الأحد ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٢٤

قراءة في المجموعة القصصية «القرية المهجورة»

محسن الورداشي

تعد القرية المهجورة مجموعة قصصية للقاص المغربي محمد الورداشي، صدرت عن دار ديوان العرب للنشر والتوزيع-مصر سنة 2020، وتقع المجموعة في مئة وعشرين صفحة من الحجم المتوسط، وجاءت مقسمة على عشر قصص، في مقدمتها القصة المعنونة ب" دموع السماء"، وفي خاتمتها القصة المعنونة ب"نحو ثورة جديدة".

قراءة في العنوان:

يتكون العنوان من لفظتين هما القرية المهجورة، تشكلان، من الناحية التركيبية، مركبا وصفيا يضم موصوفا وصفة، أما دلاليا، فإن اللفظتين مؤشرتان على بنية دلالية كبرى تساعد القارئ على فهم دلالات المجموعة، إذ كلمة "القرية" دلالة على مكان جغرافي، وإن شئنا قلنا مكان الإنسان البدوي المعزول عن العالم الحضري، والذي له تقاليده وعاداته ونمط عيشه.

أما الصفة "المهجورة"، فإنها لفظة تحيل على الترك والعزلة، لأن الهجرة أضحت السبيل الوحيد للبحث عن سبل عيش كريم، وتحقيق أهداف اجتماعية وثقافية، ورغبة في النجاة من الفقر والعوز، والسعي الحثيث إلى التحرر من ربقة التقاليد والأعراف البائدة التي تعيق حركة الإنسان البدوي في عالم ينزع نحو أساليب الحضارة وأنماط العيش الجديدة التي تفرضها، فضلا عن قيمها التي اكتسحت العالم المتمدن.

موضوعات المجموعة:

تضم المجموعة جملة موضوعات تزخر بها حياة الإنسان وجدليته مع واقعه المعيش، مثل: الفقر، البطالة، الحرمان، الجوع، الموت، الحنين، الجهل، المرض، الحب، الأحلام..إلخ، وكلها تصور لنا وقائع الذات الإنسانية الجريحة؛ إما بسبب الأزمات الاجتماعية والاقتصادية (البطالة، الفقر، الحرمان، الجوع...)، أو بسبب الحنين إلى قيم وذكريات ماضية، أو التشوف نحو مستقبل مغاير لماضي وحاضر الذات الإنسانية (الحب، الأحلام...).

الشخوص:

تعد الشخوص عنصرا بنائيا ضروريا لكل بناء سردي للأثر الأدبي؛ ذلك أنها حجر الأساس الذي ينجز الأحداث والأفعال داخل عالم الحكي، كما أن هذه الأحداث والأفعال تتبلور من خلال عنصر الشخوص. هكذا، نجد أن الشخوص، في المجموعة قيد القراءة، نوعان : شخوص ثانوية ليست لها أهمية كبيرة في تحريك أحداث القصص، وفي المقابل ثمة شخوص رئيسية تلائم زمان ومكان تبلور فعل الحكي، وتشغل دورا أساسا في بناء الأحداث. من هذه الشخوص: الشيخ عبد القادر المصون، المقدم، عمر، محمد..إلخ، ومن ثم تتضح لنا دقة الكاتب في اختيار شخوصه استجابة لأحداث القصة والقيم التي تنتجها أو تعيد إنتاجها بغية ترسيخها تارة، وتفكيكها ونقدها تارة أخرى.

مسار الأحداث:

يجري مسار الأحداث بشكل مستقيم من البداية إلى النهاية، وفق رغبة السارد في سرد الأحداث. وبهذا يبدو مسار الحكي في المجموعة خطا تصاعديا؛ إذ إن كل بداية تقود القارئ تجاه العقدة-المشكلة التي بدورها تحمل بذور النهاية.

الزمن في المجموعة:

وظف الكاتب أزمنة عدة في مجموعته، بحيث تخضع لصيرورة بناء الحدث في القصة، ونجد هنا جدلية الأزمنة من قبيل: الزمن الفيزيائي(الصباح المساء الصيف الخريف الفجر...)، والزمن التاريخي( التضحية بالنفس الفشل الثورة...)، ثم الزمن النفسي (الخوف، الانتظار، الشوق، الحيرة، الألم، الحزن، الخيبة...)، إذ إن هذا الزمن النفسي هو المهيمن في المجموعة؛ فالأحداث التي تقع فيه تصور الحالة النفسية لأهل القرية المهجورة التي تبعث الشفقة في نفسية القارئ، وتحمله على التعاطف مع شخوصها وما تعانيه من مصائر متشابكة ومعقدة.

الفضاء:

تحتوي المجموعة على العديد من الأمكنة، فهي تتعدد بتعدد أفعال الشخصيات، ما يجعل هذه الأمكنة تشكل فضاءين مختلفين في الأبعاد والدلالة. فالفضاء الأول هو القرية، ويضم (الأطلال، الودي، الجبل، الحقول، بساطة العيش، التعايش). وأما الفضاء الثاني فهو المدينة التي تحتوي على( البنايات، الشوارع، الحدائق…). فمن خلال هذين الفضاءين المتقابلين، استطاع الكاتب أن ينقل للقارئ تلك الاختلافات البنيوية والاجتماعية والقيمية بين القرية والمدينة. الشيء الذي جعل المدينة حاضنة لبعض القيم والسلوكات من قبيل : انحلال القيم الإنسانية وفقدها لجدواها باعتبارها وسيلة لخلق التماسك الاجتماعي والإنساني، وتوحيد سلوك الأفراد وتوجيهه نحو قيم وأهداف مشتركة، والهوة بين الفقراء والأغنياء، كما نجد، في المقابل، الوعي الشقي الثائر على العادات والتقاليد والمعتقدات البالية (ثورة عمر على العادات الظالمة).

الحوار:

إن المجموعة تضم نوعين من الحوار: حوار داخلي نفسي، الذي يدور بين الشخصية ونفسها مثل قصة "الثائر عمر"(هنا سأبني قصرا...)، وحوار خارجي يتم بين الشخصيات. فهذان النوعان من الحوار يضيئان الحالة النفسية والاجتماعية للشخوص، علاوة على الصراع ذي التجليات المتعددة الذي يحرك العلاقات بين الشخوص في حركة جدلية مستمرة من بداية المجموعة القصصية حتى نهايتها.

الوصف:

نجد أن الكاتب قد وظف الوصف بشكل ملحوظ في مجموعته، وهذا يعرب عن كونه يعلم جيدا شخصياته، ومنها يقدم صورة متكاملة ومعرفة حول حالها الاجتماعية والنفسية، كما عمد إلى توظيف أسلوب التشويق؛ إذ جعل بواسطته القارئ يتحمس لقراءة المجموعة القصصية حتى يبلغ النهاية دون ملل أو كلل.

ختاما

لا يسعنا إلا القول إن القرية المهجورة عمل قصصي بامتياز؛ لما تضمنه من مقومات سردية قصصية مختلفة، كما أن الكاتب اعتمد في حكي قصص مجموعته لغة سردية فصيحة، باستثناء حضور خافت لبعض التعابير الدارجة المغربية، وهذا جعل الأمر يسيرا على المتلقي في فهم المضمون، كما يوضح هذا حنكة الكاتب في جذب اهتمام القارئ. فالقرية المهجورة تجعل القارئ يتصور الأحداث كأنه يعيشها من خلال سطورها.

وتظل هذه القراءة البسيطة مجرد محاولة قد لا تستوفي المجموعة حقها، كما نأمل أن نقوم بقراءة أخرى لها في قادم الأيام.

محمد الورداشي

هل صمت المثقف آية على انهزامه؟

يأتي هذا السؤال في سياق ثقافي يعاني أزمة بنيوية حقيقية، ومتجذرة في أعماق الفعل الثقافي، بل في الممارسة الثقافية الحالية التي لم ترق إلى مستوى تطلعات بلد يسعى إلى إحداث تقدم وتطور في مختلف مجالاته السياسية والاقتصادية والاجتماعية؛ ذلك أن لهذه الأزمة طابعا أخطبوطيا يجعل من إمكانية حلها عملا جبارا يستدعي مجهودا جماعيا، وليس عمل فرد أعزل لا يملك إلا الكلمة التي كانت سلاحه المعتاد في سبيل التغيير والتجديد. ففي هذا السياق المتأزم، تظهر أصوات من مختلف الفئات والطبقات الاجتماعية تطالب بكلمة المثقف بصدد ما يجري في بلده، وتنظر منه حلا سحريا سريعا لأزماتها المزمنة، ولعمري إن هذا ضرب من اليوتوبيا التي تمنع الأفراد، على اختلاف مستوياتهم ومنسوب وعيهم، من التفكير الجاد والمستمر في الأزمة، والعمل على تفكيكها وتبسيطها بغية وضع الإصبع على مكمن الداء ومصدره، ومن ثم، الإسهام في التغيير والتجديد المطلوبين من قبل مختلف الفاعلين الاجتماعيين والثقافيين.

تمثل صورة المثقف أمامنا كلما توغلت الأزمة في حياتنا، وحاصرتنا مظاهرها وتجلياتها السلبية من كل ناحية، بيد أننا لم نتساءل، تساؤلا بريئا غير مؤدلج، عن أسباب صمت المثقف، وغيابه الطويل عن المشهد الثقافي العام.

يعلم من قرأ كتاب الفيلسوف الكندي آلان دونو "نظام التفاهة" أن هذه الأخيرة داء منتشر في كل المجالات والممارسات المختلفة، وأنها نظام مقصود ذو توجهات وأهداف مخطط لها. لعل هذا النظام الذي اكتسح المشهد العام، وجعل التافهين يحسمون المعركة على حد تعبير آلان دونو، يدفعنا إلى التساؤل عن مدى فعالية المثقف، أي فعالية كلمته التي تعد سلاحا له؛ لأن بها يعبر عن تصوراته وأفكاره حول قضايا مجتمعه، وهي وسيلته لمخاطبة الفاعلين السياسيين والثقافيين، وبوصلته التي يوجه بها الرأي العام نحو الصالح العام، ويطلعه على حقيقة ما يجري حوله، ومن ثم تنبيهه إلى النتائج التي يمكن أن تترتب على التحديات والأزمات التي تواجهه، وتؤثر على مسيرته تقدمه الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي والسياسي.

بم ستفيد الكلمة الأعزل إن لم تجد تربة خصبة ومناخا ملائما؟ من يسمع صوت المثقف في زمننا الراهن؟ ومن يحس صمته وغربته واغترابه عن مجتمعه؟ ألأن الأفراد قد طبعوا مع الوضع السقيم الذي يتجرعون ويلاته، أم أن ثمة خيبة أمل متبادلة بين المثقف وأفراد مجتمعه؟

يترتب عن السؤال الأخير القول إن هذه الخيبة متبادلة بالفعل؛ ذلك أن المثقف تلمّس اللا جدوى كلمته وعدم فعاليتها في الأذهان والأفهام، ومن ثم لاذ إلى مراقبة المشهد العام من بعيد، وليس من برج عاجٍ ما دام المثقف منشغلا، ولو من مسافة بعيدة، بما يجري داخل مجتمعه لأنه فرد من أفراده، ولعله ينتظر بصيص أمل يتراءى له في الأفق البعيد. أما عن الأفراد، فإنهم سايروا التوجهات التي تتهم المثقفين بالخيانة والتنصل من مهامهم تجاه مجتمعاتهم، وحكموا على المثقف، نتيجة تهمة الخيانة، بأن له أهدافا ومآرب شخصية تمنعه من قول كلمته التي تزعج المسؤولين والمهتمين بالشأن العام.

نميل إلى القول إن الأزمة الثقافية، وهي مربط الفرس في هذا المقال، أزمة بنيوية ومتجذرة في قلب الممارسة السياسية الثقافية، وفي صلب توجهاتها العامة؛ إذ إن أزمة الثقافة تتغذى من توجهات وأهداف جهات معينة، ما دامت قد توغلت في مفاصل المجالات الاجتماعية. فأن تجد التفاهة في التعليم، والإعلام، والسياسة، والمجتمع.. إلخ، فهذا يدل على كون الأزمة أكبر من فرد أعزل، أي من مثقف يرى نفسه شمعة احترقت بما فيه الكفاية حتى تضيء ليل مدلهما لكائنات مغتربة وشاردة أمام ما يجري حولها. لهذا، نرى أن صمت المثقف ليس دليلا على فشله واستسلامه، وليس فعلا ناتجا عن خيانة أو الحفاظ على مكانة اجتماعية وسياسية واعتبارية، وإنما يعزى الأمر إلى انتظار فرصة مناسبة تتيح الكلمة للأفراد الاجتماعيين وللمثقفين على حد سواء؛ لأن نهاية الأزمة الثقافية ترتبط، في جانب كبير منها، باختيار اجتماعي وثقافي يشترك فيها الطرفان المعنيان بالتغيير والتجديد.

يبدو أن كلامنا لا يعفي المثقف من دوره، كما أنه لا يبرئه مما يجري الآن، وإنما يهدف إلى إطلاع الجماهير على كونها معنية بأي تغيير ثقافي اجتماعي، وأن المسؤولية منقسمة بين المثقف وأفراد المجتمع، والتعاون على بناء فعل ثقافي جاد ومتين، يقصد إلى التغيير والتجديد الجذريين والمنتظرين. وهكذا، نقول إن للمثقف واجب الإنصات لهموم مجتمعه والتفاعل مع قضاياه، وإن على أفراد المجتمع تحمل مسؤولية تجويد الفعل والممارسة الثقافيين، ومناقشة تصورات المثقف واقتراحاته في ما يتعلق بسبل الإصلاح والتجديد.

يبقى السبيل الأساس لحل أي أزمة مجتمعية هو تقريب الشقة بين مختلف الفاعلين السياسيين والثقافيين والاجتماعيين؛ بهدف تحديد أهداف مشتركة تخدم الصالح العام، وليست إرضاء مبتذلا للخواطر والنزعات الأدلوجية المتضاربة؛ لأن هذا الإرضاء من شأنه أن يسهم في تمييع الفعل الثقافي، وجعل الفاعلين يتنصلون من مسؤولياتهم برميها على هذا الطرف أو ذاك بحسبانه سببا للنتائج الراهنة.

سنكون مسؤولين عن تقدم مجتمعنا وصون فعله الثقافي حينما نقر في أعماقنا أننا مسؤولون عن الأوضاع الحالية، ومساهمون في التطبيع معها بشكل أو بآخر.

محسن الورداشي

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى