الثلاثاء ٢٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٢
شعرية الصورة بين ثقافتين
بقلم حسني التهامي

فجر الهايكو يبزغ على الغرب

الملخص

تعتبر التصويرية حركة أدبية تأثّرت الإبيجراما والهايكو الياباني. تزعمها شعراء يمكن عدّهم من المجدّدين فقد اعتمدوا الصورة الشعرية في تشكيل مشهدهم الشعري. في أول نشأة الحركة اقتربت نصوصهم من الهايكو الياباني ثم تحرروا بعد ذلك من التزامات قصيدة الهايكو شكلا وموضوعا. على الرغم من قصر أمد الحركة التصويرية إلا أنها تركت أثرا بالغا على الشعر الأوربي في القرن العشرين.

مقدمة

تعتبرُ التصويرية أولَ حركةٍ أدبيةٍ مُنظَمةٍ في تاريخِ اللغةِ الإنجليزيةِ الحديث. مرت هذه الحركةُ بثلاثِ مراحلَ في عمليةِ التطورِ كتقليدٍ شعري. كانتِ المرحلةُ الأولى عام 1908وأسَّسَ لها الشاعرُ والفيلسوف تي إي. هولم. Hulme 1883 –1917) (T.E. حيث وضع الخطوطَ العريضةَ للشعرِ التصويري؛ ولعلّ قصيدتيه الموسومتين بـ”الخريف” و”غروب المدينة” اللّتين نُشرتا في يناير 1909 في نادي الشعراء الذي شارك في تأسيسه هولم 1908 بلندن، تعدّان مُرتكزا مُهماً لأصولِ الحركةِ التصويرية. اشتملت القصيدتان على برنامجِ التصويريين للعودةِ إلى ما اعتبروه إحياء للتراث الشعري. لقد نشأت صداقة وطيدة بين كلّ من الناقد الفرنسي ف.س فلنت (F.S. Flint 1885 – 1960) وهولم، أسّسا على إثرها مع مجموعةٍ من الشعراء ما يُسمى بـ”نادي الانفصال” الذي ناقشوا من خلاله خطة إصلاحية للشعر المعاصر مستفيدين من تجربة الشعر الحر والتانكا والهايكو،

وابتعدوا عن الأنماط الشعرية التقليدية التي لا تتسمُ بالجديةِ، والتي انتهجها كثيرٌ من شعراءِ العصرِ الإدواردي المشهورينَ في تسعينياتِ القرنِ التاسعِ عشر، مثل ألفريد أوستن ، وستيفن فيليبس، وويليام واتسون.

لقد وضع هولم أساساً للحركةِ التصويرية يرْتَكزُ على دقةِ التصويرِ وبساطةِ اللغة. كان يهدفُ إلى الانتقالِ من سذاجةِ الرؤيةِ والمفهومِ إلى الوعي في الكتابةِ الشعريةِ، والابتعادِ عن الغُموضِ التقليدي، وإفساحِ المجال إلى التجربةِ الحِسِّية وإضفاء نوعٍ من التماسكِ اللغوي في النص الشعريِ. كما بين أن الصورة أوضح تعبيراً من اللفظِ، لما تمتلكُه من دقةٍ ونقاءٍ في العرْض. فهي تمثل سبباً جوهرياً لوجودِ القصيدةِ، ولها يخضع كلُ شيءٍ آخر.

في المرحلةِ الثانيةِ اجتذب هولم الشاعر الأمريكي إزرا باوند (Ezra Pound 1885 – 1972) إلى الحركة ليُساهِمَ في تعضيدِ أركانها وقد أضفى عليها هذا الأخير طابعا رسميا عندما كتب “بياناً” حدد من خلاله التَصورَ الشعريَ، ووضَّح كيفية كتابة قصيدة تصويرية. تضمَّن هذا البيانُ أيضًا بعضَ الأخطاءِ العامةِ التي ارتكبها بعضُ الشعراءِ في نصوصهم، و قدَّم باوند من خلالهِ ثلاثَ نقاطٍ أساسيةٍ لا تُعتبر مذهباً بقدرِ ما اعتبرها”نتيجةً للتأمل الطويل.”:

1-“المعالجةُ المُباشرةُ لـلشيء سواء أكان ذاتيًا أو موضوعيًا، أي أن الشاعر يجبُ أن يتعاملَ مباشرةً مع الموضوع دون استخدام كلماتٍ وعباراتٍ مُنمقةٍ تحول دون بساطة الصورة ووضوح الفكرة العامة بالنص.

2-يجب اختزال النص إلى أقلِ عددٍ مُمكنٍ من الكلمات، وعدمُ استخدامِ أي كلمةٍ لا تُساهم في عرضِ الموضوع.

3-تأتي الموسيقى الشعرية من الإيقاع وليس النظم، وهذا يتيح المجال لخلقِ إيقاعاتٍ جديدةٍ بدلًا من الاعتمادِ على إيقاعاتِ قديمة تتسم بالرتابةِ والملل” (Gillies, Henri, & Modernism, 1969, p. 48)

في المَرْحلةِ الثالثةِ والأخيرةِ، غالبا ما تولتْ زمامَ الحركةِ الشاعرةُ آميلويلAmy Lowell 1874 –1925))، والتي قامت باختيارِ بعضِ القصائد ووضعتها في مختاراتِ شعرية، ففي هذه الفترة كان الشعراءُ يميلون

إلى التحررِ من القيودِ الشكليةِ، ويكتبون بطريقة أكثرَ حُريةً تُلبي رغباتِهم الإبداعية وتُعَبرُ عن تجاربِهم الخاصةِ ومشاعرِهم الذاتية.

ونتيجة للحرية التي تمتع بها الشعراء في هذه الفترة اتسم المنتج الشعري بالتنوع والغزارة، فنجد أشكالا شعرية مختلفة كالهايكو والشعر الحر وقصيدة النثر وحتى الأنماط الكلاسيكية، لذلك يَصْعُبُ على الباحثِ أن يُحددَ شكْلاً شِعرياً مُوحداً للحركة.

هكذا التزمَ شعراءُ الحركة في مراحلِها الأولى بالبيان الذي أصدره باوند، وانعكس هذا الالتزام على كتاباتِهم فبدت أكثرَ اقتراباً من روح الهايكو الياباني. تحرر باوند ولويل وغيرهما من شعراء الحركة تدريجيا وآثروا

الانطلاقَ بعيداً عن القيودِ الشكليةِ للكتابةِ معتمدين على قدراتِهم الإبداعيةِ وتجاربِهم الخاصة. وهذا التمردُ المُلح والجنوحُ إلى التعبيرِ عن المشاعرِ الذاتيةِ ورسمِ صورٍ شعريةٍ تميلُ، في أحيانٍ كثيرةٍ، إلى التجريدِ هو ما جعلَ لهم سمْتا مميزاً وجديداً اجتذبَ لهم جُمْهوراً كبيراً من القُراء.

1-مفهوم الصورة الشعرية وأهميتها في الشعر التصويري:

إنّ أهمّ ميْزةٍ للحركةِ التصويرية هي العكوفُ على عزلِ صورة واحدةٍ للكشفِ عن جوهرها؛ فهي تعكسُ التطوراتِ المعاصرة في الفن الطليعي وخاصةً التكعيبية، على الرغم من أنّها تعزلُ الأشياءَ عن محيطها الكوني من خلال استخدام ما أسماه إزرا باوند بـ”التفاصيل المُشِعة” (Engler, 1982, pp 90-105) فقد أكَّد من جهة أخرى أنّ الصورةَ هي “تلك التي تقدم عُقدة فِكْريةً وعاطفيةً في لحظةٍ من الزمن” (Tearle)، وأضاف أنَّ ” تقديمَ صورةٍ واحدةٍ يمتد أثرها أفضلُ من إنتاجِ أعمالٍ ضخمة” Rainey, 2005؛ وعليه فإنّ هذه الصورة التي تترك أصداء في نفس القارئ تقدم رؤية جديدة في لحظة من الزمن، وهذه اللحظة هي القيمة التي يكرس الشاعر نفسه لإدراكها لأنها الحقيقة التي يكمن فيها الصدق والجمال.

اهتم الشعراءُ بكيفيةِ بناءِ القصيدةِ وأثره على المعنى، وتجلو معالمُ المعاني من خلالِ الوضوحِ الناتجِ عن تركيبِ الصورة. يرى توماس هوبز (1588 -1679: Thomas Hobbes أن الصورةَ مهمةٌ في العمليةِ الإبداعيةِ، فهي بمثابةِ الجِسرِ الذي يربطُ بين الخبرةِ والمعرفة Frazer, 2002.

تقومُ الصورةُ باستدعاءِ حواس القارئ، لكنَّ استجابة تلكَ الحواسِ بالتأكيد ستكون مختلفة من قارئ لآخرَ تجاه الصورةِ المنعزلة كل على حسب خبرته المعرفية المتراكمة. فاللقطة الفريدة التي يُصورُها الشاعرُ في

لحظة من الزمن حتما ستتركُ انطباعاً وأثراً في ذهنيةِ القارئِ لفترةٍ أطول؛ واقعيا سوف ينتهي المشهدُ لكنهُ سيظلُ حياً في النصِ الشعري. في هذا المقترب نأخذ نص “حورية” الذي نشر عام 1915 للشاعرةِ هيلدا

دوليتل1886–1961). (Hilda Doolittle تلتقط الشاعرة مشهد دوامة البحر في لحظة ما وتنتهي هذه اللحظةُ واقعياً عند هدأةِ البحر أو عندَ انصرافِ الشاعرة عن رؤيةِ المشهد. لكنْ عند قراءةِ النصِ تتحركُ أمام القارئ

صورةُ البحرِ في هيَجانِه، وتظلُ عالقةً ومحفورةً في مخيلته لفترةٍ طويلةٍ من الزمن:

Whirl up, sea—
whirl your pointed pines,
splash your great pines
on our rocks,
hurl your green over us,
cover us with your pools of fir. (Hudspeth)

تدَافَعْ-أيُّهَا البَحر،
أَلْقِ صَنَوبَركَ المُدَبَّب الهائلَ،
رُشَّهُ فَوقَ صُخُورنا،
حَلِّقْ بِاخْضِرارِكَ فَوْقَنا
غَطِّنا بِأحْوَاضِ التنُوب (Hudspeth)

والمتعمقُ في هذا النص يلحظُ اقتصاداً لغويا لافتاً، أو بمعنىً آخرَ ليسَ ثمة كلماتٌ زائدةٌ غير معنيةٍ بتشكيلِ صُورةِ النص الممتدة والمتشعبة، وهذا يُدللُ على أن الشاعرةَ التزمتْ البَيانَ العامَ الذي صاغَه إزرا باوند؛ فقد ركزتِ الشاعرةُ على صُورةِ (ارتطام الأرض بالبحر)، ولم تعمد إلى صرِفِ القارئَ عن جماليةِ هذه الصورة. إنَّ وصْفَ هيوز لـلشاعرةِ باعتبارِها تجسيدًا مِثاليًا للحركةِ هو انعكاسٌ للوعي بما نادى بهِ باوند، حيث كان استخدامُها للصورِ دائمًاً مُوجزًا ودقيقاً.

إن عنوان القصيدة المأخوذ من الأسطورة الإغريقية والذي يعني “حورية الجبل” يُفسرُ الإشارةَ إلى شجرةِ “التنوب” في القصيدة وهي من فصيلة الصنوبريات. تُخاطبُ تلك الحوريةُ البحرَ وتتوسلُ إليه أن “يُحلِّق” فوق

الصخور ويُغطيها بأمواجهِ التي شبهتْها الشاعرةُ بـ “بأحواض التنوب”. تتماوج اللغة والإيقاع مثل موجات البحر اللطيفة، ولا نكادُ نَحسُ هذا الإيقاعَ المُوسيقي إلا في لغتِه الأصلية؛ فلنتأمل مثلا استخدامَ الشاعرةِ لما يُشبه الجِناسَ الناقصَ في لغتِنا العربية في الكلماتِ التالية: “whirl up” في السطر الأول و “whirl” في السطر الثاني و”hurl” في السطر الخامس. ولكي نستشعر تلك الدفقات الموسيقية أفضل لأن أعرض النصفي لغته الأصلية:

تلك الكلماتُ التي أشرنا إليها تُحدثُ نوعاً من الموسيقى الظاهرةِ إلى جانبِ المُوسيقى الخفيةِ في النص. تنسربُ الموسيقىُ الداخلية في الأساسِ من تصويرِ حالةِ الانصهارِ بين الصنوبرياتِ والبحر: تطلبُ الحوريةُ من الأمواجِ /”الصنوبر المُدبب” أن تدورَ فوقَ الصخورِ تمامًا مثلَ “أحواضِ التنوب، هناك أيضا تمازجٌ بين الماء والأرض.

في هذا النصِ المُختزلِ تُقدم الشاعرةُ صورةً عبارةً عن مزيجِ من الفِكر والعاطفةِ. واستخدامُ الشاعرةِ لكلمةِ الصُنوبر، وهو نباتٌ يوجد في التضاريس الجبلية، واستدعاءُ كلمةِ “حورية” أيضا هو استجلابٌ للمشهدِ الأسطوري. وباستخدام كلمة “الصنوبر” في النص لم تركز الشاعرة على المعني اللُغوي والحسيِ للكلمة، لكنها تُشيرُ إلى ” شِدةِ واستمرارِ التوْقِ، خاصةً لشيءٍ بعيدِ المنال”. في نهايةِ النص تلتقي الأمواجُ بصخورِ الساحلِ وهذا اللقاءُ مُتفجرٌ بالقوةِ والتآلفِ والسَكِينةِ.

تقولُ الناقدةُ “سُوزان فردمانSuzan Friedman: “إن تكثيفَ التِقنيةِ التصويرية يُحققُ فقط هذا الاندماجَ بينَ الأضدادِ في النص. جمعت الصورةُ التقاء الأرضِ بالبحر؛ فـ “حورية الجبل” ترمزُ للأرضِ، وبالتالي تتعرفُ على الشاطئِ وتُخاطبُ الأمواج (أشجار الصُنوبر) التي تدورُ وتتعطلُ وتصنعُ أحواضاً من التنوب. هذا النمطُ من الفِكرِ غيرِ العقلاني يُعطي الحركةَ والغضبَ والسكونَ المائِيَّ للأرضِ؛ على العكسِ من ذلك، فإنه يُعطي مكانةً واستقراراً للبحر. لكنَّ هذه الصِورَ تكثفُ الأضدادَ وتُؤكدُ وتنكرُ في آنٍ واحدٍ تقسيمَ الأرضِ والبحر”

(Friedman, p. 57) على الرغم من أن “حورية ” نصٌ قصيرٌ جِداً إلا أنَّه يَضعُ القارِئَ أمامَ تَجارِبَ إنْسانيةٍ مُتعددةٍ وتأويلاتٍ عِدَّةٍ:

تناقضُ الذاتِ مع “الآخر”، الرغبةُ والمثابرةُ في نيْلِ الأشياءِ البعيدةِ والحاجةُ المُلحة إلى التنفيسِ والملاذ؛ كل هذه المعاني العميقة تتولد من خلال الصور المتدافعة بالنص.

لعلّ النّص يخلو من الملامح الرومانسيةَ، مع ذلك استطاعت الصورةُ الشعريةَ أن تثير عاطفةَ القارئِ وتدعوه إلى التفكيرِ والبحثِ عن معنى خاصٍ به، فهي إلى جانب ذلك تعملُ كمُحفزٍ للرؤيةِ والسمعِ واللمسِ وغيرها

من الحواس عبر الكلمات التالية (تدافع / رش/ البحر / اخضرارك / أحواض التنوب). تنشأُ الصورةُ الكلية في النص في ذهن القارئِ، وفي أي وقتٍ يمكنُ له استدعاء هذه الصورةِ التذكاريةِ المُثيرة. استخدمت الشاعرةُ

اللغةَ الحِسيةَ لتشكيلِ الصُورةِ الشعرية؛ فكُلما كانت اللغةُ بسيطةً وساحرةً سَهُلَ على المتلقي التعمقُ في المعنى وتخيلُ الصورة واكتشافُ تفاصيلِها المُشعة.

عادةً ما تكونُ الصورُ الشعريةُ مُبتكرةً وغيرَ مألوفةٍ وهذا ما يَجْعلُها أكثرَ جاذبيةً للقارئ الذي يرى الأشياءَ ويتمعنُ فيها بطريقةٍ مُختلفة وعميقة. يقومُ الشاعرُ برسمِ الصُورةِ بنوعٍ من الغرابة، وهذه التقنيةُ تجعلُ القارئَ أكثرَ فُضولاً، وتعطيُ للموضوعِ ذاته أهمية إلى جانبِ الإحساسِ بنوع من الغموض الشفيف الذي يحفز مخيلة القارئ على التأويل، فالهدف من الصُورةِ هو خلقُ تصورٍ ورؤية حول الشيء، فالصورة إذن ليست مجرد نقل عادي للأشياء الحسية على صورتها الواقعية؛ فهي تعكس تجربة إنسانية عميقة وتصورها برؤية فنية وإبداعية مختلفة، وهذه الرؤية الإبداعية المغايرة التي يقدمها الشاعر من خلال الصورة هي أكثر ما يستدعى خيال القارئ ويثير دهشته.

تجعل الصورة الشعرية المفاهيمَ أو الظواهرَ أشياء حسية؛ إنها تجسيدٌ لفكرةٍ ما، فهي طريقةٌ غيرُ مُباشرةٍ للتعبيرِ عن الأشياءِ بطريقةٍ أكثر استثارة وعمقا، فعلى الشاعرِ أن يُقدم للقارئِ صورةً حسيةً وحَيَّةً بشكلٍ مُباشرٍ وبصورةٍ واضحةٍ بعيداً عن اللبس أو الإبهام. وعند تأمل الصورة الحسية يحدث ذلك الأثر العميق عند القارئ، فيمكنُه استكشافُ تفاصيلِ العوالمِ السِحريةِ الكائنة بالنص .

2-أوجه التمايز بين الحركة التصويرية والهايكو:

هناك تمايز بين ثقافتي الشرق والغرب، ويرجع هذا إلى أنّ تفكير الغربي يختلف تماما عن الطريقة التي ينظر بها الشرقي للأشياء. فالعقلية الغربية تعتمد على التحليل المنطقي للظواهر؛ لذا “يميل العقل الغربي أكثر إلى التفكير المنطقي والتحليلي. لم يستطع شعراء الحركة التصويرية القيام بـ”المعالجة المباشرة للشيء” ولم يتجنبوا التجريد واللغة الخيالية في أشعارهم، إضافة إلى ذلك اختلافهم عن بعضهم البعض في طريقة الكتابة وبالتالي فإن الشعر التصويري لم يكن شكلاً شعريًا متجانسًا كالهايكو. على الجانب الآخر يسعى العقل الشرقي إلى إيجاد الحقيقة بشكل حدسي” (M.Graber, Modernism Revisited: Transgressing Boundaries and Strategies of Renewal in …: Victoria Pâtea‏، Paul Scott Derrick, 2007, p. 141)

وهذا ما يؤكّد اعتماد الذهنية الشرقيّة على التوقعات والتنبؤات في رؤيتها للأشياء للوصول إلى احتمالات دون الاعتماد على التحليل المنطقي، وبالتالي تنعكس هذه الرؤية بشكل تلقائي على الأنماط الأدبية التي يسهمون في إنتاجها. ولعلّ هذا ما يفسر اعتناق اليابانيين لشكل الهايكو كنمط شعري منذ أن نشأ إلى وقتنا الحاضر، بيد أن شعر الهايكو ينماز بالتشابه في أسلوب الكتابة رغم اختلاف الرؤى بين شعرائه.

لذا كثيرا ما ينعكس هذا التباين والاختلاف بين الثقافتين على بعض قصائد الهايكو وشعر الحركة التصويرية، وساهم أيضا في اتساع فجوة هذا الاختلاف في المنتج الشعري خصوصية اللغة المستخدمة في الكتابة. ترى جوردن. م.جرابرGudrun M. Grabher أنّ صعوبة كتابة هايكو بالإنجليزية يرجع إلى أنّه: “بالنسبة لشاعر الهايكو، الضفدع هو الضفدع، والقمر هو القمر، والمطر مطر، والعصفور عصفور، الشيء يظل كما هو عليه” (M.Graber, Modernism Revisited: Transgressing Boundaries and Strategies of

Renewal in American Poetry, 2007, p. 138)؛ وبالتّالي فمهمّة شاعر الهايكو نقل الأشياء على صورتها الواقعيّة دون تدخّل منه.

على الرغم من ذلك التباعد والانفصال بين الثقافتين –الشرقية والغربية – كانت هناك محاولة من الطرفين لتحقيق نوع من التوافق. ولعلّ ذلك يتجلّى في ردَّ (باوند) على رسالة الرسام الأمريكي ذي الأصول اليابانية ايسامو نوغوتشي Isamu Noguchi تظهر بالفعل انفصال الثقافتين، ولكن كان هناك دائمًا أمل في التوفيق بينهما أو على الأقل محاولة تحقيق ذلك: “أنت تهبنا روح اليابان، أليس كذلك؟ …تقريبا لا أعرف شيئا عن بلدك – بالتأكيد إذا كان الشرق والغرب سيفهم بعضهما البعض، فلابد أن يأتي هذا الفهم تدريجيا من خلال الفنون” (Hakutani, 2001, p. 68)؛ فعلى الرغم من التباين بين البيئات والثقافات واختلاف ذهنية الشعراء من بلد لآخر فهناك رغبة حقيقية في التعاطي مع الفنون والآداب وتقاسم روح الجمال فيما بينهم. لقد حاول التصويريون الاقتراب في نصوصهم من روح الهايكو، وبدا ذلك جليا ليس فقط في الكتابات الأولى لشعراء الحركة لكن أيضا في أعمال شعراء أمريكيين لاحقين كجاك كيرواك Jack Kerouck وريتشارد رايتRichard Wright وغيرهم.

في حين ألقت الطليعة الأوروبية بظلالها على شعراء الهايكو اليابانيين في منتصف القرن العشرين، أشار إلى ذلك الشاعر والمترجم (إريك سيلاند EricSelland) المقيم في طوكيو وهو يتحدث عن تجربته الشعرية المتأثرة بالحداثة الأوروبية قائلاً إنّه “يكتب هايكو طليعيًا بشغف متأثرا بالدادية الأوروبية ” (Selland, 1993, pp. 196-202) ظهرت الحركة الدادية كرد فعل لما أحدثته الحرب العالمية الأولى من دمار مادي ومعنوي نتج عنه نوع من الفقد الجماعي للإحساس بالواقع. فيما بعد أنتج الشاعر الياباني (بانيا ناتسوشيBan’ya Natsuishi!)- متأثرا بالواقعية الأوربية – نوعا من الشعر أسماه ” الهايكو جنداي” أو الهايكو الحداثي وأسس لما يُعرف بـ “هايكو العالم” قدم من خلاله أسلوبا جديدا للكتابة في هذا المجال.

3-الطبيعة في الشعر التصويري والهايكو:

إن الأساسَ في الهايكو الكلاسيكي الناجح هو الإشارةُ المباشرةُ إلى الطبيعةِ أو إلى الكائناتِ المرتبطةِ ارتباطًا وثيقًا بها. أشارَ اليابانيون إلى الموسميةِ في نصوصِهم سواء أكانت مباشرةً أو ضمنية، لذلك لا يُمكنُ تصورُ الهايكو التقليدي دون تلك الإشارة. ينشأ ارتباط وثيق بين الشاعر والطبيعة، ويمكن من خلال ذلك تعريف الهايكو بأنّه “شعورٌ إنسانيٌ مرتبطٌ بالطبيعة” (التهامي، 2020، الصفحات 149-150). يتعلق ارتباط اليابانيين بالطبيعة بنزعة دينية، حيث يقدسها دينهم الأصلي ” الشنتو” ويضعها في منزلةِ الآلهة. يرتكز الشاعر في أعماله على الطبيعة وجمالها بشكل مباشر، فالزهرة مثلا عند شعراء الهايكو لا تصور جمال الطبيعة فحسب، بليكون لها كيانٌ وجودي أيضاً، إنها تمثل العلاقة الوجودية بين الشاعر والكون الذي يعيش فيه ويتجاوب معه بمشاعره وأحاسيسه.

يستشهد (جرابر Grabherبرأي الكاتب والفيلسوف دي. سوزوكي (. 1870 – 1966Daisetsu Teitaro Suzuki ) حينَ يعقدَ المقارنةَ بين موقفي الشاعرِ الغربي والشرقي من الطبيعة قائلا: “ما يمكن قوله بشكل عام عن الشعر الغربي وعلاقته بالطبيعة هو ازدواجيٌ وذاتي، فضوليٌ وتحليلي” (M.Graber, Modernism Revisited: Transgressing Boundaries and Strategies of Renewal in …: Victoria Pâtea‏، Paul Scott Derrick, 2007, p. 139)؛ وهذا يعني أن السببَ الرئيس لهذا الاختلافِ بين الفريقينِ هو أن شعراءَ الحركةِ التصويرية لم يستطيعوا النفاذ إلى روح الهايكو من خلال البساطَةِ التي اتسمتْ بها أشعارُ اليابانيين، وأنَّ إعمالَ العقلِ بدلاً من الحدس والحواسِ عند ملامسةِ الطبيعة والكائناتِ المرتبطةِ بها قد مثَّلَ عائقاً للوصولِ إلى تلك البساطةِ التي هي منبعُ الجمالِ الحقيقي في الهايكو.

يكمنُ سر براعة وإتقان قصيدة الهايكو في القدرة على فهم جوهر الأشياء؛ لذلك فإن كتابة الهايكو الإبداعي تتطلب التزاما صارما بقواعد واشتراطات الهايكو، وهذا أمر يصعب على العقل الغربي تحقيقه. يلخص جرابر Grabher ما يتطلبه الهايكو بشكل عام في هذه الكلمات المهمة:”لكي يأتي الهايكو إلى الوجود، يجب أن يكون الشاعر على اتصال بالعالم، من خلال أشياء وأحداث مشتركة، بسيطة وصغيرة، يجب أن يكون قادرًا على رؤيتها وفهمها في سياق عام، وأن يكون قادرًا على التقاطها بكلمات بسيطة ودقيقة وموجزة، من أجل مشاركة الآخرين الشعور الذي أثارته هذه اللحظة” (M.Graber, Modernism Revisited: Transgressing Boundaries and Strategies of Renewal in …: Victoria Pâtea‏، Paul Scott Derrick, 2007, p. 140). لتساعد البساطة المطلقة الشاعر على النفاذ إلى روح الهايكو من خلال تصوير الجمال الطبيعي والاحتفاء بكل ما هو روحاني. يمكن للشاعر التعبير عن قضايا كونية من خلال الطبيعة البسيطة كما فعل باشو في قصيدتي “الضفدعة” و”قمر الحصاد”.

لقد ارتبط شعرُ الحركة التصويرية ارتباطًا جوهريًا بحياة المدينة وتفاصيلِها المادية المتشابكة. فبدلاً من النزوحِ الوجدانيِ صوبَ الطبيعةِ انخرط شعراء الحركة في الأحداثِ العصرية التي تتشكلُ بها حياةُ المدينة. حتى في بعضِ نصوصِهم التي تناولت الطبيعة َ نجدُ هذا التناولَ مختلفًا تمامًا عن النمط الياباني. لم يستطع شعراء الحركة القيام بعملية اتصال حقيقي بالعالم والوصول إلى جوهر الأشياء وآثروا الانخراط في التجارب الذاتية؛ ولم يعظموا قدر الطبيعة رغم أنهم تناولوا جزئياتها في بعض أعمالهم. انصرف هؤلاء الشعراء إلى تصوير حياة المدينة، وتأثير فوضى الحقبة التي عاشوا فيها تحت وطأة الحرب والظروف الاجتماعية الناتجة عن النظام الرأسمالي، لذا فإنهم وجدوا صعوبة في استيعاب هذا الوافد الياباني المتمثل في شعر الهايكو الذي يتعامل مع الطبيعة بشكل مباشر .

تُعدُ قصيدةُ الهايكو اليابانية بمثابة الضوء الذي أنار للتصويرين طريقهم نحو التجديد والابتعاد عن التقليد الشعري، لكن تجربتهم لم تكن بنفس العمق الذي تتسم به قصيدة الهايكو. يرى (كوجي كوماتوKoji Kawamoto أنّ”هناك الكثير من القواسم المشتركة بين الهايكو والشعر التصويري، وهو أمر لا يكاد يكون مفاجئًا، فكما هو معروف جيدًا، فقد لعب الأول دورًا حيويًا في تكوين الأخير. يمكن تلخيص النقاط المشتركة على النحو التالي:

كلاهما يتسم بالقصر الشديد؛ كما يستفيد كل منهما مما يسميه إزرا باوند تقنية “التراكبSuper-position”، بوضع فكرة (أو صورة ) فوق أخرى؛ وأخيرًا، مثل معظم الأعمال الفنية الطليعية، كلاهما “منفتح” بالمنظور الذي يطرحه أمبرتو أيكوUmberto Eco 1981) – أي أنهما يتمتعان بالمرونة” (Kawamoto, 1999, pp. 709-721) .والمتمعن في نصوص شعراء الحركة يلحظُ اقتراب نصوصهم من المشهديات الموضوعية المحضة كالتي نجدها في الهايكو الياباني أول عهدهم بالحركة ثم انصرفوا عن الطبيعة فيما بعد ليصبح للحركة شكل مغاير عن الهايكو. لم يلتزم الشعراء التصويريون بقواعد الهايكو الثابتة والمتعارف عليها و تركوا العنانَ للحواسِ الفردية والعواطف، ولا يعني اهتمامُهم بالمشاعرِ ذلك المعنى الرومانسي، إنما قصدوا بها رؤية الشاعر الفردية للأشياء. من ناحية أخرى فإن غاية الهايكو أن يكون الشاعر مُمتزجا بالطبيعة لأنها ستهبُه الإحساسَ بالأبدية. فبالرغم من أن لكل شاعرٍ من شعراء الهايكو صوتَه الخاصَ، إلا أن صوتَ الذاتِ تكادُ تختفي كُليةً في معظمِ النُصوص.

في قصيدة “المترو” الشهيرة لـ(إزرا باوند) لم يكن صوت الطبيعة مباشرا وصريحا:

أطيافُ هذه الوجوهِ في الزِحام

بَتَلاتُ زهرٍ على غُصنٍ مبتلٍ أسود (Pound, In a Station of the Metro)

يُحيلُنا عنوانُ هذا النصِ تِلقائياً إلى المدينةِ من خلال ذِكر كلمةِ “المترو”، حيثُ يُصورُ الشاعر حشْداً من الناسِ هُم مُجردُ جُزْءٍ صغيرٍ من أنماطِ الحياةِ الحديثةِ المُتسارعة. بينما يَصِفُ اللمعان اللحظي للوجوه تلك الحركةَ الخاطفةَ للوجوه كما لو تم تصويرُها بكاميرا ثابتةٍ من زاويةٍ معينةٍ. لكلمة ِ”أطياف” أهميةٌ كبيرة في النص حيث تعكسُ مدى تزاحمِ الناسِ بصورةٍ مُخيفةٍ، فهي تصورُ قساوةَ الحياة المتلاحقةِ في المدينة. يذكرنا تشبيه باوند للوجوه العابرة بـ “بتلات على غصن أسود مبتل” بإزهار أشجار الكرز التي يكون ظهورُها أيضًا مفاجئًا وأمدُ بقائها قصيراً. يتمّ استخدام ظاهرةٌ طبيعيةٌ لافتةٌ للنظرِ يطلق عليها اسم (الساكورا) لتصويرِ (المظهر) الوهمي لوجوهِ سكان المدينة. ينتهجُ النصُ مسارَ الهايكو في طريقةِ معالجتِه للطبيعةِ، على الرغم من وجودِ ملمح أساسي لها في النّصِ؛ فمعالجة (باوند) للطبيعة لم تكن في بؤرة الضوء، حيث ركّز على وصف الوجوه العابرة بالبتلات التي لا تدوم طويلا .

على النقيض من ذلك تمثلُ الطبيعةَ بالنسبةِ لليابانيينَ معنىً روحياً ومصدراً مُهماً للإلهامِ، ويصلُ مدى ارتباطِهم بالطبيعةِ حدَ التقديسِ والعبادة. حيث أن “هاكوتاني” شرحَ أهميةِ الطبيعةِ لشاعرِ الهايكو الياباني قائلاً: “علمتهمُ البوذيةُ والشنتويةُ أنَّ الروحَ دائما موجودةٌ داخلِهم، وكذلك في الطبيعة” (Y.Hakutani, 2009, p. 7)، ولكي نستكشفَ هذه الروح لابُد من التأملِ بموضوعيةٍ في الطبيعةِ وجمالِها.لذا فلا يكادُ يخلو نصُ الهايكو الكلاسيكي من الموسميةِ المرتبطةِ بالطبيعة.

على هذا الأساسِ اُعتبر الهايكو شعرَ الطبيعة بالدرجةِ الأولى ولا علاقةَ له بالعنصر البشري، حتى في حالِ تناول المشاعر الإنسانية في النص فالمشهد يتمحور في الأساس حول الطبيعة.

كثيرا ما يركزُ شاعرُ الهايكو الياباني على التفاصيلِ الدقيقةِ في الطبيعةِ، فهذهِ الأشياءُ الصغيرةُ ترمزُ لأعمالٍ عظيمةٍ في حركةِ الكونِ والحياة. وليس أدلَّ على ذلك من نصِ الضفدعةِ لـ”ماتسو باشو”(1644–1694/Matso Basho)

بركةٌ قديمةٌ ساكنةٌ
ضفدعٌ يَقْفزُ إلى..
صوت الماء! (Y.Hakutani, 2009, p. 7)

ربما لا ينتبهُ الإنسانُ العاديُ للكائناتِ الصغيرةِ بالكون، بينما يتسم شاعرَ الهايكو بالملاحظةِ الدقيقة والثاقبةِ للأشياء. يعتمد نَصُ الهايكو في واقعِ الأمرِ على الحسِ والحدَس، يقومُ شاعرُ الهايكو في هذه الحالةِ بدورِ الوسيطِ الذي يستخدمُ حواسَّه لنقلِ لحظةٍ معينةٍ في الطبيعة، ومع ذلك يلعبُ دوراً في إظهارِ الجمالِ غيرِ المرئيِ، أو غير المعروفِ لهذا المشهد الطبيعي دونَ تدخلٍ منه في مجرياتِ الحدثِ مُطلقاً.

يعبّر (هاكوتاني Hakutani)عن هذا الأمر بقوله: “بينما يصفُ شاعرٌ مثل باشو ظاهرةً طبيعيةً بشكلٍ واقعي،فإنه ينقلُ تصورَه الفوري بأنَّ الطبيعةَ عميقةٌ للغايةِ وصامتةٌ تمامًا” (Y.Hakutani, 2009, p. 21).تمثل الضفدعةُ في النص أعلاه الإنسانَ كمحور أساسي لهذا الوجود، وطرطشُتها للماءِ ما هي إلا تلكَ الأعمالَ البسيطةَ للإنسانِ في الكونِ الهائلِ الذي تُمثله البركة. لكنَّ هذه الأعمالَ البسيطةَ التي تقوم به هذه الكائنات الصغيرة مهمةٌ ومركزيةٌ، إذ تستمرُ بتأثيرِها حركةُ الكون والحياة.

لننظرْ إلى نص آخر لباشو:

أيُّ هُدُوءٍ!
إلَى جَوفِ الصَّخْر،
يَتَسَلَّلُ صَوتُ الزيزَان (Basho)

استخدم الهايكست حاسةَ السمعِ لنقلِ صورةِ الطبيعية الحسية عبرَ الكلماتِ التالية: “هدوء” “يتسلل” و”صوت”. توحي كلمة”هدوء” في السطر الأول بالعزلةِ، بينما يكسرُ حدةَ الهدوءِ تسربِ صوتِ الزيزِان إلى الصخور. عمد باشو بلغة بسيطة إلى إظهار دور الكائنات الصغيرة كالزيزان التي يتسرب صوته بين الصخور الضخمة فيحدث تغييراً، وهذه تقنية عادة ما كان يستخدمها باشو لإحداث نوع من المفارقة. تقتربُ بعضَ قصائدِ التصويريين من نَهجِ شُعراءِ الهايكو تجاهَ الطبيعة، مثال ذلك قصيدة “ضباب الخريف” لـآمي لويل (Amy Lowell)،وهي من الأعمالِ المبكرة التي كُتبت بذهنيةِ الشاعرِ التصويري:

أيعسوبُ أم ورقةُ قيْقب

ذلك الذي يستقرُ بهدوءٍ على الماء؟ (Jones, 2001, p. 89)

يمثلُ هذا النصُ مرحلةً شعريةً تقتربُ من وعيِ الشاعرةِ بفكرة الهايكو؛ فلا نكادُ نلمحُ ذاتَ الشاعرةِ في النص حيث تتركُنا مع الطبيعةِ

بموضوعيةٍ تامة. تتسمُ القصيدة أيضا بالإيجازِ والتكثيف، تصورُ الشاعرةُ حركةَ الطبيعةِ الصغيرةَ بالكلماتِ وتتركُ الأشياءَ تتصدر المشهد دونَ إقحام الذات. لم تستطع الشاعرةُ رؤيةَ الأشياءِ التي ترسو على وجهِ الماءِ نتيجةَ الضبابِ الذي يحدُ من قدرتِها على الرؤيةِ بوضوح، انعكست هذه الضبابيةُ والحيرةُ أكثرَ في السطرِ الأخيرِ من خلالِ سؤالٍ لم تضع الشاعرةُ له جوابا! لا يخلو الهايكو في الواقع من العنصرِ البشري على الرغمِ من علاقته المباشرة بالطبيعة واتخاذه عناصرَها مادةً أولية للتأمل، وفي هذه الحالةِ تكونَ الطبيعةُ هي المجال الساحر والباعث الأول على التأمل وهي الركيزة الأساسية في بناء معمارية نص الهايكو وإخصابه دلاليا. يؤكد (هاكوتاني) على أنه “إذا تعامل الهايكو مع الحياة البشريةِ، يجبُ النظرُ إلى هذه الحياةِ في سياقِ الطبيعةِ بدلاً من المجتمع” (Morgan, 2011, p. 92)، فكثير من نصوصِ باشو جسدتِ العلاقةَ بين الفردِ والطبيعة كما في هذا النص:

بَيْنَ الحِينِ والآخرِ، الغيومُ
تُريحُ الروحَ مِنَ
التَّحديقِ فِي القمرْ (Bowers, 2012, p. 19)

في هذا النص لا ينفصلُ العنصرُ البشريُ عن الطبيعي حيث يصورُ الشاعر ُ حركةَ الغُيومِ في السماءِ وهي تحجبُ القمرَ وفي الآن ذاته نلْمحُ ذات الشاعرِ بوضوحٍ في كلمةِ “الروحِ” التي تَعْني أن الشاعرَ كان على مسرح الحدث. يروحُ المشهدٌ الطبيعيُ عن النفسِ ويتيحُ لها المجالَ للتأملِ في بهاءِ القمر. مع ذلك لا تمثلُ الذاتيةُ عائِقاً يَحولُ دونَ المشهديةِ وتناغمِ جزئياتِها الحركيةِ، إنها تنسجمُ مع روحِ الهايكو لأن المشاعر تنبثق من الطبيعة وليست من ذات الشاعر. فعلى شاعر الهايكو أن يتحد مع الطبيعة ويتحدث عنها بطريقة خاصةٍ، لأنه الأجدرُ بمعرفةِ جوهرِ الأشياءِ، والجوهرُ هُنا هو الشيءُ ذاته، ولكي تفهمَ جوهرَ الشيءِ فلابدَّ من العودةِ إلى الطبيعة والتماهي معها. على الجانبِ الآخرِ دأبت طبيعةَ الشاعرِ الغربيِ ونمطَ عقلهِ التحليليِ على ألاَّ يقبلَ الأشياءَ بمُسلماتِها، ولا ينظرَ إليها كما هي حتى عندَ تعاملِه مع الطبيعة. ولننظرْ إلى قصيدةِ ” الشوارع” لـآمي لويل:

أثْنَاءَ تجْوَالي فِي شَوَارِعِ المَدينة الثَّمَانُمائة،
لمْ أرَ أجملَ
مِنْ نِسَاءِ البيوت الخضراء،
بأحزمةٍ مجدولةٍ مُذَّهبة،
بفساتينَ ذاتِ أكمامٍ طويلةٍ،
مُلَّونةٍ مثل حبيباتِ الخشب
أثناءَ سيرِهِّن،
ترفرف فتحاتُ ثيابهنِّ،

وتتوهجُ البطاناتُ الحمراءِ القانيةِ مثل أوراقِ القيِقبِ ذاتِ الأسنانِ الحادة

في الخريف (Jones, 2001, p. 120)

إنَّ ذاتَ الشاعرةِ حاضرةٌ بشكلٍ مُباشرٍ، في التقاطِ تفاصيلِ الأشياءِ الدقيقةَ بجمالياتِها أثناء تنزهِها في الشوارع. فالجمالُ ليس جمالاً طبيعياً، لكنه ذلك الجمالُ النابعُ من فوضى المدينة. لفت انتباهَ الشاعرةِ جمالُ النساءِ اللائي يتمايلن، وأُعجبت بحركتِهن أثناءَ سيْرِهنَّ. تتكشفُ الذاتيةُ المُباشرةُ في السطر الثاني، حيثُ تقرُ الشاعرةُ أن النساءَ اللائي وقعتْ عيناها عليهنَّ هُنَّ أجملُ النساءِ على الإطلاق.

تنتقل الشاعرة من الوصف الذاتي إلى الموضوعي، حيث تُدرج الأسطر الأخيرة من القصيدة صورَ الطبيعةِ. تعجب الشاعرةُ بـالثوب الاصطناعي وتشبهه بـ “أوراق القيقب ذات الأسنان الحادة”، وهذا التطفل على الطبيعة الذي يأتي في اللحظةِ الأخيرةِ مثير للاهتمام وجدير بالملاحظة. بعد الوصف الطويل وتصوير الإعجاب بالنساء، تختتم لويل نصها – بعد وصف النساء الطويل والتعبير عن الإعجاب بهن – بجملة ” أوراقِ القيِقبِ ذاتِ الأسنانِ الحادة في الخريف ” التي تزخر بكثير من المراسلات الطبيعية لما تعتبره الشاعرة / المراقبة النشطة للمدينة. جعلت تلك الجملة النص مزيجا مركباً من تفاصيل ذاتية وموضوعية.

في “قصيدة لقاء” للشاعر الأمريكي إزرا باوند نلحظُ تغلبَ العنصرِ البشري واختفاءَ ملامحِ الطبيعةِ بعناصرها وتفاصيلها:

بينما كانوا يتحدثون عن الأخلاق الجديدة
تفحصتني عيناها.
وعندما هممتُ بالرحيل
كانت أناملُها كنسيج
منديلِ ورقٍ ياباني (Jones, 2001, p. 97)

هُنا يُصورُ الشاعرُ مشهدا مليئا بالحركة في غرفةٍ مليئةٍ بالأشخاصِ وهم يتحدثون عن قضيةٍ مُهمة، بينما ينشغلُ الشاعر والمرأةُ في التواصلِ البصري، وتتحركُ المشاعرُ المُشتركة بينهما وسطَ جوٍ من الفوضى. تتأججُ المشاعرُ عندَ لمسِ الشاعرِ لأناملِ المرأةِ التي نما تجاهَها شعورٌ بالحب أو الإعجاب.

نجحَ الشاعر في تصوير أناملِ المرأة بـ “أنسجة المناديل الورقية اليابانية”، وهذه المناديلُ الورقية ُشيءٌ اصطناعيٌ يتوافقُ مع جو المدينةِ، ولا يتنافى مع الجوِ العام للنص. وتشبيه أنامل المرأة بأنسجة المناديل الورقية كنايةٌ عن النعومةِ والملاسة. وقد يرى البعضُ أفضليةَ تشبيه هذه الأنامل بشيءٍ أكثر َنعومةً كبتلاتِ الورد مثلا أو كقطعةِ قُماش حريرية، لكن الشاعرَ آثرَ أن يأتي بشيءٍ حِسيٍ ربما كان موجوداً داخلَ محيطِ الغرفة بعيداً عن عناصر الطبيعة. نلحظُ أيضا استخدام أداة التشبيه التي تفتحُ بابَ الخيالِ الشعري الذي لا يرغبُ الهايكو في

استخدامِه. وهذا يُوضح المنحى التّصويري، الذى امتثلَ له شعراءُ الحركة في الغرب، حيث إنهم لم يلتزموا خصائصَ الهايكو الياباني بشكلٍ تام. يمكن تصنيف القصيدة على أنها ذاتيةٌ مكتوبةٌ في لحظةٍ من الزمنِ للتعبيرِ عن حالة الحب أو التواصلِ العاطفي بين شخصينِ في فوضى العالم الحديث. على الرغم من أنّ شعراء الحركة اتخذوا قصيدة الهايكو النموذج المثالي الذي يعيد إحياء الشعر نجدهم كثيرا ما يخفقون في القبض على لحظة الهايكو؛ لحظة التقاط الأشياء كما هي،و”لحظة استماع الشاعر للأشياء وهي تتحدث لذاتها”. والهايكو ليسَ فنَ تركيبِ صورٍ خياليةٍ، ولا يَعْكفُ الشاعرُ فيه على التجريد والمجازِ المطلق، لكنه يرْتكزُ على رؤيةِ الشاعر العميقةِ للعالم. وبذلك يُخالفُ توجهَ رامبو والسورياليين الذين ينادون بتعطيلِ الحواسِ للوصولِ إلى الحقيقة. فالهايكست لا يستغني عن حواسهِ، فهي أدواتُه التي يستعينُ بها في تصويرِ مشاهدِ الطبيعةِ من حولهِ وتفاصيلِ حياته اليومية وهذهِ الحواسُ هي فرشاتُه التي يشكلُ بها عالمَه المدهشَ الفريد.

ومن النصوص التي لم تنجح في أسر اللحظة الجمالية لابتعادها عن تصوير المشاهد الحسية واعتمادها بشكل كبيرٍ على البلاغة والمجاز الصريح قصيدة ” منتصف العمر””لآمي لويل:

كثلجٍ أسود
بطريقة مبهمة يتدافعُ
متزلجٌ أخرقُ
عضلةُ قلبي المتبلدة (Jones, 2001, p. 90)

لقد بدّد الإفراطُ في الخيالِ والمجازِ الصريحِ وسيطرةَ الملمح السوريالي الواضحِ كثيرا من البهاء الشعري بالنص. في السطرِ الأول عبارةُ ” ثلج أسود”غير معتادة وغريبةٌ، بل وتذهبُ بالبساطةِ التي تُعتبر جماليةً مُهمةً، أيضا يتنافى هذا التعبيرُ مع الواقعِ ويسببُ إرباكاً للمعنى لما يحتويه من تجريدٍ ومجازٍ صريح. وهذا ما يفسر مقولةَ الناقد الياباني الأمريكي كينيث ياسودا إن شعرَ الحركة التصويرية يُحاكي الهايكو، لكنه لا يقترب من روحه. شيءٌ آخر يُفقد النص كثيرا من خصائص الهايكو وهو إقحامُ الذات التي لم تقمْ بدور المراقبِ لنقل لحظةٍ معينةٍ من الزمن. فـ”الأنا” حاضرةٌ ومحورية،على عكس الهايكو الذي يرى أن الذات تمثل عائقا يفسدُ البساطةَ في النص الشعري. يتجلى هذا الحضورُ للذاتِ في السطر الأخيرِ عند الإشارة إلى عضوٍ حيويٍ من جسدِ الشاعرة وهو القلبُ الذي يُشبه الجليدَ الأسود. فتشبيهُ عضلة القلب بشيءٍ باهتٍ متبلد أمرٌ منافٍ للطبيعة والواقع،لأنّهاَ مكانُ لضخِ الدمِمما يجعلُها نشطًة وليست باهتًة. وربما لجأت الشاعرةُ للاستعارةِ لتصويرِ حالةٍ من الألم أو الخدر أو ربما الكآبةِ، وكلها طرقٌ للتعبير عن العواطفِ الفردية.ولابد لنا أن نُقرَّ أن التعبيرَ عن العواطفِ والأحاسيسِ لا يجب أن يكونَ بعباراتٍ مُباشرة لأن الهايكو ببساطةٍ هو عبورُ تجربةٍ ذاتيةٍ عبر عناصرَ كونيةٍ حسيةٍ.

وإذا ما انتقلنا لنص آخر لـيوسا بوسن 1716)- 1784(Yosa Busonسنجد اختلافا

في نظرة الشاعر للطبيعة :

زهرة فاوانيا مبعثرة
بتلتانِ أو ثلاث
تستلقي إحداها على الأخرى (الصلهبي، صفحة 71)

لقد ترك الشاعرُ عناصرَ الطبيعة تتحدثُ عن ذاتها، وقام هو بدور المتأملِ لها. كان شعراء الهايكو الأوائلُ ينظرون إلى الطبيعةِ على أنها ليس فقط مصدرَ الجمال الكوني والإلهام، بل قيمةً روحيةً ورمزاً للقداسة.يظهر الناقد ” نوغوتشي” البعد الذي تمثله الطبيعة لشاعر الهايكو بقوله:”إن بنفسجة ترفع رأسها بين أعشاب الغابة لا تعدو كونها ذرة ضئيلة في مجموع الوجود، ومع ذلك فإن الشمس، مركز كوننا، تدور حولها. لقد منح باشو هذا الاحترام ذاته لكل الظواهر الطبيعية بغض النظر عن حجمها، صغيرة كانت أو كبيرة” (الأسعد، صفحة 46). يمتلكُ نص (يوسا بوسن) سياقاً يُشعُ بالعاطفةِ من خلالِ العلاقةِ الوجوديةِ لشاعرِ الهايكو بالكونِ والطبيعة، فزهرةُ الفاوانيا لها معنىً وحضورٌ وجوديٌ، وليست مجردَ رمزٍ للجمالِ اللحظيِ العابر.

تُقدم القصيدةُ مشهداً جمالياً من الطبيعةِ دون إقحام ذات الشاعر، وليس ثمة محسناتٌ لفظيةٌ أو تراكيب بلاغيةٌ كالاستعارة ِوالتشبيه، لذا فالنصُ يحمل في طياتِه خصائص الهايكو ويعبقُ بجمالياتِه وبساطته، إنه نموجٌ مثاليٌ وفريدٌ، فزهرة الفاوانيا تمثلُ كيغو ضمنيا لفصل الربيع.استطاع الشاعر أن يعرضُ لحظة خاصةً بأكبرِ قدرٍ ممكنٍ من الدقة، كما اقتصر دوره على المراقبة الموضوعية التي ركَّز خلالها من زاويةٍ خاصةٍ على تصويرِ لحظةٍ جمالية ٍمعينة بلغةٍ محسوسةٍ بعيدة عن التجريد الصريح القائم على الخيال والمشاعر المباشرة.

في المرحلة الثانية والثالثة للحركة يمكننا أن ندرك تغيرًا واضحا في النمط الشعري من حيث طول وصياغة القصائد، مع ذلك ظل الشعراء يركزون على تشكيل الصورة وجعلها الأساس في النص، لكن كان يصحب طول النص كثرة تفاصيل الصورة وإقحام عناصر تسهم أحيانا في إرباك المشهد وتفتيت تماسكه البنائي، ومثال ذلك قصيدة “فتاة” لـ (إزرا باوند):

الشجرة اخترقت يدي
ارتقى النسغ ذراعي،
نمت الشجرة في صدري –
وتدلت
كأذرع امتدت الأفرع مني.
شجرة أنت،
طحلب أنت،
أنت أزاهير بنفسج فوقها الريح.
طفلة – سامقة –
وكل هذا حماقة للعالم (Pound, A Girl )

تختلفُ هذه القصيدة عن أعمال (باوند) الأولى من حيث تنحيه عن تقنية الاختزال والتكثيف، فجليٌ أن الشاعر لم يلتزم البيان التصويري الذى نادي فيه بضرورة العناية باختيار الكلمات لتشكيل صورة غاية في الدقة. ركز باوند على الصورة رغم غرابتها وعدم ترابط أجزائها في محاولة لنقل إحساسه الطفولي. تبدو اللغة المستخدمة بسيطة لكنها تفتقر إلى المباشرة؛كان يمكن للشاعر أن يخفف من حدة المجاز في مناطق كثيرة بالنص إلا أنه آثر أن يجعل نصه خليطاً من التجريدي والحسي.

تختلف آراء النقاد حول تفسير ذلك النص الذي يكتنفه بعض الغموض نتيجة توظيف الملمح الأسطوري “لأبولو ودافني” والصور الشعرية التي صاغها باوند بنوع من الغرابة، فالبعض يرى أن غاية النص هو التركيز على الملمح الأسطوري وآخرون يرون أن القصيدة محاولة لتقديم مفهوم أشمل لنظرة المجتمع إلى الخيال والإبداع من خلال التلميح إلى أهمية “الخيال الطفولي”، فالقصيدة إذن تتيح للقارئ مساحة واسعة من التأويل وفهم الرؤى من زوايا مختلفة ومتنوعة.

استخدم الشاعر صورا مأخوذة من الطبيعة لكنها كُرست لوصف الطبيعة الإنسانية المتمثلة في “الفتاة المحتفى بها” وليس لتصوير لحظة جمالية مع الطبيعة. تنمو الطبيعة داخل أجزاء جسم الشاعر وتتدفق من جسده الذي ترتبط أجزاؤه بالفتاة، وبالتالي لا يستطيع الصمود أمام حبه العارم فتتفجر مشاعره، يحدث هنا نوع من التأزم النفسي عندما لا يستطيع العالم الخارجي فهم تجربته العاطفية، فيطلق على فعل المحبة “حماقة”.

يستخدمُ باوند – مثلَ لويل وبقيةِ شُعراءِ الحركةِ – الشعرَ بشكل عام لشرحِ التجاربِ الفرديةِ والتعبيرِ عن المشاعر الشخصية، فذات الشاعر حاضرة بمشاعرها وانفعالاتها ولا تقوم بدور المراقب في لحظة معينة. لم يستطع الشاعرُ الغربي أن يكونَ مُحايداً يدعُ تفاصيلَ الكونِ والطبيعةِ تكشفُ عن ذاتِها دون أن يُضفى عليها ذاته ومشاعره.

بينما ترتكز مهمة الشاعر الأساسية في الهايكو على فعل المراقبة للمشهد وتقديمه كما هو ببساطة وعفوية،وتعني المراقبة الاستغراق في اللحظة التأملية التي تختزلُ العُمق الجمالي والفكري. يقول باشو :

السَّوْسَنات:

السيقان كما هي،
والزهور كما هي (الصلهبي، صفحة 71)

تمثل هذه القصيدة نموذجا للهايكو الذي يتسم بالإيجاز والوضوح والذي يتنحى فيه الشاعر تماما ويفسح المجال للعنصر الطبيعي كي يتصدّر المشهد؛ فـ”عندِ الكتابة، لا تقحمْ ذاتَك في الموضوع. اذهبْ إلى الفكرةِ بشكل مباشر؛ لا تجعل الأفكار تشرد منك” (Higginson & Penny, 1989, p. 10). ينقل (باشو) لنا صُورةَ السوسناتِ بسيقانها وزُهورِها على حالتِها الطبيعيةِ دون أن تلمسَ نوعا من المشاعر الذاتية المباشرةِ تِجاهَ الكائنات، أيضاً يُشيرُ (باشو) إلى الموسمِ الذي عاش فيه لحظةَ الهايكو. فالنصُ ليس تجربةً شخصيةً، لكنه لحظةٌ تأمليةُ للسوسناتِ بتفاصيلِها وبهائِها.

خاتمة

توصّلت الدراسة إلى أنَّ التّصويرية لم تَكُنْ مدرسةً أدبيةً بقدرِ ما كانتْ حركةً تزعّمَها بعضُ الشّعراءِ الذين أرادوا تغيير نمط الكتابة الشّعرية، فاعتمدوا الصورةَ الحِسيةَ في تكوينِ المَشْهدِ الشِّعري في أولِ نشأةِ الحركةِ، واقتربوا بذلكَ من الهايكو الياباني، ثم شيئا فشيئا بدأوا في تجريب أشكال شعريّة أخرى كالشّعر الحر والقصيدة الكلاسيكية. على الرغم من الحياة القصيرة للحركة، فإن شعراءها – على قلة عددهم – أسهموا بشكل كبير في إحداث ثورة حقيقية في الشعر الأوروبي الحديث.

اختلف شعراءُ الحركة عن شعراءِ الهايكو في تناول الطبيعةِ نتيجةَ التباينِ الحاد بينَ الذهنيةِ الغربيةِ والشرقية؛ فالغربُ لا يأخذُ الأشياءَ على عِلاّتِها ولا يعتمدُ على حدْسِه في نظرتِه للطبيعةِ والأشياءِ، لذا فهم لم يقوموا بالمعالجة المباشرة للأشياء لأن طريقة تفكيرهم لا تقبل سوى المنطق، بينما يتماهى شعراءُ الهايكو مع الطبيعةِ وينظرونَ إليها نظرةَ عِشقٍ وقداسة،فلا تكاد تخلو نصوصهم من الكيغو بإيحاءاته الموسمية التي كانت ترمز للطبيعة ودوراتها، فالطبيعة بتفاصيلها الدقيقة تمثّل لشعراء الهايكو نوعا من الكمال.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى