السبت ٢٩ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم رندة زريق صباغ

عيلبون قبيل المجزرة

فتحت أبوابها لأبناء القرى المهجرة

يحيي أبناء عيلبون ذكرى النكبة والتهجير مرتين كل عام، الأولى في ذكرى نكبة فلسطين المتزامنة مع احتفال اليهود بذكرى اقامة دولتهم، والثانية نهاية تشرين أول وهو ذكرى مجزرة عيلبون وتهجير سكانها الى لبنان30/10/1948. لم يتم تهجير قرية عيلبون في نيسان وأيار ولا حتى حزيران كما معظم البلدات الفلسطينية الأخرى، لكن عيلبون تلك القرية المسيحية الوادعة الصغيرة فتحت أبوابها وأذرعها لاستقبال بعض النازحين من قراهم المحيطة بعيلبون بعد دخول اليهود وارتكاب المجازر بحق شبابها وتهجير سكان تلك البلدات عام النكبة المشئوم.

بعد سقوط التاصرة 16/7/48 نزح أهالي قرية حطين ( قرية فلسطينية تبعد عن مدينة طبريا 8كلم، دمرت وهجر أهلها عن قريتهم وتوزعوا في الأراضي المحيطة بالقرية والقرى المجاورة لمدة شهر ينتظرون الفرصة ليعودوا إلى بيوتهم. احتل اليهود حطين في 17/7 ومنعوا سكان القرية من العودة اليها فلجأ أغلبهم إلى لبنان. بقي قسم قليل منهم في قرى الجليل مثل عيلبون، عرابة و شفاعمرو. دمر الصهاينة القرية وأقيمت على أراضيها مستعمرة (كفار أربيل) سنة 1949 وبعد ذلك ومستعمرة (كفار حيطيم) عام 1950.

النكبة مصطلح فلسطيني أطلق على المأساة الإنسانية، القومية والتاريخية المتعلقة بتشريد الفلسطينيين خارج وطنهم وهدم معظم معالم المجتمع السياسية والاقتصادية والحضارية عام 1948، وهي السنة التي طرد فيها الشعب الفلسطيني من بيته وأرضه وخسر وطنه لصالح، إقامة الدولة اليهودية اسرائيل. وتشمل أحداث النكبة احتلال معظم أراضي فلسطين من قبل الحركة الصهيونية، وطرد ما يربو على 750 ألف فلسطيني وتحويلهم إلى لاجئين، اضافة لارتكاب عشرات المجازر والفظائع وأعمال النهب ضد الفلسطينيين في قراهم التي هدم الصهاينة أكثر من 500 قرية منها، ناهيك عن تدمير المدن الفلسطينية الرئيسية وتحويلها إلى مدن يهودية، اضافة لطرد معظم القبائل البدوية التي كانت تعيش في النقب والجليل.

في محاولة لتدمير الهوية الفلسطينية تم محو الأسماء العربية وتبديلها بأسماء عبرية وتدمير طبيعة البلدات والمباني العربية الأصلية وتبديلها بأبنية حديثة بهدف خلق مشهد طبيعي أوروبي للبلاد.

على الرغم من أن السياسيين اختاروا 1948/5/15 لتأريخ بداية النكبة الفلسطينية (اليوم الذي أعلن فيه بن جوريون إقامة دولة اسرائيل) إلا أن المأساة الإنسانية القومية بدأت قبل ذلك بكثير ومنذ هاجمت العصابات الصهيونية الإرهابية القرى والبلدات الفلسطينية، ابادتها أو دب الذعر في نفوس سكان المناطق المجاورة بهدف تسهيل تهجير سكانها لاحقاً.

يتذكر الفلسطينيون يومياً ما حل بهم من مأساة إنسانية وتهجير كما يحيي الفلسطينيون ذكرى النكبة سنوياً بتنظيم مسيرة ضخمة يشارك فيها فلسطينيو الداخل من كل الأطياف والأجيال من منطلق (لا عودة عن حق العودة). تم الاتفاق على أن يكون يوم الذكرى هو اليوم التالي لذكرى اعلان دولة اسرائيل كإشارة إلى أن كل ما قامت به المجموعات المسلحة الصهيونية بحق الشعب الفلسطيني كان من أجل التمهيد لقيام هذه الدولة التي أريدَ منها أن تكون دولة لليهود فقط (يتغير تاريخ الذكرى كل عام نسبة للتقويم العبري القمري الذي يسير عليه اليهود في أعيادهم ومناسباتهم).

أذكر ما حكاه لي أبي عن تلك الفترة، وأذكر حديثه عن صبي بجيله من قرية حطين لجأ مع أهله الى عيلبون وسكنوا في الحارة، بات الاثنان بسرعة صديقين حميمين، يلعبان معاً في الحارة يركضان في الحكورة المحيطة بالبيت، كما في ساحة كنيسة الروم الارثوذوكس يقطفون ما نبت بها من نباتات يمكن تناولها أو حتى اللعب بها. قال والدي ضاحكاً:- "بعد قداس الأحد لحق بي صديقي وطلب مني شمعة ليضيء بها بيتهم في المساء، أعطيته اياها فشكرني بحرارة. ثم بدأنا نلعب الغميضة في الساحة، وكان أن اختبأ محمد، بحثت عنه طويلاً فلم أعثر عليه، خرج بعد حين ضاحكاً فخوراً بنفسه اذ نجح بالاختباء مني، ليتضح أنه اختبأ في منطقة المذبح في الكنيسة وهو لا يعلم أنه لا يجوز الدخول اليه سوى للكهنة، أخبرني أنه تذوق عصير العنب الموضوع في الداخل وانه لذيذ جداً، لم يدرك محمد أن هذا النبيذ هو رمز لدم السيد المسيح الذي نتناوله نحن المسيحيون مع القربان كرمز لجسده ( المناولة تتم بيد الكاهن فقط في نهاية القداس) حاولت أن أشرح له ذلك فبدا سعيداً، ضحكنا معاً كطفلين. تابعنا اللعب وسعادة الدنيا تغمرنا وتغمر سنوات عمرنا الثمانية غير مدركين ماذا سيحل بنا بعد شهرين.

لم أعرف ما حلّ بصديقي بعد مجزرة عيلبون 30/10/1948 وطردنا جميعاً الى لبنان، أتذكره طيلة الوقت وأحاول أن استوعب مخاوفه من عيش فظاعة التهجير مرتين، الأولى من قريته حطين الى عيلبون، الثانية من عيلبون الى لبنان"!!.

حدّثني أبي الفضل كيف قام عدد من رجال عيلبون بدفن شهداء مجزرة عشيرة المواسي من قرية (مزقة حطين) التي تبعد عن مدينة طبريا 15كم، تحيط بها قرية حطين، عيلبون، قرية دير حنا وقرية الوعرة السودا المهجرة اضافة لسهل البطوف.

اعتاد جيش الإنقاذ، الذي كان على رأس كتائبه أديب الشيشكلي من سورية، ووصفي التل من الأردن ايقاف القتال بالقول: "هدنة هدنة، "ارجعوا يا عرب مطرح ما كنتوا" فيدخل اليهود القرية ويحتلونها ويبقون فيها. وهكذا استولى اليهود على فلسطين؛ قطعة قطعة، قرية قرية نتيجة تخاذل جيش الانقاذ ورؤسائه. رغم ذلك كانت معارك أهل المنطقة مستمرة خاصة في منطقة (جبل الطاقية) وأوقعوا العديد من القتلى والجرحى الصهاينة.اقتنص اليهود فرصة انشغال أهل القرية بحضور وجبة غذاء احتفالية قدمها أحدهم لكل أهل البلد بمناسبة ولادة طفله بعد سنوات من الانتظار، ما أن بدأ الغداء حتى كانت الدبابات قد طوقت مزقة حطين ثم دخلوها واعتقلوا 36 شاباً كلهم دون 40 عاماً، اقتادوهم بالدبابات إلى قرية مغار حزور حيث بدأوا بفرزهم وتصنيفهم: هذا إعدام، هذا مؤبد وهذا كذا. تم انتقاء 17 شابًا منهم لحكم الاعدام، واختاروا 13 للسجن المؤبد، أما البقية فلم يُعرف مصيرهم. قام الصهاينة بإعدام الشباب، واخذوا المعتقلين إلى سجنين الأول في تلحوم والثاني في طبرية، لحسن الحظ نجح المعتقلون بعد فترة من الهروب بمساعدة الحراس اليهود اليمنيين الذين تعاطفوا معهم، وقد وصل هؤلاء إلى سورية بسلام لينضموا لأبناء عشيرتهم.

علم أبناء العشيرة بما حصل، وذلك من شاب حضر إعدام الشباب، فقام بعض الرجال بالبحث عن جثث الشهداء في المنطقة التى أشار اليها الشاهد تسمى (ميمليا) تبعد عن عيلبون مسافة كيلو ونصف لكنهم لم يعثروا على الجثث فهربوا الى سوريا ملتحقين بمن سبقهم من أهل العشيرة.

أخبرني أبي الفضل أن أهالي عيلبون عثروا على جثث الشهداء، دفنوهم جميعاً في مغارة قريبة من القرية وقاموا بإغلاقها بالحجارة والطين.

بعد هذه المجزرة المروعة؛ غادر أبناء عشيرة المواسي إلى الجولان السوري لمدة سنة كاملة، نقلتهم بعدها الحكومة السورية إلى مخيمات: (خان دنون) و(خان الشيح)، طبعاً اضافة للمهجرين لاجئي الداخل في عيلبون، دير حنا وكفر كنا.

تجدر الاشارة الى أن تعداد أفراد العشيرة عام 1945وصل الى 1870 نسمة، وتعتبر عرب المواسي من العشائر الفلسطينية المعروفة بين القبائل في فلسطين. سكنت هذه العشيرة في منطقة واسعة في الجليل الأسفل عند منطقة الوعرة السوداء إلى الغرب من وادي الحمام قرب مدينة طبرية، وكانت تمتد مضارب عرب المواسي حتى قرية ياقوق وأطراف الطبراني وباب النبعة وممليا والعزونية والشمالية وخربة سعد حتى بير مزقه حطين والطيارات والروس حتى قرية أم العمد وأراضي نحرين، وأما من الغرب فكانت تصل حتى حدود عرابة ودير حنا ووادي سلامة، وقد شارك عرب المواسي بفاعلية في الأحداث الفلسطينية المتعاقبة وخاصة الثورة الكبرى عام 1936، التي كان من قادة فصائلها المجاهدين شهاب الحمد وسلامة عبد القادر.

لا زالت عيلبون حتى اليوم قرية مميزة زادتها مآسي المجزرة والتهجير 30/10/1948 تميزاً، منحها القدر نعمة عودة أبنائها اليها مسلّحين بمحبة الوطن متوجين بالعز والكرم، كل ذلك لم يمنعها من فتح أبوابها ليس فقط للمهجرين جراء النكبة وانما لكل من يرغب بالعيش فيها بأجواء من الهدوء ، الرقي والجمال.
نأمل أن يعود كل الفلسطينيين المهجرين واللاجئين بالخارج والداخل كأهالي قريتي إقرث وبرعم الى قراهم وتراب وطنهم الأصلي الذي يرونه ولا يسمح لهم بزراعته وباتوا يزورون قريتهم زيارة شوق وحنين، زيارة وفاء وانتماء.

(هذين العملين لتجسيد حق العودة من تصميم الفنانة كميليا زريق/ عيلبون)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى