السبت ٢٣ أيار (مايو) ٢٠٠٩
بقلم رافي مصالحة

غزّه والبغايا الفاضلات

الآن بالذات في مطلع الربيع، عندما تختلط رائحة الموت بعبق زهر البرتقال وشذى الياسمين، تطلّ الحقيقة بوجهها الذميم لتفرض حتميّتها الجبّارة فاضحةً جيشاً جرّاراً من البغايا.

ما انفكّت حرب غزّة (أو بتسمية أصحّ، مأساة غزّة الإنسانيّه) تضع أوزارها حتى بدأت حقيقة المذبحة تتفتق، كما يتفتق ورد نيسان عن أكمامه قبل أن تغتسل في فيض النور بتلاته الوادعه. ترُى، أبهذا القبح وجه الحقيقة حتى يدأب الخلق على سترها وحجبها عن عيون البريه؟.

لكنها، برغم بشاعتها المفرطة، لا بد يوما أن تخرق الشرنقة وتتحرّر لتحلق على عيون الملأ فراشة تفرض على الكون وجودها. الحقيقة ايها الناس لا لون لها ولا شكل ولا جسد، وواهم كل من يعتقد انه يقدر حبسها في سراديبه المعتمه. الحقيقة لا عمر لها، ومخطئٌ من يظنُّ انه يستطيع وأدها في مدافن النسيان. الحقيقة ستلاحقكم كهاجسٍ لا يكلّ، في كل لحظة وفي كل مكان، في واقعكم وأحلامكم، وسوف تبرز لكم في المرآة وفي صفحات الجريدة وشاشة التلفاز وفي كوب الشاي الصّباحي وفي أنفاسكم وفي عيون أطفالكم، ستغمضون أجفانكم وترونها، وتعودون لتفتحوها لتبصروها شبحاً لا تطرده التعاويذ ولا ترهبه خيوط دخان البخورات الهنديه. بشراكم يا حكماء صهيون: لقد عاد شبح غزّة لينبعث كالمارد من خلال رصاصكم المصهور....!!!.

*****

لطالما تغنّت اسرائيل (كذبا!!) (بأخلاقيات) جندها. والمفارقة ان الجّند اللذين احتلوّا (بمنهجيتهم الاحتلالية المعهوده) في صفحات التاريخ المكرّسة لغزه فصلَ الإرهاب بمهنية منقطعة النظير بذبح العزل والشيوخ والنساء والاطفال دون تمييز او اكتراث، وتلذذوا بهدم البيوت والمستشفيات والمدارس وحرق الحقول واقتلاع الكروم وترحيل البؤساء وسلب ارضهم، يزكوّن انفسهم بنعت قطعانهم كأكرم الجيوش خلقاً في رحاب البسيطه!!!. إنّ شرّ المومسات من تدّعي العفة وتمتعض بضراوة عند وصفها بالساقطه، وتستغفر الله ثم تحمده قبل وبعد مواقعة كل شهوانيّ عارضٍ يسخى بماله لقاء لذةٍ عابرةٍ, مومس كهذه تفعل كل المنكرات إلاّ كشف جديلتها، فإنّه (دون غيره) جرمٌ لا تطيقه نفسها (العفيفه)!!!. هكذا هي حال اسرائيل، سيدة عروش البغي والرذيله دون منازع، تدوس كلّ القيم الإنسانيّة بوحشيةٍ ثم تذرُ الرَّمل في عيون البشرية لترفع علم الخلق والشّرف المزيّف على رؤوس الأشهاد.

*****

لقد رسم قلم الفيلسوف جان بول سارتر في مسرحيته (المومس الفاضلة) صورة ً لمومس شوارع وضيعةٍ اسمُها (ليزي) يضغط عليها سيناتور امريكيّ اسمه "كلارك" لتشهد زوراً ضد زنجيّ مظلوم اتُهم بجريمة قتل ٍ لم يقترفها الاّ أنها قاومت ولم تذعن لعضو مجلس الشيوخ لأنّ ضمير الإنسان الذي بداخلها أبى أن يُظلم شخصٌ بريءٌ لا ذنب له الاّ كونه زنجيٌّ اتى من هامش المجتمع الامريكيّ الذي لا يرحم. لكن إسرائيل الزّانيه، رمز الخطيئة ووكر الدّنس لم يصحُ يوماً لها ضمير، فكانت "ليزي" العاهره أمامها قديسة ً نقية ً طاهره، وبحقّ أسماها الكاتب بالمومس الفاضله. "ليزي" السّاقطة بمحض قدرها التعيس، التي لا قوة لها ولا عزوه، وعدت الزنجيّ الطّريد بعد ان استحثهّا على الشهادة لصالحه بأنها ستقول الحقيقة. ولكنّ الزّعامات العربيه المزعومه في عهد المذابح في غزّة اللاهثة بنداء الاستغاث، صمّت الآذان، وصمتت عن نهيقها المعتاد وكتمت الشهّاده، وتعامت عن الحقّ وأصرّت على محاباة المجرم وإدانة الضحيّة, فأصبحت زمرة الحكّام بذلك عصابةً من البغايا الذكريّه النتنه التي يتمرغ شرفها وعرضها في مياه الطّرقات الآسنه. يحتسون النبيذ الفرنسي بمراسيم همجيّه، ويتجشّأون، قبل إقامة الصّلاة خاشعين، على جَنابه، لإلهٍ هشٍّ اسمُهُ المومسُ إسرائيل.

*****

كلّ جنديّ سفك الدّم في غزّة هو سفّاحٌ قاتل، يبرز دم اطفال غزّه من بين أنيابه ليدينه بالجريمة عند كل ابتسامة مصطنعه، اذن فليحذر ويمسح آثار الدّم عن وجنة ابنه اذا ما قبّله قبل ان ينفض عن نفسه غبار المعركه الدّاميهْ. أيّ بطولة تلك التي تبرّر استقبالهم بالغارْ، والورد وهتافات الإنتصارْ؟ هل قنْصُ العاجزات والرضّع وقصف المدارس الآهلة بمن لجأوا اليها بعدما فقدوا سقوف بيوتهم قد اصبح من علامات البساله وسمات المحارب النبيل المغوارْ؟. ان أخلاقيات جيش اسرائيل لأضغاثُ احلام ٍ، كذبةٌ وقحةٌ لا تنطلي إلاّ على أنصار دولة الإفك من زعاماتنا الثمّلين الكفرة الفجّارْ. قوموا يا أشبال غزّة من تحت الحطام, وانتصبوا، فمن اجدر منكم أن يصب جمّ غضبه على الطغاة بالحديد وبالنارْ, كي يرحل المحتل ويلوذ أشباه الحكّام لمهابتكم بالفرارْ، وليسطع الحقّ ويمضي كلّ ظلم ٍ الى اندثارْ....

*****

جنود الخيبة منذ تمّوز المجيد أُحبطوا حتى الثماله. اصبحوا يبولون ليلا في ثيابهم, ويصحون صارخين في عمق العتمة لكوابيس لا تغادرُهم، أطفالُ لبنان تلوكُ أكبادهم وتبصقها في حاويات الزّباله. والحاكم المعتوه يبغي ان يعيد للجّيش العتيد ثقته وعزّة النفس، وعلى ذلك المنوال أمَرَ جنرالهْ: أدخلوا غزة آمنين وتفنّنوا في الذبّح، ولا تخشوا ملامة ً في مسعاكم، فلقد حُزنا بالأمس، شاكرين، على مباركة اصحاب الجّلاله. خليليّ أفتوني بسلطان ٍ خصيّ، عديم البركة التي أردفت (مجبرة ً) حُسنهُ الذمّيم، يذود عن جيوش القهر بكلّ بساله. واذا ما أقفل الباب على الضحيّة المستنجدة بعروبته، أنّبها موبّخا: إنّه ذنبك ِ, قد اخبرتك من البدايةِ أنّ السرّ لكي تعيشي, إرضي (مثلي) ان يزني بك ِ كلّ حُثاله. ومخنّث لم يرقَ رصيدُه الوطنيّ لأكثرَ من أبوّة بيض النمل (*) في فلسطين، يرتعد من مجرّد فكرة نُصرة شعبه خشية (ذبحه) ويبرع جدّا ً بأداء أدوار النذاله. سمع المخنّث ان العالم سيرصد لغزّة أموالهْ. نسي خيانته وخطابه الركيكَ بالأمس امام الهيئة العامّه الذي تسرّبت خلال حروفه أدنى ألوان الرّذاله، وأسرع يعوي من مهجعه ينادي شعبا ً نهض من زوبعة الطّمس، باسم ِ الأخوّة الوطنيّة، حتى يسطو على رغيف العاجز، غير آبهٍ ببرد غزّة الذي يغازل وَسن َ عينيه وجوعَهُ وسُعالهْ.

*****

طفلة ٌ في الشّجاعيّة ما زالت تبحث عن دميتها في الحطام.

ما أقصر ذاكرة الشعوب. خمدت الهتافات, وذاب عشق غزّة، فلم يعد هذا موسم غزّه. هل طرأ على حياة الناس طارئ في السنة الاولى لميلاد نكبة غزّه (وهو تقويم ٌ غيرُ ميلاديّ، فرضته حقيقة التّاريخ رغم أنفنا)؟. ماذا تُرانا نفعل؟ هل من معترض على ان تقليعات الموضة في هذا العصر المشؤوم تجيء وتمضي بسرعة البرق، وكذا بسرعة البرق رمينا الكوفيّة، ومسحنا العبَرات، وخرجت غزّة من حلقات الأضواء تماما كما يخرج أشخاص الستار اكاديمي كلّ فترة ليحلّ محلّهم آخرون نتسلى بهم، وفي هذه الأثناء نسجّل الإنتصار تلو الإنتصار على اسوأ عدو يتربّص بالأمّة العربيه، ممعنين فيه حرابنا ونبالنا الا وهو الزمن الذي يُسفكُ دمُهُ بوحشيّة ٍ على مذابح التلفزيونات، في سبيل "الرّسالات الانسانية" السّامية التي تحملها المسلسلات التركيّه!!.

وهناك طفل آخر يبحث في الرّكام ِ الذي يبثّ في الهواءِ ريح الموت، عن أشلاء درّاجته, في تلّ الهوى.

وحكماء صهيون البعيدين جدّاً عن الحكمة، في حَيص وبَيص: هل من داع ٍ للتّحقيق؟ هل أجرمنا؟ لا والله، بل أجرمت غزة!!، أو بالأحرى: انتحرت غزة على بنادقنا (ما أدهى الغزّاويين!!) ماتوا بقصد ٍ، هي خطّة ٌ دبّرت بليل ليسوء وجهنا الجميل في المحافل العالميّه. لكن هيهات، كيف نترك للمكيدة أن تتمّ، سيعرف العالم أنّ الأطفال توسّلوا لنطلق النار على صدورهم، وسنثبت للقاصي قبل الداني ان النّساء بقارورات الحليب والشيوخ بعكاكيزهم قد تصدّوا للدّبابة فما تركوا للجيش الخلوق الاّ أن يسحقهم وقلبه الذي ما كان ليخفقَ إلاّ لألحان تشايكوفسكي في بحيرة البجع، يكاد ينفطر حزنا ً وأسفا لمرآى بحيرة الدم التي أبدع صنعها على ألحان القنابل الفوسفوريّه. حتى المنازل والمدارس والمستشفيات انصاعت لواجب السّلاح ونزلت لأرض العراك وحاربت بشراسة، فاضطرّ الجيش الطينيّ أن يدكهّا دكا. جيش الحِملان الوادعة جاء لغزّة حاملاً لغصن الزيتون، فاستقبلهم أهل المكان ِ بالصّيام عن الطعام والشراب، طائعين غير مرغمين، والمصيبة ان الغزاويين (برغم طيب نوايا جيش الضّباب) أحرقوا بأيديهم مستودعات الغذاء، وهدموا المساجد، وأتلفوا المحاصيل. وبعد هذا كلّه، هل يجرؤ أحد على الحديث عن تحقيق في "مجازر"؟. سَلوا جلالته، فإنّه سيقسم لا محالة بشرفِ كلبه الذي حظي برعاية الملوك في مشافي تل أبيب أثناء حرق غزّه، أننّا متطرّفون في انسانيتنا التي تفيض عند كل واحدٍ منّا من انفه وأذنيه ومن قفاه. إذن, فلقد ثبتت الرّؤيا، وصارت صهيونُ برغم بغيها، مُغْتصََبه.

وفي حي الزيتون سيدة ٌ تطبخ الحجارة َ لأولادها الذين أنهكهم الجوع ُ وقد استلقوا تحت شبه سقف من الصّفيح الصدِئ والتحفوا قبّة السّماء، علّ أميرَ المؤمنين يقدِمُ من العدَم خِلسة ً ليترك على المدخل كيس طحين ٍ, ومسواك ٍ وحفنة حِنّاءٍٍ, وهويّه.....

(*) فائده لغويّه: بيض النمل لغة ً اسْمُهُ (المازن).


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى