الثلاثاء ٣ آب (أغسطس) ٢٠١٠
بقلم أمان أحمد السيد

فتــــات

مشتتـــًا كان،وهو يقترب مني يريد السلام،ومعانقتي..يحمل ثقل سنينه في شعره الأبيض،وأسنانه المتهالكة.. قليلون هم من يقرؤون عينيه.. صافحني بحنان،فتأكدت صدقه من حرارة كفه،ومن انسياب خديه على وجنتيّ..

لوأنه عرف أنني كنت معه عبر حروفه التي فيها استشففته مهزوما كما لم أعهده من قبل!.. كنت أظنه أسدًا،وإذ به الحمل الوديع يجري إلى نبع ماء يغمر فيه نفسه حتى الصميم ليخرج من ضياع عميق ..كيف يكون شيخ في السبعين من عمره عاشقا ضعيفا،وأبا متآكلا ؟! كيف يرمينا العمر خلفه ؟كيف يكون الدهر جارحا إلى هذا الحد؟.

منذ سويعات زرت زوجته التي ماتزال فتية في عقدها الأربعين.. في بيتهم المؤلف من طابقين حيث جلست معها،وبعض الأقارب على الشرفة البحرية في مزرعة فارهة بسورها الحجري المغدق في الحصانة،وممرها المستمر الذي يستظل أشجارا جانبية تقل الزائرين حتى المدخل..أصوات الضفادع هناك كانت تعلن نهيق الليل حيث الغموض يلف المكان..آثار أقدام كثيرة حفل بها الموقع،أقدامٌ لا محور لها إلاه ُ..

كانت تجيش أمامي كتلك الضفادع التي تنق تحت الشرفة،ورغم امتلائها،فقد كانت رشيقة الخطو تحمل في عينيها أحزانها،فجعلتني أتساءل كيف يلتقي في هذا المكان الجميل هذا الكم من الحزن ..تحادثني..فلا عيناها تواجهان عيني،ولا شفتاها تطلبان ردودا..

"إنه يقول دائما .. إنني المشفى.. مشفاه .."
رددتها أمامي وهي لا تستقر..كلام غريب لم أفهمه ،غير أنني لم أمنع نفسي أن تنغمر معها في الحزن ثم تطفو.. تلك الصبيةالشقية كما حدثتني عن نفسها كانت تهدّر المرح وتحلم.. يدها المطوقة بخاتم خطوبة غدت خالية حين استفاقت ذات صباح على شق عميق يقسم بطنها قارتين طوليتين تستحثانها كلما واجهته ألا تنسى مأساتها ،فتدرك أنها فقدت أعز مايؤهل الأنثى لتكون أمَا.. وما الذي سيكون بعدها لمثلها حيث يفلت الطوق من إصبعها وتنعى الأحلام ..

كيف اجتمعا؟شيخا وصبية؟ محطما ومنكسرة؟ كان عذبا بحديثه سحيقا بتأثيره في قلوب فئة خاصة من النساء!..أتراه كان الصيد أم الصياد ؟..تستطيع أن تقول إنه مزواج! وما في الحلال من العيب؟ كيف اجتمع بها؟ لكلّ ملتقيين

سبيل ..كان خالها بنّاءً اصطحبه لبناء السور الحصين لمزرعته،والمسبح الوارف فيها أغرى البناء باصطحاب زوجته،وابنة أخته في رغبة حثيثة لإخراجها من غصيصها..كان شعرها فوضويا كعريشة،وكان وجهها ينضح بالخمر،فكيف لرجل محطم بعد زواجين،وتنافر البنين،والبنات عنه في ديار الغربة ألا يتمسك بمثلها.. وكان ما كان .. زواج وعكازان لا غنى لأحدهما عن شقيقه..جسدان منهكان وروحان مخربتان تتناغمان على متكأ واحد ..

سنوات وهما ينطلقان غير عابئين بما حولهما ..إلى أن ترمي إليه زوجته الثانية بأولاده، فتكون لهم الأم التي تستعيض بهم أمومة منها حرمت قسرا وظلما ..

أنظر إلى البيت المبعثر كخفاء،وأستذكر كثرة الأقدام التي استوطأته زمنا،ثم رحلت ،ثم أعود أتأمل الزوجة،وأتساءل: كم ستدوم خطاها في هذا البيت بعد تضحياتها الجليلة فيه!..

أراها تتحرك أمامي جالبة وريقات ترميها أمامي،وهي تقول لي: إنه يبكي أمام ابنته .. يسرد تفاصيل يكررها يوميا عن خيانة أمها التي أحسن إليها،وعندما يشعر بضيقي يكرر العبارة ذاتها:

" إنك مشفاي !أنت لي المشفى".. ويقوم ليسكتني بقصيدة..انظري هذه بعضها!

تناولتها منها فرأيتني أطفو ،وأغرق ..ألهث ويتسارع لهاثي..

لماذا صدمني خطه أول ما رأيته قبل أن تقتحمني حروفه وتجرفني في انسكاب حزن جديد؟لم توقعت أن خطه أكثر قسوة؟ألم أعهده الأسد في مسيرة عمري،وكيف بالأسد إلا أن يفحل في الصفحات، قبل أن يغادر؟! كان ضعيفا عاشقا يدمى ..قصائد يكتبها يعلن فيها اعتذاره لهاعن ذكرياته مع زوجتيه وعن آلامه ودموعه التي تنهال مرارا.. قصائد تسرح فيها شيخوخته فتسبره راكعا يستجدي أمانه في حواف العمر بين راحتيها.. "لســــــت أدري" يكررها في قصيدة تحمل ضياعه وخوفه فيعلن احتياجه إلى شبابها حين يجن ليل يغدوفيه وحيدا ..

أشدد حول كتفيه عناقي،فأشعر أنه يريد أن يغمرني بما تبقى منه..لمَ أحس الآن أني أود احتواءه ؟لم أحس أنني بت أخشى عليه .. لم أستشعر أنه بي استعاد نثارا من القوة .. لست أدري!

اللاذقية‏الأحد‏، 01‏ آب‏، 2010


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى