الجمعة ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٧
دور الهندسة النفسية
بقلم علي دهيني

في العلاقة مع الذات ومع الآخر

قالوا : راقب أفكارك لانها ستصبح أفعالا.. راقب أفعالك لانها ستصبح عادات.. راقب عاداتك لانها ستصبح طباعاً.. راقب طباعك لانها ستحدد مصيرك .

إن الإيحاء النفسي ، الذاتي أو المكتسب يملك من الخطورة أكثر مما يؤمن السلامة الذاتية والعلاقة مع الآخر.. من المهم تجنب الإيحاء حين إعطاء المعلومة الجديدة، بمعنى إن العقل البشري مفطور على تلقي المعلومات الأولى التي تنقلها الذات البشرية عبر الانفعالات والتفاعلات مع المحيط الأول، المدفوعة من الحاجات الذاتية والمتفاعلة مع الغزائز بالدرجة الأولى، ومن ثم مع الموروثات المنتقلة عبر طريقين:
من الأبوين : في المضمون بعض طرق النفكير والطبائع، وفي الشكل بعض المواصفات الجسدية مثل الطول أو طريقة السير أو عرض الأكتاف أو بعض الملامح.

من المحيط : العلاقة مع الآخر وطريقة التعامل معه وبعض المصطلحات وتكوين الرصيد الاجتماعي والإقدام والإحجام والرفض والقبول من خلال التأثر بهذا الآخر.
هذه الموروثات تتغذى وتنمو وتتفاعل بحكم المعايشة اليومية والسكنى والإقامة في حيز جغرافي واحد، لتصبح فيما يعد نسخ شبه متطابقة فيما بين بعضها.
حين تدخل على هذه الموروثات معلومات وصور جديدة مشابهة في الموروث لكنها تختلف عنه في بعض المظاهر او بعض التصرفات ويتم التعايش معها بشكل يومي، تصبح الذات البشرية في حالة مقارنة عبر تحليل هذه المعلومات ومقارنتها بما تختزن الذاكرة من معلومات موروثة، ولأنها بالفطرة وعبر الجينات مؤهلة الى قبول بعض الجديد كونه يتماشى ويتناسق مع الموروث، فتذهب مباشرة الى تلقيه والحاقه في الذاكرة على أساس انه صحيح ومقبول ويتم التعامل معه على هذا الأساس. والعكس صحيح، اذا لم يكن يتناسب مع الموروث سوف يجد المرء صعوبة في تقبله، حتى وإن كان ضمنا يشعر انه يؤمن له بعض متطلبات الهواجس الغريزية.

أمر آخر في هذا المكتسب يؤخذ بالاعتبار هو عمر المتلقي، لأن مراحل العمر لها دور أساس في الميل الى هذا الأمر أو الى ذاك الأمر، فالطفل يميل الى وسائل اللهو والابتعاد عن القيود والانضباط، فحين يجد ما يتطابق مع حاجته سوف يميل في هذا الاتجاه، وفي مرحلة عمرية أخرى متقدمة، سوف تبرز عنده متطلبات مرتبطة بتطوره الجسدي وحدوث بعض التغييرات الجسمانية فيتحول الى ما يتفاعل مع هذه الحاجات.
من هنا يشدد علماء الاجتماع والمتخصصين في مجال التوجيه الاجتماعي، ومنهم العاملين في مجال " الهندسة النفسية" التي من مهمتها اعادة تنسيق او برمجة ما تحمله الذاكرة الموروثة، بشكل متناسق يحافظ على الصورة الصحيحة لبناء الشخصية على قاعدة وضع الشيء في موضعه كما يقول الامام علي.

هذه العملية هي من الصعوبة بمكان عند الكبار لأنها تتحول الى معالجة نفسية اذا ما استعرت فيها بعض الموروثات ذات التأثير النفسي وحولتها الى مفتاح لكل حركة الفكر وصارت تبرز عند كل حركة يقوم بها الانسان سلبا أو إيجابا. وفي هذه الحال تصبح صعبة التقويم. من هنا كان التوجه والتركيز على مرحلة الطفولة وعلى مرحلة المراهقة، لأن هاتين المرحلتين هما المرحلتان المؤهلتان للتلقي عند الإنسان.
في هاتين المرحلتين كذلك، تكمن الخطورة، إذ ربما (ونحن نحاول أن نعيد برمجة الموروث ونرصف المعلومات المختزنة في الذاكرة بشكل سليم لا يُعرّض البناء الفكري الى الإنهيار أو التفكك)، نمد هذه الذاكرة المتلقية بإيحاء يأخذ مكانه فيها ويكمن متربصاً ليخرج في وقت معين نتيجة تناسقه مع بعض الرغبات أو بعض الأهواء.. والخطورة فيه، أيضاً، أنه قد يخرج في غير محله وبعيدا عن قواعده، إذ لكل فكرة صورة معززة بالشواهد الحسية وبالأدوات الفاعلة لها، فمثلا إذا قلنا بمعاقبة المخطىء على خطأه بتأديبه بواسطة الضرب ولم نحدد السبب أو الطريقة أو الوسيلة أو المكان الذي تتم فيه هذه المعاقبة، قد يحملها المتلقي وهو طفل، ليمارسها من باب التجربة والفضول على شقيقه في البيت بعدما يقنع نفسه بأن أخاه أخطأ معه، وهكذا بالنسبة للمراهق، حين نـُفهمه أن لكل إنسان حرية القرار بان يأكل ما يرغب أو يلبس ما يريد أو أن يكون له شخصيته المستقلة، فيذهب ليحقق ذلك في بيته وبين أسرته أو مع رفاقه، فتتحول هذه المعلومة الى حالة صدام مع الآخر. وهذا أيضا ينطبق على المسائل النفسية الذاتية التي ـ كما قلنا ـ ترافق المرحلة العمرية، كون الانسان يتكامل شكلا ومضمونا مع تقدم العمر، وفي سن المراهقة سوف يجد الولد أو البنت أن هناك تغيرات طبيعية برزت وبرز معها افكاراً متعلقة بها نسميها حاجات طبيعية ولها طريقة استخدام معينة تثمر من خلال هذا السلوك نتاجا معينا مثل إن الزواج ينتج عائلة؛ لكن في سن المراهقة ليس الحساب في الذاكرة حساب عائلة أو سلوك طريق معين في التعاطي مع الأنفعالات الطبيعية، إنما فضولية الاكتشاف هي التي تحرك، أضف الى ذلك ما يرافق تفاعلها من نشوة تغمر النفس لتشكل بصورة كبيرة الحافز للحصول على شريك للتفاعل معه، وقد يكون هذا الشريك من الممنوع مشاركته في هذه الأمور، إلا أن التفكير عند الراغب لا يقف عند هذا الممنوع، بل يهمه الحصول على المطلوب الذي هو هذا الشعور بالنشوة والسعادة.

استمرار هذه الحالة يتحول الى حالة مرضية نفسية، لأنها عبّرت عن خلل في توزيع المعلومات وإصدار الأوامر من الذاكرة الى وسائل التنفيذ وبالتالي صارت مشكلة لا بد من التخلص منها، عبر العلاج أو عبر الزجر الذي يقطع دابرها من الجذور، كما في التشريع الديني الاسلامي. وهذا بسبب إمكانية انتقالها جينيا لتشكل مجتمعا متناميا مع تعاقب الأجيال، ولذا كان الحسم فيها جذريا وليس فقط زجريا.
هنا يأتي دور الهندسة النفسية التي مهمتها الأولى أن تنقل المعلومة الصحيحة بكل أبعادها، بطريقة علمية تقوم على التعريف الصحيح والسليم لكل مكوّنات الإنسان النفسية والجسدية وبالتالي شرح أسباب وجود هذه العناصر والأعضاء ومكان وكيفية استعمالها، دون الإيحاء عبر التعريف والشرح والتعليق على نقطة واحدة تغلب جانبا واحدا من الجوانب الثلاث على الأخرى، أو تكتفي بذكر الأشكال ومكونات العناصر وانعكاساتها الإيجابية على الذات النفسية، دون التعريف بشكل متوازن عن طرق استعمالها وأماكن حركتها، بما يمكن المتلقي من أخذ كامل المعلومة على أنها كل لا يتجزأ، وبأن المحصل الإيجابي يتم من خلال إكتمال العناصر مجتمعة.

على سبيل المثال، موضوع العلاقة الجنسية ودور الولد ودور البنت في هذا ومَنْ منهما المتلقي ومَنْ هو المُلقي.. وهو ما يتعبره بعض العاملين في حقل "الهندسة النفسية" في ورشات عملهم مع الطلاب على هذه الناحية، ان هذا الموضوع على درجة كبيرة من الحساسية لأنه الى جانب طرحه والحديث عنه في مادة الهندسة النفسية، هو مرتبط ارتباطا وثيقا بما بعد جلسة التعليق والشرح هذه، يرتبط بتأكيد ما تلقاه المتلقي في البيت وفي الحصة الدراسية التالية وفي الجو العام والبيئة، فإذا لم يتكامل هذا مع ذاك تكون مشكلة، وهو هذا الدور الأول في الهندسة النفسية، اي كيف ومتى وممن نأخذ المعلومة وكيف نتلقاها وباي قالب وأين نضعها وكيف نستخدمها. والأهم هو أن لا ينحصر التعريف بالمتعة والإستئناس والحصول على البهجة والسرور في عامل واحد وهو العامل الجنسي، ولا بد من تأكيد حقيقة عقلانية ثابتة، أن الجنس في الحياة البشرية هو وسيلة تحولت الى غاية بفعل ما تؤمِّنه من شعور بالمتعة النفسية والجسدية وأن هذا الجنس هو مخلوق له غاية وهي البناء الإنساني للتكاثر، وما المحصول منه على شعور من المتعة والسعادة حين حصوله، إلا ترغيب به كي لا يمله الإنسان فيمتنع عن المشاركة في البناء الكوني... وكي يقوم بدوره ويعطي مفاعيله، فقد أوجد من أوجده طرقه السليمة ومسالكه الصحيحة التي يجب أن يتم عبرها.

الخطورة في هذا الأمر هو أنه مرتبط بحديث الذات الهامس الذي يرتبط بدوره مع تنامي الجسد ويولد التساؤل والفضول في معرفة دوره ووجوده، ومن ثم يتحول الى أمر مطلوب بقوة دون تقدير او حساب للنتائج السلبية التي ستنجم عنه في حال لم يأخذ مساره الطبيعي. وأخطر ما في هذا الخطر أنه يتحرك بشكل تلقائي بفعل الغريزة ويملك قدرة السيطرة على ادارة العقل اذا كان هذا العقل غير مكتمل الصورة عنه. بمعنى أنك لا تستطيع أن تمنع أمراً لا تراه لترفضه وتستنكره، وفي نفس الوقت من الصعب أن تمنع مراهق مثلاً، من الانفعال في هذا الموضوع اذا ما شاهد ما يثير هذه الغريزة ويحرك شهوة النفس للحصول على مبتغاها باي وسيلة متاحة له ، أو ربما يدفعه الأمر الى إيجاد هذه الوسيلة.

من هنا فإن دور الهندسة النفسية في مسار بناء الشخصية، يكون من خلال إضافة المكتسب الثقافي الى الموروث الثقافي بما يجانس بينهما ويُظهّر الحقائق المنطقية في دورة العقل وطريقة التفكير لتكون أسلوب حياة سليمة وتربط مسارات العقل ببعضها بما يضمن السلامة في الفعل والتطبيق في العلاقة مع الذات ومع الآخر.

في هذا بعض الثوابت القرآنية العامة التي تشكل مبادىء يهتدي بها الإنسان لو أعطى لنفسه قدراً من التفكير والوقت للتفكر بها ومراجعتها، مثل قوله تعالى : "بل الإنسان على نفسه بصيرة ولو ألقى معاذيره"، هذه الآية خطاب للعقل بأن يقوم بدوره أمام كل المغريات النفسية، وللأسف، نحن ناخذ الكثير من العلوم ـ وخاصة الإجتماعية ـ من اسماء وأبحاث انتجها علماء غربيون مشكورين على جهدهم في خدمة الإنسانية، لكننا تركنا ما بين أيدينا من علوم الحياة المكتنزة في كتاب مبين تنزيل العزيز الحكيم، متباهين بذلك بأننا شركاء له في ما أنتج من فكر. لا ننكر أبدا تلاقح الحضارات وتبادل المعرفة، بل من واجبنا العمل على هذا الأمر لما فيه من غنى لصالح الإنسان، إنما كذلك لنطلع على ما عندنا ونخرج منه ما نحتاجه في مسيرة الحياة، وأن لا نقتصر فيه وناخذ منه فقط ما يمكن أن يكون قيدا، هو أبدا ليس مانع للإنسان من حركته وهو أبدا ليس مقصوراً على وجه واحد من وجوه الحياة.. هو كُلٌ متكاملٌ شرط أن نعي ونتنقب حاجتنا منه بطريقة تحبب العقول إليه ولا تنفرها منه، بحيث ندخل جهلنا في فهمه على انه لا يملك إلا جانبا واحدا من علوم الحياة.

للحديث صلة...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى