الثلاثاء ٢٩ آذار (مارس) ٢٠١١
بقلم نادية بيروك

في طرق العودة

الأماكن حقيقية والمعاناة أيضا. كتبت هذه القصة سنة ١٩٩٣ ولربما كنت أتوقع الأسوأ كلما أردت العودة إلى بيتي في ذلك الزمن. اليوم تبدلت الأمور ولكن قلة هم من يعلمون ماكنا نعانيه كل يوم.

ما إن انتهت الحصة المسائية حتى خرجت خديجة من جامعة «ابن زهر للآداب والعلوم الإنسانية» مستحثة الخطى للعودة إلى البيت قبل أن يشتد الظلام. فالساعة الآن تشير إلى السادسة مساء. وقبل أن تصل إلى أقرب محطة للحافلات عليها أن تقطع مسافة ليست بالقصيرة راكضة، لاهثة، عساها تدرك الحافلة التي قد لا تصل. وبعد أن تكون قد تعبت من الجري، تتعلق بتلابيب المتعلقين علها تستطيع اختراق حشد الزحام الهائل الذي يقبع داخل الناقلة المتآكلة والتي أصبحت تحدث صريرا قويا وفرقعة مزعجة تصم الآذان ...

 الحمد لله! لقد تمكنت من إدراك هذه الحافلة قبل ذهابها. فهل سأدرك الأخرى يا ترى؟

بعد مسيرة نصف ساعة تصل خديجة إلى «الباطوار» حيث ستنقلها الحافلة الأخرى إلى البيت. هذا إذا لم تتعطل أو يصيبها أي عطب كعادتها. ولا تسل عن الظلمة المخيفة الحالكة التي تخيم على المكان خاصة وأن الجو ممطر وملبد بالغيوم. ورغم أن الأنوار الخافتة بدأت تنبعث معلنة عن غروب الشمس وانبلاج ليل مرعب، فإن المكان كانت له وحشة غريبة حتى أن خديجة شعرت بانقباض صدرها

وتوجس خاطرها، وفجأة، أحست بأصوات كريهة تلاحقها كالقذائف المسيلة للدموع:

 يا آنسة! اتنتظرين أحدا؟ «مانشفوكش»؟!
 أواه! هاذي بنت المدرسا!... ها هاها .... هاها ها؟!

خديجة لم تعد تتحمل ما تسمعه كل يوم. لقد بدأ وجهها البريء يحمر ويسود من الحنق، لكنها لم تتفوه ببنت شفة، لقد ظلت صامتة، تتردد في أحشائها عزة النفس وكرامة الأنوثة الطاهرة فتتأجج أعماقها بالغضب والثورة:

 (لو أن الجامعة تخصص حافلات خاصة لنقل الفتيات على الأقل إلى منازلهن في وقت كهذا؟ لو أنها تعمم «السكولير» في مختلف أنحاء الإقليم خاصة في المناطق البعيدة، أكنت سأقف موقفا كهذا؟ لو أن المسؤولين يدركون ما تتعرض له أغلب الفتيات كل لحظة في طريقهن إلى الجامعة من مضايقات ومخاطر؟)

التفتت خديجة إلى أحدهم وهي تنظر إليه نظرة شزرة، زاجرة وهي تقول في نفسها:

 (إننا نقاسي الأمرين طيلة مسيرتنا الدراسية نتحمل ما لا طاقة لنا على احتماله ونتجرع العلقم ألف مرة لكننا سرعان ما نستسيغ طعمه ... وليتنا نحصل في النهاية على شيء! إننا نغامر بكل شيء ونخرج في آخر الأمر من دون شيء).

فجأة ينبعث الصرير الحاد، لتسرع خديجة في وجل وخوف وفرحة مقيتة، لنجاتها من تلك التصرفات الوقحة التي يجد فيها ماسحو الأحذية والسكارى القابعين هناك قرب المحطة تعزية ولذة. تتأبط خديجة محفظتها في فزع متعلقة كعادتها لتنحشر داخل الزحام الهائل وسط السكارى والصعاليك، الذين يملئون الحافلات في مثل هذا الوقت والذين ينظرون إليها نظرة الوحوش الكاسرة إلى فريسة شهية...

الساعة الآن تشير إلى السابعة والنصف، وعليها أن تقطع نحو ثلاثين دقيقة لتصل إلى «حي أورير» وهو حي حديث النشأة مازال يفتقر إلى أبسط الوسائل الضرورية كالكهرباء والماء و ... هذا إذا لم تتعرض الحافلة إلى أي عطب في الطريق كعادتها. فيضطر الراكبون إلى مغادرتها في منتصف مشوارهم وسط الليل الدامس. فخديجة تدعو الله من كل قلبها أن تصل الناقلة قبل الثامنة وأن لا تتعطل في الخلاء المقفر ككل يوم. لكن الحافلة أبت أن تخالف طبيعتها. فما إن شارفت الوصول حتى سمع صخب ودوي هائل. أدرك الجميع أنه صوت المحرك الذي يعلن عن احتضاره. لينزل السائق وهو يسب وينفخ

وليصرخ في غضب:

 هيا انزلوا! وليبحث كل واحد منكم على وسيلة الوصول، أخ هذه الخردة لم تعد تصلح لشيء!؟

وهكذا تتردد بعض الأقدام النسائية، التي شاء القدر أن تطأ الحافلة العمومية، متحاشية حافلة الخواص لأنها تزيد بثلاثة دراهم، في النزول لكنها، لا تلبث أن تنزل لتنتظر مع المنتظرين وصول حافلة أخرى لا تقل عن التي توقفت في شيء. ولأول مرة تصل الحافلة الأخرى بعد مرور ساعة من الزمن. لكنها مملوءة عن آخرها؟ ليتعلق المتعلقون، فمن كانت له قوة ساعد ركب، ومن عجز عن اختراق الزحام الشديد بقي قابعا هنالك في انتظار عابر سبيل أو سيارة أجرة أو حتى «كرويلا» [1] إن أمكن.

لقد تمكنت خديجة من الصعود إلى الناقلة بعد جهد جهيد. لأن راكبها يكاد الاختناق من هول الزحام، لا لأنها من أصحاب السواعد بل لأن خوفها من البقاء في الخلاء مدها بالقوة للتعلق وللتدافع والتلاكم حتى تصل إلى البيت قبل التاسعة على الأرجح.

 أف! أخيرا وصلت!

هكذا قالت خديجة وهي ترتدي حذاءها، إذ كانت شبه حافية من هول ما قاسته من وطئ الأقدام داخل الحافلة لتستحث الخطى إلى بيتها المنعزل متلمسة طريقها وسط شارع لا أنوار فيه، وما إن وصلت إلى مؤخرة الشارع، حتى اعترض طريقها أربعة لصوص يبدو عليهم الجشع والقسوة، وكلهم كالأشباح من هول الظلام، لكن السلاح الأبيض الذي كانوا يحملونه كان واضحا إلى حد ما.

 أجي دوري مع هاذ القنط! [2]

حاولت خديجة الصراخ، لكن أحدهم شدها من شعرها وعيناه تتقد شرا ولهجة التهديد كانت بادية في بحة صوته.

 تزيدي كلمة وحدة راكي ميتة؟! [3]

تمالكت «خديجة» نفسها وانصاعت لأوامره على أمل النجاة أو الهرب، لكنها ما إن شارفت ركن الشارع المظلم حتى انقض عليها أحدهم. حاولت مقاومته دون جدوى، إذ سرعان ما أغمي عليها من هول المفاجأة ومن هول التعذيب الجسدي الذي تعرضت له ... لقد كان الألم أقوى من التحمل وكانت الفضيحة أفزع من الموت ...

في صباح اليوم التالي، وجدت جثتها مدرجة بالدماء عارية، وحقيبة كتبها وبقايا ملابسها متناثرة هنا وهناك. رغم محاولة والدها معرفة الجاني، فإنه لم يفلح. ولم يعد له وجه ليلقى به الناس في الشارع إذ سرعان ما أدانوا الفتاة لا لشيء إلا لأنها المدانة دائما. رغم أن سمعتها كانت تشق الصخر. رحل والدها وهو يحمل الحسرة المرة والضياع المؤلم بين جوانحه، وكلما تذكر وحيدته انفطر قلبه. ومافتئ الناس أن رددوا خبر جنونه وسرعان ما شوهد وسط الشوارع وهو يردد في أسى وحزن دام:

 «لقد كانت ضحية الضمائر الميتة، لقد كانت ضحية القوانين الجائرة، لقد كانت ضحية العلم المعاصر، خديجة ابنتي... ابنتي...» ثم يغرق وسط دموعه في حزن وكآبة.


[1عربة

[2تعالي إلى هنا. إلى ذلك الركن

[3إدا أضفت كلمة واحدة. فأنت ميتة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى