الاثنين ١٠ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم مينة المنتصر

فى المحطة

قصة للأطفال

صار المشهد مألوفا لدي، لم يعد يثير تقززي و آشمئزازي كما كان في بداية عملي بهذه المدينة الصغيرة. تعودت على ذات المشهد كل نهاية الأسبوع. أصوات عمال المحطة الطرقية تلعلع بحدة في كل الاتجاهات معلنة عن وجهات الحافلات.وباعة متجولون ينمقون مخارج حروفهم وهم يعرضون مبيعاتهم على أنظار المسافرين.

لغط هنا وصراخ هناك. يعلو الضجيج وتدك الخطى أرضية المحطة كلما علا أزيز محرك الحافلات. موعد أسبوعي يحتلني داخل هذه المحطة المشرعة على كل الاحتمالات. فقد تجيئ الحافلة في الوقت المعلن،أو تتأخر لدقائق أو ساعات، وقد لا تجيئ بالمرة. فقد صار الانتظار قدري المحتوم. ككل مرة ألقيت بكمي المنهك على المقعد الطويل الذي علاه الشحوب وتقشر خشبه. دفنت وجهي داخل شاشة الهاتف،عادة صارت لصيقة بي كلما آقتعدت كراسي الإنتظار. صوت بعيد يعبر المدخل الرئيسية لقاعة الإنتظار ."قهوة...قهوة معطرة..." نبرة رقيقة تتصنع الخشونة مما أحدث نشازاً إخترق مسمعي، رفعت رأسي صوب منبع الصوت،التقت العيون.

إبتسمت وعبرت نحوي ،سرعان ما يممت عيناها الواسعتين صوب ما تحمله يدها اليمنى.أحكمت قبضتها على حملها. جحظ بصري في هذا الكيان النحيل الماثل أمامي.تفحصته بدقة وأنا أفتش عنها. كانت ملبدة وسط طبقات أثواب بعضها طويل و بعضها قصير.لباس تجمعت فيه ألوان صارخة وأخرى باهتة لا يجمع بينها سوى هذا العود النحيل الذي يقاوم صفعات الرياح الباردة. كان الرأس ملفوفاً بخرق يعلوها شال مهترئ ماهو بالأسود و لا بالرمادي معقود أسفل الذقن. هذا الكائن الغريب لم يكن من عناصر المشهد قبل اليوم.عدلت وضع نظارتي الطبية. الشفتان المتشققتان و الوجنتين المقشرتين والأنف الشديد الحمرة عناصرأتلفت معالم الطفولة الناعمة على محيا هذه الصغيرة. رفعت عيناها إلى مستوى صدري ثم أردفت بنبرة مرتجفة:"قهوة سيدتي؟"لم تنتظر ردي، ولا ألقت بالاً لتعابير وجهي المقطبة. بحركة متمرسة وضعت ثقل يدها اليمنى أرضاً، وكان ما تحمله أشد وطأة على أعصابي. مرجل كبير مربوط بأسلاك حديدية إلى مجمر به جمر متقد. المرجل ينفث بخار القهوة، والقهوة منسمة بالأعشاب الجبلية كما قالت الطفلة: "إكليل الجبل... زعتر بري..." بخفة متناهية أخرجت كأساً بلاستيكياً من حقيبتها المعلقة على كتفها الأيسر. رفعت نحو الأعلى قبضة المرجل المثبت قعره على سطح المجمر لتسكب السائل الأسود. تخشبت حواسي. ماذا لو إنفلت المرجل من بين أناملها الهزيلة؟؟ ماذا لو تطاير على وجهها شرر الجمر؟ دفعت بكوب القهوة نحوي. إلتقطت عيناي نذوب حروق غائرة على جلدها الممتقع. وددت أن أفر من هذا المشهد وأن أصرخ في وجهها بأني كرهت القهوة منذ تلك اللحظة التي رأيتها فيها. خانتني شجاعتي أو وقاحتي. وضعت الطفلة كوب القهوة على الطرف الأيمن من المقعد. أبت أن تقبض ثمن قهوتها ومضت. تكالبت على ذهني علامات استفهام كان من بينها، لماذا رفضت استلام ثمن القهوة؟

لحقتها عيناي. كانت تسير بتؤدة، فحذاؤها المطاطي يكبر قدميها و قد خيطت جوانبه الممزقة بخيط معرض للتفتق في أي لحظة، و الثقل في يدها اليمنى يغلي، و الجمر مشتعل و البخار يسبق خطاها كقطعة ضباب. توقفت قليلا أمام طفل صحبة أمه كان يلعق قطعة شوكولاته. إبتلعت ريقها. علا ضحك الطفل و ألقى في وجهها بعبارات السخرية من منظرها. تابعت سيرها تاركة قهقهات الطفل خلفها. صدع صوتها القاعة "قهوة...قهوة...منسمة"

لازالت تلك الأسئلة العنيدة تدق مساميرها في جمجمتي. ما محل هذه الصغيرة في هذا الفضاء البارد؟ الأولى أن تقتعد مقعد الفصل الدراسي. الأولى أن تحمل محفظة بدل هذا البركان الثائر. الأولى أن تكون بين لعبها وسط دفئ عائلتها بدل الركض خلف بضع دراهم.

لبت نداء عجوز في الركن الأيسر. لحقها نبضي. ناولته كوب القهوة. مرر يده على ظهرها. تراجعت للوراء. دفع لها و هو يغمغم.

جلجل منبه الحافلة. ركض المسافرون.مشت خلفهم و هي تصدح بكل جهدها "قهوة...قهوة..." تحركت الحافلة. عادت أدراجها إلى قاعة الإنتظار. إنزوت خلف سارية إسمنتية. توارت عني.

شيء ما دفعني للسير نحوها. رأيتها تفترش قطعة كرتون.تحسست الجانب الأيسر من قفصها الصدري. تملكني الفضول مما جعلني أقترب منها أكثر. أخرجت كيساً بلاستيكياً أسوداً. لمعت عيناها وهي تفتحه، أخرجت كراسة ملونة بألوان زاهية تشع دفئاً و حياة. ألقت وجهها الصغير بين دفتي الكراسة. إقتربت، التصقت ساقاي بركبتيها. رفعت رأسها نحوي وقد بدى عليها الذعر. تلعثمت الحروف على شفتيها و تسربلت عبر بحة مجروحة : "ألم تعجبك قهوتي معلمتي؟"

إهتزت دواخلي لسماع هذه الكلمة الأخيرة "معلمتي" شل لساني وتجمدت عيناي فوق ملامحها بينما كانت ذاكرتي تستجمع قواها للبحث وسط الملامح الضائعة و لوائح الأسماء المبعثرة. فجأة ومض وسط الركام المنسي إسم هناء، التلميذة التي كنت قد نهرتها ذات صباح و أمرتها بإحضار ولي أمرها عندما إشتط غضبي يومها من منظر بقع القهوة على ملابسها و دفاترها. غادرت هناء الفصل مذ ذاك الحين ولم تعد.

هرهرت دموعي. إرتميت عليها لأعانقها. تنصلت من بين ذراعي. حملت ثقلها وعبرت إلى خارج المحطة وهي تردد بإنكسار "قهوة...قهوة..." .

= انتهت =

قصة للأطفال

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى