فحيح
تمدّد على الفراش سمع صوت فتاة تقول: "أحبّه كثيرا يا أمّي أتظنين أنّه يريد أن يتزوّجني" وخيّل له أنّها تكلّمه قائلة: "أتسمعني أيّها الشاذّ؟ إنّي أعشقك وأنتظر أن تتقدّم لخطبتي أنا في البيت المجاور اِقترب من النافذة لتراني وأراك" اِقشعرّ بدنه وتناهى إلى سمعه صوت اِمرأة تقول: "إن كنت ترغب في الزواج من اِبنتي فأطلّ علينا وسأزوّجك إيّاها" يستوي جالسا يلتفت ناحية الشبّاك ويتمتم غاضبا: "أتريدين أن أتزوّج من اِبنتك؟ وهي الّتي تسبّني وتنعتني بالشاذ ويلكما ما أوقحكما و ما أرذلكما" سمع ضحكات مغرية خليعة تستفزّه كان صوت الفتاة حنونا دافئا حين أصغى إليه يضيف قائلا برقّة و دلال: "قل ما تشاء يا حبيبي لكنّني سأبقى متعلّقة بك أحبّك وأشتهي وصالك مهما حدث" تملّكه الفضول وأحسّ بالرغبة الملحّة لرؤية هذه الصبيّة الّتي تخيّلها فاتنة غيداء ترك سريره واِقترب بحذر من النافذة فتح الستائر وبقي يحملق في المنزل المجاور الّذي كان مهجورا تساءل قائلا: "كيف تمكّنتا من الدخول إلى بيت الدكتور يحيى؟ إنه مقفل منذ سنوات" بقي يفكّر قليلا ثمّ اِستطرد قائلا: "لا بدّ أنّ ذلك الحارس اللعين الطمّاع قد سمح لهما بالولوج إلى البيت مقابل مبلغ سخيّ من المال" اِستغرب وقال: "لكن كيف أمكنني سماعهما بهذا الوضوح و الشبّاك مغلق" أمعن النظر في نوافذ المنزل المجاور فلم ير ما يدلّ على أنّ بالبيت زائرين أقفل الستائر وعاد إلى فراشه.
نظر إلى ساعته اليدويّة على الكومودينو كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء و خمس دقائق وسرت في جسده رعشة لمّا سمع الفتاة تقول: "رأيتك أيّها الشاذّ المحبوب كم أنت وسيم الآن فقط تأكّدت من أنّني أعجبك كما تعجبني أنا الاِبنة الوحيدة للأستاذ أحمد يعقوب الّذي يقيم بحيّ الشروق تقدّم إلى خطبتي وسأوافق دون أدنى شكّ" تملّكه الوجوم للحظات وغادر غرفته مسرعا وبحث عن أبيه في البيت فوجده يدخّن النرجيلة في الشرفة رآه مقوّس الظهر يضع بتؤدة جمرة متّقدة على المعسّل أخذ نفسا عميقا من الدخان ونفثه في شكل كريات بيضاء متداخلة في الهواء بقي الاِبن يتأمّله ثمّ قال له متلعثما: "أظنّ أنّك تعرف شخصا اِسمه أحمد يعقوب إذ أعتقد أنّك قد ذكرت هذا الاِسم أمامي من قبل" رفع والده رأسه إلى السماء وبدا كأنّه يعتصر ذاكرته وقال: "أنا في الحقيقة لا أعرفه شخصيّا لكنّي قد قرأت قبل قرابة الشهر في الصحيفة خبر قتل أحمد يعقوب لزوجته واِبنته لأسباب غير معلومة وفي ظروف غامضة ثمّ اِنتحر"
اِنتفض الاِبن وخيّل له أنّ ما حوله يتراقص ويدور أغمض عينيه لعلّ كلّ شيء يستقرّ في مكانه من جديد تداخلت الأفكار في عقله تهاطلت الأسئلة عليه حتّى كاد يشعر أنّها قد غطّته و خنقته حاول أن يتنفّس جاهدا تناهى إلى سمعه صدى صوت الفتاة يكرّر ما قالته له سابقا تذكّر كلّ كلماتها و بالخصوص وصفها له بالشاذّ أنصت إلى كلّ ذلك باِهتمام بالغ فتح عينيه فوجد نفسه مستلقيا على فراشه اِلتفت يمنة و يسرة تحسّس أعضاء جسده و كأنّه يتأكّد من سلامتها زفر اِستدار إلى الكومودينو دقّق النظر في ساعته اليدويّة كانت الساعة تشير إلى الرابعة مساء و خمس دقائق أحسّ فجأة بالغبطة لقد كان كلّ شيء مجرّد كابوس وها هو قد اِستيقض ونجا من الغرق في بحر الأسئلة تنفّس الصعداء وسمع فجأة صوت الفتاة تقول: "أنا أنت أنا بعضك الّذي لا تعرفه لا تتركني يا حبيبي أعشقك أيّها الشاذّ" اِرتعدت فرائصه واِبتلع ريقه بصعوبة شعر بالجفاف يجتاح جسده الهزيل بسرعة وقوّة ليستقرّ في جمجمته وضع يديه على أذنيه وضغط بكلّ ما أوتي من قوّة حتّى آلمه ذلك فسمع ضحكاتها المغرية الخليعة تهزّ كيانه هزّا وكأنّ الفراغ يقبع بداخله.