السبت ٨ كانون الثاني (يناير) ٢٠١١
بقلم أحمد الخميسي

في بيت عمي فوزي حبشي

في 3 يناير الحالي أتم عمي فوزي حبشي سبعة وثمانين عاما جميلة وحافلة بالعطاء الإنساني والوطني. تعرفت إليه – دون أن أراه – وأنا صبي في الثالثة عشرة حين كنت أسمع من والدي الحكايات العجيبة عن بطولة فوزي حبشي وصموده الأسطوري تحت التعذيب في معتقل الواحات عام 1959.

في صباي استولت على خيالي وشكلتني إلي حد كبير تلك الأساطير: الرجال الذين يتحدون كل شيء، ويواجهون الصعاب من أجل العدالة، ويضحون في سبيلها بحياتهم وبيوتهم وعائلاتهم، وتتكسر قضبان السجون والظلمة من حولهم وهم متقدون بالنور. ولم أكن أعلم أنه مقدر لي أن ألتقي بفوزي حبشي وأن أصبح فردا من أسرته الكريمة، وأن تغدو هذه الأسطورة الحية جزءا من نسيج عمري، وأن يتحول هو شيئا فشيئا من الباشمهندس فوزي إلي عم فوزي.

في صباي أدهشني صموده داخل السجن وفيما بعد أدهشني صموده داخل الحرية. لأن الحرية في أحيان كثيرة تكون اختبارا أشد وطأة، ومرواغة، من الأمتار القليلة بين أربعة جدران. في الحبس لا يبقى للناس في معظم الحالات من خيار سوى البطولة، أما في الحياة فإن عليهم أن يحتشدوا بكل إرادتهم لمقاومة الأموال والمناصب وأشباه المعتقدات والدروب المموهة التي تقودهم بعيدا عن طرق الحقيقة. وفي كتاب صادر عن ميريت سجل فوزي حبشي سيرة حياته كاملة بعنوان « معتقل لكل العصور» قرأته ثم أدركت أن أسطورة فوزي حبشي لم تكن في أنه كان: «معتقلا لكل العصور» بل في أنه كان: «حرا لكل العصور» من دون أن يتخلى عن مبادئه.

في عيد ميلاده تحلقنا حوله، أنا وأخوتي أبناؤه حسام، وممدوح، ونجوى، وأحفاده، وأطفال أحفاده، وبيننا جميعا تتحرك بأقداح المشروبات وأطباق الطعام زوجته الجميلة النادرة ثريا شاكر، وآخرون كثيرون من عائلة حبشي، وهو بيننا لا ترى سوى بسمته ولا تسمع سوى ضحكته المجلجلة، يتذكر كيف أنقذ مكتبة ابن عمه الدكتور لويس عوض من الضياع ويشير إلي الحائط حيث علق كل الأوسمة التي نالها د. لويس، ثم ينهض ويتقدم إلي صورة لزوجته داخل إطار ويقول: وضعتها في صدفة التقطتها من الرمال حين كنت معتقلا عام.. عام يا سيدي.. ويتذكر: عام 1948! أقول له: حينذاك كنت أنا قد ولدت لتوي! فيضحك ويربت على كتفي مندهشا: والله؟ معقول يا راجل؟.

وتجرجرنا أم ممدوح إلي منضدة طويلة عليها طورطة نقف حولها ونهنئه بعيد ميلاده السابع والثمانين، ويطفيء شمعة، نغني ونتمنى له من صميم القلب العمر المديد والصحة والسعادة. أقول له في سري: يا عم فوزي عشت حياة جميلة وصعبة تستحق أن تروى. نعود إلي جلستنا في الصالة، ويسود صمت للحظة، ومثل سحابة قاتمة تعبر الأحداث الأخيرة فوق رؤوسنا: ماذا جرى في الاسكندرية؟ من الذي دبر التفجير قبالة كنيسة القديسين؟ كيف يمكن مواجهة ما وقع؟. وأسرح، أفكر في أن مسئولية الحكومة ووزارة الثقافة ووزارة الإعلام ووزارة التعليم والأزهر واضحة.

لماذا لم تنجح تلك الجهات في التصدي للظلام الذي يغمرنا منذ زمن طويل من كل ناحية؟ مئات الفتاوي تصدر كل يوم بوجوب مقاطعة الأقباط من دون أن يرد الأزهر عليها وهو الجهة المنوط بها ذلك؟ لماذا لا تعيد وزارة التعليم النظر في المناهج التي لا تلقن التلاميذ سوى الطائفية؟.

الأسئلة كثيرة جدا، لكن الخطر الحقيقي يتمثل في أننا لم نعد نرى مخرجا، أو أن اليأس قد أصابنا من كثرة ما نبهنا دون جدوى، نشعر في الصمت أننا كأنما ننزلق دون أن نتحكم في سيرنا إلي مايريده بنا الآخرون. ليست المشكلة في المجرم الذي ارتكب الجريمة، أيا يكن، المشكلة في حالة الوطن وهو يتلقى تلك الطعنة. حالته التي كانت بحاجة لعلاج من زمن طويل. يمتد الصمت لحظة أخرى نتشبث فيها في خيالنا ببعضنا البعض وبالوطن وبصداقتنا وأخوتنا وبكل الأشياء الجميلة في حياتنا، ونطفو معا مثل جزيرة على سطح البحر تسبح وحدها. أقول له: مهما يكن سنبقى معا ياعم فوزي، عيد ميلاد سعيد، ومئة سنة أخرى وبيتك عامر بأنفاس نورا وطارق وماجد وفريد وليلي وميرا وكل من يحبك.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى