الثلاثاء ١٥ آذار (مارس) ٢٠١٦
بقلم يوسف الناصري

في الطريق إلى المنفى (1)

ثمانية آلاف درهم، وقلب من صخر تكفي كي أنسل من كل هذا التاريخ ومن هذه الجغرافيا، سأهاجر كما هاجر قبلي الفلاحون والبناؤون وشتى أنواع العمال الذين ضاقت بهم هذه الأرض بما رحبت. سأودعها كما ودعها الذين طلبوا كالأطفال أمنيات بيضاء بسيطة. لكني أحبك يا وطني، أحبك مجردا من الأشخاص ومن الأشياء، أحبك غامضا وواقفا بلا عنوان ولا تعريف، وسأرحل عنك ربما كي أحبك أكثر!

في الشمال حتفي أو خلاصي وفي البحر نهايتي أو بدايتي، سأعود إلى أسبانيا التي طردت أجدادي ليس فاتحا ولا منتصرا، بمركب هش يحمل أمثالي ممن غزوها بلا سيف ولا رمح ولا سهم ولا هدف. ها هي الأمواج تلوح أمامي والرمال تحت قدمي ناعمة في جو بارد يحتمله قلبي العليل. ورائي الوطن والذكريات وأناس أحببتهم سكنوا الوجدان والذاكرة، وأمامي المنفى والخلاص.

اليوم يوم سبت، قطعت المسافة بالقطار، حققت لنفسي أمنية ربما قد تكون الأخيرة، أحببت أن أرى عبر زجاج المقطورة كل شبر، أردت أن أبكي كما يحلو لي دون أن ينتبه أحد، أن أرى بقرة ترعى قرب بيت بسيط في مكان ما، وأرى القرى والمدن، وأقرأ اللافتات التي تبتسم فيها تلك الفتيات القادمات من كوكب آخر، وألمح طفلين عائدين من المدرسة، يتقاذفان كرة أو قنينة في الطريق كما كنا نفعل.

تعمدت أن ألصق خدي بالزجاج البارد وأغمض عيني وأحلم بآخر الأمنيات حتى آخر محطة، إلى أن سمعت الصوت الذي يعلن نهايتي وبدايتي.

هذه طنجة عروس الشمال كما يسمونها، الأضواء في الليل جميلة لمن ينظر من وراء غرفة دافئة في بيت دافئ وحوله الأحبة يتضاحكون، أما أنا فمجرد عابر غريب أحمل في سحنتي تعب المسافرين الذين ينتظرون فقط إطلالة الصبح. الجمال يأتي من دواخلنا، لا يمكن لأي شيء أن يجعلك سعيدا في الظروف العادية إن كنت تعيسا، فكيف بمن يحمل كل ذكرياته وماضيه ليلقيه في عرض البحر!

لم أبك لحظة الوداع، لم أترك كلاما ثقيلا أو ذا أثر، ولم أَعِدْ أحدا بشيء. لم أرد أن أتذكر شيئا مُهما أو يتذكرني الناس به، أنا مجرد رقم فقط، قد أصبح بعد ساعات طعاما لأسماك البحر، قد تعرض جثتي المتحللة على شاشة التلفاز ملفوفة في كيس.. وقد..! أنا سأرحل مكتفيا بي.

الوقت فجر وعلى الشاطئ يتناهى إلى مسمعي من بعيد صوت الأذان، آخر صوت يأتي من أرضي ومن ترابي ومن وطني، صليت الصبح دون أن أتحقق من اتجاه القبلة، أينما وليت وجهي فثمّ وجه الله، في السجود أحسست بأن رائحة التراب أزكى ، دعوت الله كما الخائف أن يحمل جسدي على بساط أمان، وأن يحفظني من نهاية مروعة وسط الموج. "أقسم بعظمتك يا رب إن كتب لي عمر جديد فسوف أصير إنسانا صالحا وأتزوج امرأة كباقي الرجال ولن أتوقف عن إنجاب الأبناء!"... (يتبع).

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى