الثلاثاء ٦ شباط (فبراير) ٢٠٠٧
منهج طه حسين في كتاب
بقلم فرهاد ديو سالار

في الشعر الجاهلي

الموجز

يبحث الدكتور طه حسين عن الأدب العربي و الفكر الإسلامي و تقوم روحه على المادية الغربية وعلى استعلاء الفكرالغربي الاستعماري على العرب و المسلمين و أعلى من شأن الأدب اليوناني القديم و الفرنسي الحديث و ينتهز من كل الفرص للإشادة بهما ليرضي أساتذته الغربيين ،و أبدي الوفاء لهم شغفا بأسلوب الشك في كل شيء يتعلق بالدين الإسلامي فالأدب العربي بصورة عامة و الشعر الجاهلي خاصة بدون دليل يعتمد على سند علمي و عقلي سليم و صحيح داعيا إلى فصل اللغة العربية عن دين الإسلام الذي رمى إليه الغرب ردحا من الزمن لإسقاط مكانة اللغة العربية باعتبارها لغة القرآن و قطع الصلات بين الدراسات العربية و الدراسات الإسلامية.

كان في أسلوبه الذي اعتمد فيه على منهج ديكارت كثير من المغالطة و ليس من منهجه في شيء وإنه يخالف ما يقوله ديكارت و إن تطبيق منهجه هذا قائم على التسليم بصورة كاملة دون أن يداخله أي شك برواياته وهو يصل إلى الإنكار مباشرة و ينهج أسهل طريق للوصول إلى النتيجة و لم يشعر بأي جهد في الوصول إلى الحقيقة؛ لأنه في البداية يصل إلى نتيجة حاسمة و هي إنكار الشعر الجاهلي بصورة كاملة و في أسلوبه هذا مغالطة وعناد . و في هذا المقال نشير إلى الخلل المنهجي الذي وقع الأستاذ طه حسين في أسلوبه العلمي.
الكلمات الرئيسية: طه حسين، ديكارت، في الشعر الجاهلي، اللغة العربية، لغة القرآن.
المقدمة

تورط طه حسين في كتابه" في الشعر الجاهلي" في أكبر خطأ حيث أنه ينطلق في البحث من
فروض و تخيل قائم على الحدس و الظن؛ غير أنه يسير في بحثه، و كأن هذه الفروض التي ليس لها أي أساس علمي أو تاريخي ثبتت صحتها و سلم بها حقيقة، ثم يقفز إلى استنتاجات يعدها نتائج علمية ولكنها محض افتراضات و احتمالات بعيدة إلى نظريات ثابتة و نتائج علمية مؤكدة و لا يجد الباحث أي سند علمي سليم دال على ثبوتها.
و يمكن القول إنه امتثل أساتذته الغربيين خاصة مرغليوث و شكه أقرب من آرائهم و استنساخها.
عقيدة الأستاذ طه حسين في دراسة الأدب العربي هي:

من ذا الذي يستطيع أن يكلفني أن أدرس الأدب لأكون مبشرا بالإسلام أو هادما للإلحاد ... سأجتهد في درس الأدب غير حافل بتمجيد العرب و لا مكترث بالنعي عن الإسلام.....تسألني عن الفرق بين الأدب العربي و الأدب الفرنسي ، فإني في ذلك لا أختلف عن المستشرقين الذين بحثوا هذا الموضوع، وهو في الواقع فرق ما بين العقل السامي و العقل الآري، فالأدب العربي سطحي و يقتنع بالظاهر و الأدب الفرنسي عميق دائم التغلغل و في الأدب الفرنسي وضوح و تحديد لا وجود لهما في الأدب العربي .و إذا كان هذا هو رأيه فكيف يمكن أن يحلل و يدرس كباحث و أن يكون أسلوبه علميا؟!!
كان طه حسين يمثل المنهج الفني-العلمي أو الأدبي-العلمي؛ لأن الأدب آنذاك كان محسوبا من مظاهر التجديد و معدودا في العلوم الحديثة و أحرى به أن يسلك سبيلا يرضي نزعتيه معا، نزعته الفنية أوالأدبية و نزعته إلى التمرد و حب الجديد. وهذا كان موضوعا للصراع بين القديم والجديد. وبعد عودته من فرانسا ثار على المنهج الجديد لجفائه و جفافه، ذلك لأن تاريخ الأدب لايستطيع أن يعتمد على مناهج البحث العلمي الخالص وحدها و إنما هو مضطر معها إلى الذوق(طه حسين، في الأدب الجاهلي، دار المعارف بمصر1926م،ص19) و كان الأسلوب الذي اصطنعه في هذا الكتاب المنهج الفلسفي الذي استحدثه "ديكارت" للبحث عن حقائق الأشياء. و يعتقد أن هذا الأسلوب من البحث عن تاريخ الشعر العربي جديد لم يألفه الناس من قبل و أنه سلك مسلك المحدثين من أصحاب العلم و الفلسفة فيما يتناولون من العلم و الفلسفة. و اجتهد في هذا النوع من الحياة العلمية لئلا يفسد العلم كما أفسده القدماء و أن يصل ببحثه العلمي إلى نتائج لم يصل إلى مثلها القدماء.ويعتقد أنه قد نسي كل شئ يتصل به في بحثه هذا، نسي قوميته و كل مشخصاتها و نسي دينه و كل ما يتصل به، و نسي ما يضاد هذه القومية و ما يضاد هذا الدين و لم يتقيد بشيء و لا أذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح لأنه في غيرهذه الحالة لا بد أن يضطر إلي المحاباة وإرضاء العواطف و سيقع في مشكلة وقع فيه القدماء فلم يعرضوا لبحث علمي و لا لفصل لفصول الأدب أو لون من ألوان الفن إلا من حيث أنه يؤيد الإسلام و يعزه و يعلي كلمته؛ لأنهم كانوا مخلصين في حب الإسلام فأخضعوا كل شيء لهذا الإسلام و حبهم إياه (طه حسين، في الشعر الجاهلي دار الكتب المصرية بقاهرة1926م،ص12).

كان بحثه في هذا الكتاب تاريخ الأدب و لكنه أجاب الأدب بالعلم وهذا – كما يعتقد في مقدمة كتابه في الأدب الجاهلي- ليس صحيحا كان عليه أن يجيب الأدب بالأدب، خاصة أنه كان يدرّس التاريخ و ذهب إلى فرانسا لدراسة التاريخ الأوروبي القديم و اللاتيني .
وقع الأستاذ طه في أكبر خلل منهجي؛ لأنه ينطلق في بحثه من فروض هي مجرد تخيل قائم على الحدس و الظن، غير أنه يسير في بحثه و كأن هذه الفروض التي ليس لها أي أسا س علمي أو تاريخي، يبدأ صياغتها- غالبا- علي نحو:

أليس يمكن أن .....
أليس من الممكن أن ....
أكاد اعتقد .....
فليس ببعيد ....

فنحن نعتقد وإلخ.إذن هذه الفروض يحولها طه حسين من محض افتراضات و احتمالات بعيدة إلى نظريات ثابتة و نتائج علمية مؤكدة حيث ينتهي إلى القول:

و لكننا محتاجون بعد أن ثبتت هذه النظرية (؟!!) أن نتبين الأسباب المختلفة التي حملت الناس على وضع الشعر و انتحاله بعد الإسلام، أو أمرهذه القصة إذن واضح. فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص29).و أمر ذلك يسيرهو أن هذا الشعر الذي يضاف إلىالقحطانية قبل الإسلام ليس من القحطانية في شيء (طه حسين،في الشعر الجاهلي،ص30).أو فواضح جدا أن هذه النظرية متكلفة مصنوعة في عصور متأخرة (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص26).و لا يجد الباحث أي سند علمي يفيد ثبوتها.
في الأسلوب العلمي يحتاج الباحث إلى مقدمات جزئية و منطقية. و يصل من المقدمات و النتائج الجزئية إلى نتيجة نهائية قاطعة. و لكن الدكتور طه في البداية يحكم على انتحال الشعر الجاهلي، ثم يأتي بدلائل ليثبت أن الشعر الجاهلي غير موجود و الشعراء الجاهليين شخصيات أسطورية غير حقيقية. و يلحّ على النتيجة التي اتخذها من قبل. في الحقيقة وقع الأستاذ في بعض الأخطاء؛ منها:

وضع النتيجة قبل المقدمات المنطقية، نفي الأدب الجاهلي و الإتيان بنتائج كلية قبل أن يأتي بنتائج جزئية، بعد رفض الشعر الجاهلي يريد أن يثبت أنه ليس جاهليا، و الإصرار على النتيجة التي وصل إليها من قبل. و كتابه هذا استنساخ لآراء مرجليوث حول الشعر الجاهلي و حاشية كتبها علي نص هذه المقالة. (.لاحظ مقالة مرغليوث تحت عنوان: The Origins of Arabic Poetry في مجلة Journal of Asiatic Royal Societyيوليو 1925 م).
و ليست هذه القضايا علميا بصحيح و لا محل لها من الإعراب في الأسلوب العلمي، إن المنهج العلمي قد يكون محل اتفاق و ذلك في العلوم التجريبية كالطبيعة و الكيمياء و الرياضيات و الهندسة و الفيزياء حتى يكون له أصول ثابتة لا تتغير؛ أما العلوم الإنسانيةالتي تبحث في أسرار النفس البشرية و العلاقات الاجتماعية و القيم الخلقية فلا يتصور فيها وجود منهج موحد بل إن علماء الغرب أنفسهم لم يتفقوا على منهج واحد لدراسة الإنسان و ما يتعلق به من جوانب نفسية و فكرية و خلقية. و هذا الأمر أدّى إلى أن يخطأ الأستاذ طه حسين في نظرياته و كان مخطئا في النتيجة أيضا؛لأن المقدمات إذا كانت منطقية و على أسلوب علمي صحيح، النتيجة طبعا صحيحة و قاطعة. هذا هو الأصل في الأسلوب العلمي.

يطعن طه حسين قبل كل شيء على أصالة الأدب العربي ثم يريد أن يثبت أنه غير موجود، عناية بنظريات مرغليوث.
من المسائل التي أوقعته في الخطأ و تورط فيه حتى تخيل حقا ما ليس بحق أو ما لا يزال بحاجة إلى إثبات أنه حق تعميم الشك و إصراره عليه، هذا الشك الديكارتي الذي يفتخر به و لكنه لم يحسن استخدامه و يقول: أول شيء أفجؤك به في هذا الحديث هو أني شككت في قيمة الشعر الجاهلي و ألححت في الشك، أو قل ألح علي الشك(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص7) .

في الأسلوب العلمي و الدراسة العلمية يشك الإنسان و من الشك يصل إلى اليقين، و أحيانا مع إرائة الدلائل العلمية و المنطقية يرفض شيئا. و لكن طه حسين يشك و يسعى أن يثبت أن موضوع بحثه غير موجود و دائما يصل إلى الإنكار و يجعل للشك ميدانا واسعا تجاوز فيه الحدود فأخطأ.على سبيل المثال: وصل من الشك إلى اليقين في إنكار أيام العرب و الأقوام البائدة و الأمثال و غيرها (طه حسين، في الشعر الجاهلي،صص104و105)؛ مع أنه يعتقد أن مؤرخ الآداب العربية خليق أن يقف موقف الشك إن لم يكن موقف الإنكار الصريح(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 104)، أو بعد بحث إن لم يتهيأ إلى اليقين فقد ينتهيان إلى الرجحان(طه حسين، في الشعر الجاهلي،20).و لكنه يرفض و ينكر بسهولة كل شيء.

و هناك سؤال: يعتقد أن القرآن ظهر في أمة راقية و لاجاهلية و إنما كانوا أصحاب علم و ذكاء و أصحاب عواطف رقيقة و عيش فيه لين و نعمة(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 20) . و تحدي القرآن أيضا يدل على هذا الموضوع و كيف يمكن أن نقبل أنّ لهؤلاء القوم لم يكن شيء من أدب و شعر و أيام و أسواق و إلخ. و هؤلاء كانوا مشغولين بأي شيء؟ و ماذا يفعلون؟ و يهتمون بأي شيء؟ لماذا هو ينكر هذه المسائل كلها بهذه البساطة؟ و لا بد أن يجيب عن هذه الأسئلة و لكنه لم يذكر شيئا حولها. كأن اطلاعه قليل و ثقافته قليلة و يدعي أنه يتبع المنطق و لكنه بالفعل "لا" و بحثه ليس بحثاعلميا في شيء بل عنده نقد و إنكار فقط و له قدرة على البحث و مشكلته أنه يريد أن يجيب الأدب بالعلم و لهذا وقع في هذه الأخطاء.

كتاب في الشعر الجاهلي شك في التاريخ و ليس في تاريخ الأدب . يحتاج البحث في تاريخ الأدب إلى مسائل شتّى حول الأدب بنوعيه: الشعر و النثر، التي لابد للأستاذ أن يبحث عنهما؛ يعني في البحث عن الأدب و تاريخ الأدب لابد له أن يدرس بعض الأشياء حول الأدب مثلا: ما هو الأدب؟ ما هوالشعر؟ ما القصد من النثر و ما هو أنواعه؟ كيف كانت مبدأئية الشعر و النثر في الأدب الجاهلي؟ ما هي الأغراض الشعرية في العصر الجاهلي؟ أيّ هذه الأغراض رئيسية و أيها فرعية؟ ما هو الوصف و الغزل و الخمريات و المدح و الحماسة و غيرها؟ ما هي ميزات الشعر الجاهلي؟ كيف ضعفت أو قوية هذه الأغراض؟ أي هذه الأغراض كانت مهملة و أي غرض أبدع؟ كيف كان التشبيه و المجاز و الاستعارة في هذه الأشعار؟ هل تمثل هذه الأشعار بيئة الشاعر أولا؟ و إلخ.

و لكن طه حسين يحكم في البداية على انتحال الشعر الجاهلي و يلح على أن الشعر الجاهلي غير موجود و ينفي كل ما يتعلق بالأدب الجاهلي، الشعر الجاهلي، أيام العرب و أسواق العرب و يعتبرها أسطورة(طه حسين، في الشعر الجاهلي،صص 104و105). و يعتبر الشخصيات الموجودة فيه أساطير مثل امرئ القيس، عنترة، طرفة و غيرهم، الذين اعتبرهم قبل بضعة أشهر من نشر كتابه في الشعر الجاهلي من قادة الفكر و كان يعتقد و يؤكد أنهم أساس الحضارة الإسلامية و يستطرد للمقارنة بين بداوة اليونان و أشعارها و بين بداوة عرب الجاهلية و أشعارهم. و هذا نصّ عبارته: "علام تقوم الحياة العربية في بداوة العرب و أول عهدهم بالإسلام؟ على الشعر ...هل كانت توجد الحضارة الإسلامية التي ظهر فيها مَنْ ظهر من الخلفاء و العلماء و أفذاذ الرجال لو لم تجد البداوة العربية التي سيطر عليها امرؤ القيس و النابغة و الأعشى وغير هم من الشعراء الذين الذين نبخسهم أقدارهم ولا نعرف لهم حقهم؟ "(طه حسين، قادة الفكر، دار المعارف بمصر، ابريل 1925 م صص 10و11).

و جدير بالذكر أن الأستاذ ذهب إلى فرنسا لدراسة التاريخ، و دراساته هناك لا تتضمن أيّ شيء يتعلق بالأدب العربي و لا بالشعر الجاهلي على وجه الخصوص، و عندما عاد إلى مصر و اشتغل بالتدريس في الجامعة كان يدرّس التاريخ الأوروبي القديم حتي العام الدراسي 1925 -1926 م حيث تحول إلى تدريس الأدب العربي و بالذات الشعر الجاهلي. و الكتب التي ظهرت للدكتور منذ عودته من فرنسا حتى ظهور كتابه في الشعر الجاهلي كانت تتعلق على نحو أو على آخر بالتاريخ الأوروبي القديم. و فيها يدافع عن الشعر الجاهلي و يشير إلى امرئ القيس و معلقته و أشعاره إشارة باطمئنان تام و حتى بعدها في عدة مقالات حول الشعر العباسي و الأموي يأتي بكلام عن الشعر الجاهلي و شعرائه و يؤمن به إيمانا كاملا و لا يتخيل للحظة يمكن أن يكون في موضع الشك.

و لكنه ينفى الأدب الجاهلي و خاصة امرأ القيس كأوّل شاعر يعتبره أسطورة لا حقيقة له، و تغيير هذه الزاوية بمقياس 180 درجة في زمن قصير شيء عجيب! زد على ذلك أن اختلاف الرواة فيما يتعلق برجل مشهور لا يمكن أن يدل على عدم وجود الرجل ، بل بالأحرى يدل على وجوده.

كثيرا ما استشهد و تمثل بالأخبار و الروايات من العرب القدماء، لإثبات آرائه و نظرياته و في نفس الوقت يرفضها أو يجرّحها. مثلا يقبل آراء ابن سلام في الأحيان الكثيرة؛ يأتي برواية منه عن قول أبي عمرو بن العلاء: ما لسان حمير بلساننا و لا لغتهم بلغتنا(طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 25). و قُبيل ذلك يأتي ابن سلام برواية عن يونس بن حبيب: العرب كلها ولد إسماعيل إلا حمير و بقايا جرهم (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء،شرح محمود محمد شاكر،دار المدني بجدة، ص9). و لكنه يرفضه و لا يقبله؛ لأنه يريد أن ينفي قصة إبراهيم و إسماعيل و هجرتهما إلى مكة و بناء الكعبة. أو يقبل من ابن سلام رواياته عن خصوص ابن هشام و ابن إسحاق عندما يرفضهما و في نفس الوقت يتكلم عن انخداع ابن سلام في قبوله بعض الروايات عن أيام العرب و أمثالهم و اشعارهم .... (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص99). و لا يقبل رواية تدل على أن امرأ القيس استودع السلاح عند سمؤال بن عادياء في قسم شعراء اليهود (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص279). و لا يشير إلى رواية عنه أن العرب ورثت الأشهر الحرم من إسماعيل، كانت العرب تحرم أربعة أشهر من السنة كما كان بأيديهم من إرث إسماعيل بن إبراهيم عليهما السلام (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص73). أو يستند إلى الجاحظ حول إعجاب الفرس بآثار الأمم الاجنبية و تقديمها على آثار العرب (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص 115) و في نفس الوقت يرفضه بخصوص عصبيته و كل ما قال حول الموالي و الشعوبية (طه حسين،في الشعر الجاهلي، ص 116).

يقبل آراء الآخرين و يستند إليها و يعممها. منهجه في الكتابة المنهج الفلسفي لديكارت أو الشك الدكارتي و لكنه لم يحسن استخدامه، و يشك في الروايات التي لا تعجبه و لا تؤدي إلى ما يريد تقريره منذ البداية و يعمم الشك حتى على القرآن؛ مع أنه يعتقد كثيرا ما أن القرآن نصه ثابت و لا سبيل إلي الشك فيه (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 16). أو فيما يتعلق بالأقوام البائدة يقول: أي دليل على ذلك أوضح من هذه النصوص القرآنية (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 66). و أوثق مصدر للغة العربية هو القرآن (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 77). و لست أفهم كيف يشك عالم في القرآن (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 77). أو عندما يتكلم حول اضطهاد النصارى بواسطة يهود يستشهد بالقرآن في سورة بروج (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 86). و يستند إلى القرآن حول الحياة العقلية للعرب الجاهلي (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 21).

و هذا نفس موقعه من التوراة و الإنجيل و سيرة النبي و نسبه و في نفس الوقت يعتبركل هذه المسائل أسطورة و يشك فيها. و في قسم اللغة تعرض للقرآن الكريم بحماقة متهما إياه بأنه استعان بالأساطير الكاذبة بغرض التقرب من اليهود. و في الدين و انتحال الشعر يغمز من الرسول و من الإجلال الذي يشعر المسلمون به تجاهه و يحاول دون أي أساس أن يقلل من شأنه و حُذف هذان النصان في كتابه في الأدب الجاهلي. و في هجرة إبراهيم و إسماعيل يقول : للتوراة يحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل و للقرآن عن يحدثنا عنهما أيضا، و لكن ورود هذين الاسمين في التوراة و القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 26) و يعتبرها أسطورة.

يقبل نظرية ابن سلام و ابن قتيبة و الآخرين عندما يشكون في صحة الأشعار الجاهلية أو يعتقدون أنه لا يمكن الاعتماد على بعض الرواة و لكن طه حسين يعممها على الأدب الجاهلي كله و على الرواة كلهم و يعتبرهم من الجاعلين و الكاذبين و لا ينبغي الاعتماد عليهم. و يستدل باختلاف الموجود في إعراب القرآن و قراءاته و يعممها على اللغة العربية بصورة عامة و على اللهجات كلها (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 34). و يعتقد بما أن في القرآن اختلافات كثيرة في الإعراب؛ لابد أن تكون هذه الاختلافات الفاحشة في اللغات و اللهجات و يستنتج بأنه لا يمكن وجود اللغة الأدبية –اللهجة الفصحى للقريش- على الشعر الجاهلي و لابد أن تكون هذه الاختلافات على الشعر الجاهلي لأنها من لغة الجنوب القحطانيين و لغة الشمال العدنانيين.

سلك الدكتور طه حسين طريقا مظلما استنتج على أساس الشك فكان عليه أن يسير على مهل و تؤدة أو أن يكون محتاطا في سيره حتى لا ينحرف؛ لكنه أقدم غير محتاط فكانت النتيجة غير محمودة و استنتج بدون أي أصول و أي أساس منطقي و كانت النتيجة على أصول الشك و لكنه في النهاية وصل إلى نتيجة حاسمة لا تتغير، أو بعبارة أخرى وصل إلى نتيجة قاطعة على أساس المجهولات خاصة استنتاجه من النقوش المكتشفة أخيرا حول اللهجات و لغة الأقوام البائدة التي كانت قليلة يسيرة، ولم يستطع أن يأتي بتعريف حول اللغة و اللهجة الفصحى، ما هي؟ أو ما هي لغة حمير؟ وما هو الفرق بين لغتي حمير و العدنان؟ إجابة عن السؤال الذي هو نفسه قد طرحه و يقول: و لنجتهد في تعرف اللغة الجاهلية هذه ما هي؟ أو ماذا كانت في العصر الذي يزعم الرواة أن شعرهم الجاهلي هذا قد قيل فيه؟(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 24) .و رغم ضعفه و عجزه في هذا المجال يتكلم عن نتيجة بحثه بصورة قاطعة و يقول: إن لغتهم تباين لغة العرب الجاهلي تماما و يعتمد على هذه النقوش التي اكتشفها المستشرقون و أثبته البحث الجديد و يعتقد هو نفسه أن هذه النقوش اكتشفت بعض الفرق في القواعدالصرفية و النحوية و بعض الألفاظ و لكن في النهاية يصل إلى النتيجة الحاسمة أن هاتين اللغتين متمايزتان.

و يرى في قصة إبراهيم و إسماعيل و هجرتهما إلى مكة أسطورة و أنها من تلفيق اليهود و حديثة العهد قبيل الإسلام؛ للتوراة يحدثنا عن إبراهيم و إسماعيل و للقرآن عن يحدثنا عنهما أيضا، و لكن ورود هذين الاسمين في التوراة و القرآن لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي (طه حسين، في الشعرالجاهلي، ص 26) و لكن يستدل علي أي شيء؟ أي دليل تاريخي و منطقي؟ غير واضح؟! و يستنتج قاطعا : إن ضعف هذه القصة إذن واضح فهي حديثة العهد ظهرت قبيل الإسلام، و استغلها الإسلام لسبب ديني، و قبلتها مكة لسبب ديني و سياسي أيضا (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص29). ما هو سبب وصوله من الشك إلي اليقين؟ و إذا كان عنده دليل علمي و منطقي و وصل إلى هذه النتيجة بأسلوب علمي قاطع، لماذا يحذفه في كتابه" في الأدب الجاهلي"؟ و الله أعلم بالصواب. ربما يكون دليله هذا:
نحن مضطرون إلى أن نرى في هذه القصة نوعا من الحيلة في إثبات الصلة بين اليهود و العرب من جهة، و بين الإسلام و اليهودية و القرآن و التوراة من جهة أخري (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 26). أي ارتباط بين هذا الموضوع و ذاك الذي قد ذكره أول البحث لابد أن نعرف ما هي هذه اللغة و إلخ. و أما دلائله فهي:

فليس ببعيد أن ……
فماالذي يمنع قريشا…… .
و نحن نعتقد ………..
إذن نستطيع أن نقول ……...
و إذن فليس ما يمنع قريشا أن تقبل هذه الأسطورة………..
و كأن كلامه حجة قاطعة لرفض موضوع تاريخي مهم كهذا دون أي أساس علمي منطقي. و كيف يمكن أن نعتبره أسلوبا علمي؟!!

أنكر المقدسات الواضحة التاريخية المبرهنة عليها في الكتب الدينية بدون أي دليل منطقي أو استدلال علمي. كسبيل المثال رفض قصة إبراهيم و إسماعيل مع أنها في القرآن و التوراة و الإنجيل موجودة، و ينكرها بدون إرائة السند العلمي و التاريخي الصحيح و اعتبرها أسطورة. و إذا قبلنا رأيه أن هذه الكتب السماوية كلها أسطورة؛ فلماذا يستند إليها في مواضع كثيرة و يستشهد و يتمثل بها على إثبات مدعاه؟ والسؤال هو : هل يمكن لباحث أن يستند على أسطورة لإثبات مدعاه في المسائل التاريخية أوالأدبية و غيرهما؟ طبعا، "لا". و هو بالفعل يخالف رأيه و عقيدته و هذا ليس أسلوبا علميا يليق الاعتماد عليه.

كذلك في مسألة الدين و انتحال الشعر؛ كلامه بشأن النبي إن لم يكن فيه طعن صريح ظاهر إلا أنه أورده بعبارة تهكمية تشف عن الحط من قدره و ينكر التوراة و الإنجيل مما قيل فيهما حول بعثة النبي. و يرى أن الانتحال كان لإثبات صحة النبوة و صدق النبي، لإقناع عامة الناس و اعتبر بعثة النبي و حياته أسطورة وضعها علماء اليهود و النصارى من الأحبار و الرهبان (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 69). و يعتقد أن نوعا آخر من تأثير الدين في انتحال الشعر و إضافته إلى الجاهليين هو ما يتصل بتعظيم شأن النبي من ناحية أسرته و نسبه في قريش و ... (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 72) و سؤال أن الموضوع الهامّ و الرئيسي للعرب مسألة الأنساب و يهتمون بها حراصا و كانوا مولعين بها، ألم يكن أبوبكر رضي الله عنه عالما بالأنساب واشتهر فيه و الآخرون؟ أليس في كتب الأدب مثلا "العقد الفريد" بحث تفصيلي حول النسب؟ و جاء في الحديث: تعلم من النسب ما تعرفون به أحسابكم و تصلون به أرحامكم. و هم معتقدون أن من لم يعرف النسب لم يعرف الناس، و من لم يعرف الناس لم يعد من الناس (ابن عبد ربه، العقد الفريد،دار الكتب العلمية،بيروت لبنان1987م، ص265 و ما بعده) كيف ينكر الدكتور طه هذا الموضوع بسهولة تامة، و على أي أساس علمي و منطقي يرفض علم النسب؟ شيء عجاب!!!

بعد أن رفض الشعر الجاهلي و جاء بأدلة أنه منحول و ليس جاهليا، بل صنعه الرواة في العصور المتأخرة الإسلامية ، يعتقد أن ما بقي من الشعر الجاهلي الصحيح قليل و لا يمكن الاعتماد عليه في استخراج الصورة الصحيحة للعصر الجاهلي بقوله هذا: أكاد لاأشك في أن ما بقي من الشعر الحاهلي الصحيح قليل جدا لا يمثل شيئا ولا يدل على شيء ولا ينبغي الاعتماد عليه في استخراج الصورة الأدبية الصحيحة لهذا العصرالجاهلي(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 7).كان طه حسين يقصد نفي الأدب الجاهلي و إنكاره، و إلا بعدالنقد و البحث و بعد أن غربل الأدب الجاهلي حسب موازينه و معاييره و أهمل كثيرا من هذه الأشعار، إذا كان يقصد الأسلوب العلمي الصحيح في معرفة الشعر الجاهلي لماذا لايستفيد من الأشعار الباقية لصحة الشعر الجاهلي ؟ هذا المقدار القليل الذي هو نفسه لايشك فيه واختاره. إذا كان هذا الجزء القليل صحيحا فلماذا يهمله ولا يعتمد عليه؟ فإذا لم يكن كافيا لإعطاء صورة كاملة للعصر الجاهلي، فليس أقل من أن يعطينا صورة صحيحة جزئية تمثل الناحية ينص عليها!!

و إذا كانت المسألة الاعتماد على مجرد الاعتقادات والآراء، فهناك آراء كثيرة تنظر إلى هذا المقدار القليل الباقي من الشعر الجاهلي نظرة تقدير و احترام. و كثير من المستشرقين يستشهدون و يتمثلون به، على سبيل المثال :
يقول" نولدكه" : إن عادات الجاهلية و أحوالهم معلومة لنا بدقة نقلا عن أشعارهم. و يقول "ثوربيكه" : يمكن تعريف الشعر الجاهلي بأنه وصف مزين بالشواهد لحياة الجاهلية و أفكارها. فقد صور العرب أنفسهم في الشعر صورة منطبقة على الحقيقة بدون تزويق ولا تشويه.و يقول نيكلسون: إن مزايا العصر الجاهلي و خواصه مرسومة صورها بأمانة و وضوح في الأغاني و الأناشيد التي نظمها الشعراء الجاهليون. و يردف قائلا: إن الأدب الجاهلي المنظوم منه و المنثور يمكننا من تصوير أقرب ما يكون من الدقة في مظاهره الكبرى.

و نص على نفس هذه المسألة الرواة الأقدمون نصا صريحا واضحا. جاء في طبقات فحول الشعراء عن يونس بن حبيب عن أبي عمرو بن العلاء: ما انتهى إليكم مما قالت العرب إلا أقله و لو جاءكم وافرا لجاءكم علم و شعر كثير(ابن سلام، طبقات فحول الشعراء،ص 25) والسبب في ذلك قسم لم يحفظ و قسم آخر زال مع الرواة الكثيرين الذين ماتوا في الحرب.و وجود الشعر في القرآن و اعتماد الرسول على الشعر و الشعراء يدل على وجوده في الجاهلية أيضا .و كان الشعر في الجاهلية عند العرب ديوان علمهم و منتهى حكمهم به يأخذون و إليه يصيرون كما قال عمر بن الخطاب :كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصح منه (ابن سلام ، طبقات فحول الشعراء،ص 24)

.فإذن يمكن الاعتماد على هذا المقدار القليل من الشعر الجاهلي ؛ لأنه مليء بالعلم و الاطلاع حول الحياة العرب الجاهلي. يمكن الوصول إلى حد ما عن هذا المقدار الموجود و غير منحول- كما يعتقد الأستاذ نفسه- إلى نتيجة أن البيئة الجاهلية كيف كانت؟ و كيف كان الأدب الجاهلي ؟ و من هم الذين شخصياته؟

هناك بحث حول اللهجات و انتحال الشعر و يقول فيه: نحن بين اثنين إما أن نؤمن بأنه لم يكن هناك اختلاف بين القبائل العربية من عدنان و قحطان في اللغة ولا في اللهجة ولا في المذهب الكلامي؛ و إما أن نعترف بأن هذا الشعر لم يصدر عن هذه القبائل و إنما حمل عليها حملا بعد الإسلام.و نحن إلى الثانية أميل منا إلى الأولى (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 33).لماذا لا يضع الأستاذ حدا وسطا لهذين الموضوعين؟ و لا يفكر و لايتأمل ولا يبحث أكثر من هذا-كما هو نفسه يعتقد-أريد أن أبحث و أحلل و أفكر...؟ (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص6).يريدأن يبحث و يحلل عن أي شيء؟

أولا: يقبل نفسه و يعترف أن الإسلام فرض لغة أدبية واحدة على العرب كلهم(طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 35).إذا كان الأمر هكذا لماذا استطاع الإسلام فرضها؟ ما هو الدليل؟ إذا كان عنده دلائل، السؤال هو: أ لم تكن هذه الدلائل موجودة قبل الإسلام ؟ طبعا كانت.التجارة ، السياسة، الكعبة، الأسواق و غيرها عهدت العرب بها قبل الإسلام. و هذه هي العوامل التي سادت لغة أدبية واحدة على أدب العرب الجاهلي و شعرهم . و الشعر الجاهلي الذي بأيدينا يدل على اتحاد القبائل و البلاد العربية و لغة قريش هي المسيطرة و فاقت علي اللهجات و اللغات كلها.واللغة مرآة عقول أصحابها و مستودع آدابهم . فالمتكلمون باللغة الفصحى كما جاءتنا في القرآن والشعر الجاهلي و الأمثال لا يمكن أن يكون أصحابها دخلوا المدنية أو العلم من قرن أو قرنين فقط بل يحتاج إلى توالي الأدهار فكيف باللغة العربية الفصحى أو اللهجة القرشية؟

ثانيا: الاختلاف الموجود بين قبائل عدنان و قحطان اختلاف اللهجات وهذاهوالذي أشار إليه أبو عمرو بن العلاء . و ورد في كتاب المزهر للسيوطي اختلافات كثيره في اللهجات مثل الكسكسة و الكشكشة و الفحفحة و غير ذلك.هذا من جهة و من جهة أخرى إذا كان الاختلاف بين اللغتين كثيرا – ولا بد أن تكون الاختلافات في القواعد و اللغة و الأصول و غيرها –هذا طبيعي.ولا يدل على أنهم لم يتمتعوا بلغة أدبية واحدة . و اتحاد القبائل من أجل السياسة و التجارة و الأسواق و المحافل الأدبية و مناسك الحج و التنقل و هذا واضح ولا يتأتى له للإنكار.

ثالثا: إذا كان هناك اختلافات في القرآن من حيث القراءة و الإعراب-كما استدل-و يعتقد أنه يجب أن يكون اختلاف اللغات بين الشعراء من قبائل مختلفة من العدنانيين و القحطانيين، نقول: إن اختلاف اللهجات لم يكن أصولية بل إمالة وهي لا تؤثر في الشعر و يأتي بها صاحب الشعر و لم يكن الاختلاف جوهريا بل كان ظاهريا و شكل الكلمة يبقى و لا يتغير . و هذا الاختلاف لا يدل على اختلاف اللهجات و اللغات؛ لأن الأعاجم دخلت العربية بعد الإسلام . والخطأ نتيجة توسع الدور الإسلامي و اولئك الذين دخلوا الإسلام يخطئون في الحركة من الايرانيين و غيرهم ولا يخطأ العربي و الخطأ في القراءة ظهر زمن عثمان.

و هذا الدليل أيضا ليس علميا و لامنطقيا بما أن هناك اختلافا في اللهجات واللغات، إذن لابد أن يكون الخلاف في لغة الشعر الجاهلي.

يعتقد أن القرآن ظهر في أمة راقية و متقدمة و كانت هذه الأمة في الصلة القريبة مع سياسة الدول الكبرى مثل إيران و الروم (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص22). و أن هؤلاء لم يكونوا أغبياء و أصحاب الحياة الخشنة الجافة، بل على العكس كانوا علماء أذكياء و أصحاب سعة العيش و الرخاء (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 20). و طبعا لم يتقدموا في الإسلام أو قبيل الإسلام و كانوا في علاقة مع إيران و الروم ردحا من الزمن و إذا كان الأمرهكذا؛ لماذا يقارنهم ببداوة اليونان و الرومان في أسباب انتحال الشعر. و يعتقد أن انتحال الشعر ليس مقصورا على العرب فقط. و أن الذين كتبوا في تاريخ العرب و آدابهم لم يوفقوا إلى الحق فيه، لأنهم لم يلموا إلماما كافيا بتاريخ هذه الأمم القديمة، أو لم يخطر لهم أن يقارنوا بين الأمة العربية و الأمم التي خلت من قبلها (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 42).
إذا كان قصده من الأمم التي خلت من قبلها، الأقوام البائدة؛ كما هو يذكر لا نعرف شيئا منها و ليست المقارنة منطقية. أما إذا كان يقصد الأمم القديمة غير الأمة العربية فما الفائدة من المقارنة؟ و كيف يمكن أن تكون المؤثرات فيما بينهما مشابهة؟ و أن الأمة اليونانية و الرومانية كلتاهما تحضرت بعد بداوة و انتهت إلى نوع من التكوين السياسي دفعها إلى أن تتجاوز موطنها الخاص و تغيرعلى البلاد المجاورة (طه حسين، في الشعر الجاهلي، ص 43). و أنّى هذا كله للأمة العربية التي كانت تعيش وسط الصحراء و ما أغارت على البلاد المجاورة! القصص اليوناني كله شعر و يلقيه صاحبه على أنغام الأدوات الموسيقية و وجد من عنايه اليونانيين و هم يقدسون الإلياذة والأودسا و يعنون بجمعهما و ترتيبهما و روايتهما و إذاعتهما بينما القصص الإسلامي لم يكن شعرا و إنما كان نثرا يزينه الشعر من حين إلى حين و لا يعتمد القاصّ على الأدات الموسيقية و لم يجد من عناية المسلمين مثلما وجد القصص اليوناني. إذن ما هو السرّ الموجود في هذه المقارنة؟

و إذا كان هناك أحد يدعي في الأدب اليونان أو الرومان أن أشعارا منحولة حول الإلياذة و الأودسا و غيرها، و لكن لم يوجد أحد حتى يدعي أن هذا الأدب و التاريخ و الأشعار و تاريخ الأدب كله منتحل و كيف هو ادعى حول الأدب العربي الجاهلي؟ و إذا كان النقاد من أصحاب التاريخ و الأدب و اللغة و الفلسفة قد استطاعوا أن يردوا الأشياء إلى أصولها في العصر الحديث بالنسبة إلى أدب اليونان و الرومان فماذا رددت أيها الدكتور فيما يتعلق بالأدب الجاهلي إلى أصله؟! أيمكن هذا الاسترداد بالإنكار؟!! و إنكار أشياء بصورة كاملة هل يستردها إلى أصلها؟!

نفي الشعر الجاهلي و إنكاره بعيد كل البعد من العقل السليم و ليس أسلوبا علميا و ليس له أصول وأسس علمية؛ لأنه يعتقد في شأن الرواة أن ابا عمرو الشيباني كان يأخذ من القبائل نقودا و يجمع شعرهم و جمع أشعار سبعين قبيلة (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 122). و يأتي بأشياء حول الأصمعي و الخلف و الحماد و المفضل الضبي و الرواة الآخرين أنهم يجمعون شعر القبائل و إن يعتقد بأنهم ينتحلون أشعارهم و هذا الموضوع نفسه يدل على وجود الشعر. و كذلك اعتمد على ابن سلام في مواضع كثيرة و نذكر رواية منه أن عمر بن الخطاب قال: كان الشعر علم قوم لم يكن لهم علم أصحّ منه (ابن سلام، طبقات فحول الشعراء، ص 24). و أن الشعر كان منتهى حكمهم و ديوان علمهم. و إن للشعر صناعة و ثقافة يعرفها أهل العلم (نفس المرجع، ص 5). و هذه الروايات تدل كلها على وجود الشعر في العصر الجاهلي وأهميته عند الجاهليين. و كذلك في القران آيات حول الشعر و الشعراء و أنه ينفى نسبة الشعر إلى الرسول، و أن الدكتور استند كثيرا بالآيات القرآنية و يعتقد أن نص القرآن ثابت لا سبيل إلى الشك فيه. و أن سيرة النبي تحدثنا أنه يعتمد علي الشعر و الشعراء و كان له شاعر خاص و هو حسان و أحيانا يمنع عليّا أن ينشد شعرا يردّ به على شعراء قريش (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص97).

و هذا كله يدل على وجود الشعر إذن كيف يستدل على إنكار الشعر الجاهلي بدون أي سند علمي أو تاريخي صحيح، هذا شيء عجيب من غرائب الأمور.

هذا بعض نماذج من آراء الأستاذ طه حسين عميد الأدب العربي و التناقضات الموجودة بينها في الأسلوب العلمي الذي ادعاه و سلك فيه منهج الديكارت الفلسفي و هو التشكيك وأن هذا الموضوع نفسه أيضا منحول؛ لأن طريق الشك بهذا الشكل الذي هو يدعيه ليس حديث العهد بل كان عند القدامى من العرب في العصور الإسلامية مثل ابن سلام و أبي عمروبن علاء و أبي عمرو الشيباني و الجاحظ الذي يقول: أناأعرف مواطن الشك لأعرف مواطن اليقين. و هم هكذا يشكون في قيمة الشعر و انتسابه و يصلون من الشك إلى اليقين. و مع الأسف بالنسبة إلى الدكتور طه شتان الفرق بين قوله و فعله.

و طبعا أسلوبه هذا جميل و جيد إذا كان على أسلوب علمي صحيح و أن يكون الشك منطقيا و الغرض منه الوصول إلى الحقيقة و أن يكون الباحث خالي الذهن و يترك كل شيء كما هو يعتقد حين يستقبل الباحث البحث العلمي عن الأدب ينسى قوميته و كل مشخصاتها و ينسى دينه و كل ما يتصل به و أن ينسى ما يضاد هذه القومية و ما يضاد هذا الدين و يجب ألا يتقيد بشيء و لا يذعن لشيء إلا مناهج البحث العلمي الصحيح (طه حسين، في الشعر الجاهلي،ص 12). و في النهاية يصل إلى اليقين

وعلى كل حال، إنه سلك طريقا مظلما بعيدا عن أسلوبه العلمي و أفرط في شكه وعممه، طبعا و قد شك في الروايات التي لا تعجبه و لا تؤدي إلى ما يريد تقريره منذ البداية و كان شكه قريبا من مرغليوث أكثر من الشك الدكارتي. فكان يجب عليه أن يسير بطيئاعلى مهل و أن يكون محتاطا في سيره لئلا يضل و ينحرف عن سبيل العلمي الصحيح و لكنه أقدم دون احتياط فأصبحت النتيجة غير محمودة و غير مرضية. و قد سفسط في آرائه حتى يصل إلى النتائج التي أمليت عليه من قبل و لم يكن بحثه علميا؛ كأنه كان من واجبه أن يأتي بأدلة لإثبات ما ادعاه و هو إنكار الشعر الجاهلي ليخدم سادته الأوروبيين و أساتذته المستشرقين.و هل وفق في الوصول إليه؟!!


مشاركة منتدى

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى