمار الثورة الفوضوية في بريطانيا. ألّفت إيما الكثير من الكتب، وأصدرت مجلة "الأرض الأم" عام 1906.

كتاب حنا عبود الجميل هذا، وعلى الرغم من الاستطالات والتكرارات، غير المبررة أحياناً، يسرد بطريقة حكائية رشيقة وجذابة تاريخ جدتنا ليليت، منذ ولادتها في الألف الثالث قبل الميلاد حتى انبعاثها من القبر في القرن العشرين، وكل ما مرّت به من ويلات وفظائع وكوارث ومجازر، في محاولاتها الدائمة لاستعادة حقوقها المسلوبة، والاحتفاظ بتفردها واعتدادها، كأنثى فاعلة ومؤثرة وأبية، مهما حاولت السلطة البطريركية، على اختلاف أشكالها وعلى مدار ذاك الزمان الطويل، أن تشوهها وتلغيها وتجعلها تابعاً للرجل فحسب!)

وفي السينما أيضاً...

"ليليت" لروبرت روسين

بعد اتمامه الخدمة العسكرية، يتسلم فنسنت (وارن بيتي، في ايام العزّ) وظيفة جديدة في احد مستشفيات مسقطه ماريلاند للمعالجة النفسية، حيث سيعاشر مريضة تشكو من فصام لكنها لا تفتقر الى السحر. الممرضة تدعى ليليت (جان سيبير، الخارجة لتوّها من قبضة غودار). هذه المرأة الشيطانية المبنية شخصيتها حول أسطورة المرأة الأولى ليليت، ستجرّه، رويداً رويداً، الى عالمها الخاص. وهناك سيبدأ كل شيء. لكن ليليت هذه على علاقة بمريضة أخرى تدعى السيدة ميغان، اضافة الى ان سلوكها مع الفتيان الصغار يشير الى عدم استقرار نفسي واضح. بيد ان تراكم التجارب اللاعقلانية والناتجة من الخضوع للفانتاسمات، سيكون له نتائج تراجيدية على الشخصيات كافة.

في عداد الافلام التي تناولت الخلل العقلي، من مثل "الوجوه الثلاثة لحواء" (نوناليّ جونسون، 1956) أو رائعة ميلوش فورمان "تحليق فوق عشّ عصفور"، فإن فيلم "ليليت" هو الاقل شهرة، رغم ان المسألة برمتها تتمحور هنا على الخلل النفسي الذي من شأنه أن ينسج أفضل الحكايات ويترسم ملامح أجمل الشخصيات. منذ وجودها، اهتمّت هوليوود بالامراض النفسية، من منطلق أن المشاهد "الطبيعي" يريحه أن يذكّره أحدهم بأنه "طبيعي"، والسينما أفضل حيلة لوضعه أمام الامر الواقع، لأنها تتعامل بالصور (الفعل)، بدلاً من الكلمات (الوعود).

المخرج روبرت روسين، الذي ناضل في وجه الماكارثية قبل أن يخضع لها، على غرار زميله ايليا كازان، انجز هذا الشريط بغية إجراء دراسة معمّقة عن حالة الفصام، لكن من دون التطرّق الى الجوانب السلبية لهذا المرض المزمن، مفضلاً الشخصية الذكية المتفوّقة على تخلفها، وهو ذكاء يدفع بليليت الى خلق عالمها الخاص، بعدما فقدت التواصل مع عالمنا نحن الطبيعيين (بين مزدوجين). لا يكتفي المخرج بالتحليل، انما يدعو الى اعادة النظر في بعض المسلّمات، عبر شخصية ليليت، التي تلبسها سيبير ككفّ من مخمل. أما النص فلا يتوانى عن التلميح الى ميول ليليت الجنسية، الامر الذي كان يعتبر انجازاً بالنسبة الى تلك الحقبة. يطرح روسن، الذي انجز مع "ليليت" فيلمه الاخير، سؤالاً هو الآتي: اين الحدّ الفاصل بين العقل السليم والجنون؟ الغني عن القول إنه لا يجد جواب يرضيه ويرضينا. السؤال الآخر الذي يشهره الفيلم هو: هل أن ليليت فعلاً مريضة أم لديها ردّ فعل مغاير إزاء جنون الحياة؟. تضيع الاجوبة أكثر فأكثر، كإبرة في كومة قش. وقلما غرق فنسنت في لعبة ليليت الهدامة، التي ليست الا نسخة لطيفة عن نموذج المرأة اللعوب، التي اكتسحت السينما الهوليوودية في أربعينات القرن العشربن وخمسيناته.

وطبعةً مصرية ومقاربةً مُمَوْسقة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى