قوّةُ الحكمةِ وقوّةُ السّيف
ما أكثرَ القصصَ الّتي تَفيضُ بالحِكمِ والعِبر، وما أكثرَ أحداثَ الدّهرِ والأيّامَ الحُبلى بها، تفيضُ من قلبِ التّاريخ وتتدفَّقُ على ألسنةِ الأيّامِ والرُّواة، وفي طيّاتِها تمتدُّ سيوفُ الغباءِ والغطرسةِ والاستبدادِ على رقابِ الحكمةِ والعقلِ والفكرِ ؛ لتَغتالَ أشعَّتَها الوضَّاءةَ مثلَ أشعَّةِ الشَّمس، فينكسرُ سيفُ الظُّلمِ والطُّغيان، ويظلُّ بريقُ الحكمةِ يتدفَّقُ بالنُّور مع الأيّامِ والأزمان، يموتُ صوتُ الباطلِ بلعنةِ التّاريخ، ويَحْيا صوتُ العدلِ والحقِّ والحِكمة..
وها هي صفحاتُ التّاريخِ تنضحُ بأروعِ قصص العدلِ والحكمة تارةً من فكرِ وزيرٍ حكيمٍ عادل، وتارةً من نكتةٍ شخصيَّةٍ أسطوريّة أبدعَتْها أفهامُ العامّةِ لترويَ لنا حكاياتِ الغباءِ والقوّة، وترسمَ لنا بطولاتِ الحكمةِ وانتصاراتِ الفكرِ على الجهل!
وها أنا أستمدُّ بعضَ تلك القصصِ برواياتِها الشَّعبيّةِ أو مأثوراتِها الأدبيَّةِ والفكريّة؛ لأُنيرَ ظلماتِ بعضِ صفحاتِ مجدِ القلم، وأُسدلَ السِّتارَ على أوهامِ قوَّةِ السَّيف.
وممّا جاءَ من تلك الحكاياتِ في قصّةِ ملكٍ مستبدٍّ أنّه أرادَ أن يمتحِنَ وزراءَه؛ ليتخلَّصَ من حكمائِهم، فطلبَ منهم أن يُعلِّمُوا حمارَه القراءةَ، فتبرَّمَ الوزراءُ بالمهمَّةِ، وقُتِل بعضُهم ظلماً لصعوبةِ المهمّة، لكنّ وزيراً حكيماً تصَدّى لغباءِ الملكِ وظلمِه وبطشِه بوزرائِه، وأرادَ أن يُنقِذَ حياتَه وحياةَ أقرانِه من الوزراءِ، فقال للملكِ: أنا مَن أستطيعُ تعليمَ حمارِكم القراءةَ سيّدي الملك، ولكنّ الأمرَ بحاجةٍ إلى مبلغٍ كبيرٍ من المالِ وفترةٍ زمنيَّةٍ قد تمتدُّ إلى عقدينِ من الزّمن، فأجاب الملكُ طلبَه، لكنَّ الملكَ نبَّههُ إلى النَّتيجةِ المنتَظرةِ بقطعِ رأسِه، فلم يبالِ الوزيرُ بالنّهاية.
حينَما علِم بعضُ الوزراءِ العقلاء بالمهلكةِ الّتي وضعَ الوزيرُ الحكيم رقبتَه تحت سيفِها البتَّار، نصحُوه بأن يعدلَ عن مهمَّتِه المستحيلةِ، ضحِك الوزيرُ من ضحالةِ فكرِ زملائِه قائلاً: المهمَّةُ أسهلُ ممّا تتصوَّرون، فقد قبضْتُ مُرتَّباتي لعشرينَ عاماً أضعافاً مضاعفةً، أعيشُ فيها سعيداً مرفَّهاً، والنَّتيجةُ محسومةٌ لا يُساورُها شكٌّ، فإمّا أن يموتَ الملكُ، وإمَّا أن أموتَ، وإمّا أن يَنفقَ الحمارُ، فهل من خوفٍ بعد ذلك على رقبَتي من حدِّ السَّيفِ؟ سُرَّ الوزراءُ النّاصحون من حكمةِ صديقِهم، وأثنَوا عليه.
ونجدُ لهذه القصّةِ روايةً شعبيَّةً أخرى تُروى على لسانِ جحا، تلك الشَّخصيَّةِ الفكاهيَّة الّتي تتبادلُها آدابُ العالمِ على اختلافِ لغاتِها ومواطنِها، وهي تصوِّرُ حكمةَ جحا في الانتِصار على سطوةِ السَّيفِ الّتي يمثِّلُها تيمورلنك، وهو قائدٌ تركيٌّ منغوليّ من بلادِ ما وراءَ النّهر (أوزبكستان)، لم يُهزمْ في معركةٍ قطُّ، وكان راعياً للعلمِ والفنِّ، وربَّما نُسبِت القصّةُ إليه ظلماً وتزويراً، كما نُسبِت قصصُ التَّزوير والتّشويهِ حول الخليفةِ العبّاسيّ هارونَ الرّشيد من خلال شخصيَّةِ أبي نُوَاس والجَواري، وقصصِ حريمِ السُّلطان حول القائدِ العثمانيِّ الكبيرِ السُّلطان سليمانَ القانونيّ من خلال ما أنتجَتْه سينَما سلاطينِ العربِ للتَّعميةِ على قصصِ حريمِهم الّتي لا تخفَى إلّا على المغفَّلين.
فقد رُوي في قديم الزّمان، أنّه كان للملكِ تيمور لنكِ حمارٌ أهداهُ إيّاه بعضُ النّاس، للتَّقرُّب إليه، ونيلِ الحظوةِ عندَه، فقبِلَ الملكُ تيمور هديَّتَهم، وأراد الملكُ تمييزَ حمارِه عن بقيّةِ حميرِ المدينة، فخطرَت على بالِه فكرةُ تعليمِ حمارِه القراءةَ، فطلبَ من المنادي أن يُعلنَ في المدينة كلِّها هذا النَّبأَ، ومن يتبنَّى حمارَه بالتَّعليمِ ينالُ مكافأةً كبيرة، وإن فشلَ في المهمَّة فالجزاءُ قطعُ الرّقبةِ بالسّيف، فأخذَ المنادي يجوبُ شوارعَ المدينة كلِّها، ويُعلنُ عمّا أرادَه السّلطانُ، فتقدّمَ جحا لتلك المهمَّةِ الصّعبة!
قابلَ جحا الملكَ، وطلبَ منه الحمارَ؛ لكي يتولّى تعليمَه القراءةَ في منزلِه، فدُهِش الملكُ من تصرّفِ جحا وشجاعتِه، فذكَّرَه بالعاقبةِ الّتي تنتظرُه.
فأخذَ جحا حمارَ الملكِ إلى دارِه، وأحضرَ كتاباً كبيراً من عدّة صفحاتٍ، وكان يضعُ بين كلِّ صفحةٍ وأخْرى بعضَ الشّعيرِ والبرسيم، فإذا جاعَ الحمارُ راح يقلِّبُ له صفحاتِ الكتاب، ليأكلَ ممّا بينَها، وأخذَ جُحا يدرّبُ الحمارَ على تناولِ الطَّعام بين صفحاتِ الكتاب، حتّى رسخَت الفكرةُ في ذهنِ الحمار ، فكان يقلّبُ الصفحاتِ بلسانِه، ثمّ يأكلُ ما بينَها.
جاءَ يومُ الاختبار، فجمعَ الملكُ تيمور النّاسَ في الميدان، ليَروا ما فعلَه جُحا بالحِمار، وهل أفلحَ في تعليمِ الحمار أم فشلَ في مهمَّتِه؟ حضرَ جحا ومعَه حمارُ السُّلطان، وقد كان الحمارُ متضِّوراً جُوعاً، فوضعَ جحا الكتابَ الكبيرَ أمامَ الحمار ، دون أن يَنثرَ بين صفحاتِه أيَّ طعامٍ، فلمّا رأى الحمارُ الكتابَ توجَّه نحوَه مسرعاً، وراح يقلِّبُ صفحاتِه بلسانِه بحثاً عن الطَّعام الّذي اعتادَ عليه..
انبهرَ الملكُ والحاضرونَ بما رأَوهُ، وأخذُوا يصفِّقُون للحمار ظنّاً منهم أنّه يقلّبُ صفحاتِ الكتاب ليقرأَ، وهكذا نجحَ جُحا في مهمَّتِه وأفلتَ من سيفِ العِقاب، وسُرَّ السُّلطانُ سروراً بما حقَّقَه من إنجازٍ عظيم بتعليمِ حمارِه الّذي باتَ فريداً من نوعِه بين حميرِ المملكة، فمنحَ جُحا مكافأةً كبيرةً من المال لقاءَ تعليمِه الحمارَ القراءةَ حسبَما رآهُ الملكُ دون إدراكِ الحقيقة.
ومن الحكمِ الّتي رُويَت من سيَر الملوكِ والوزراءِ حِكمُ الوزيرِ الفارسيِّ بُزَرْجَمَهر وهو وزيرُ كِسرى الأوّل أنوشروان (حكَم 531-578)، وجاء ذكرُه في الأدبِ الفارسيِّ، ولا سيَما في الشَّاهْنامه، رجلاً حكيماً يستشيرُه القريبُ والبعيد، والعامّةُ والخاصّة.
وممّا جاء في طيّاتِ صفحاتِ الشَّاهنامه من حكَم الوزيرِ الحكيمِ العادل أنّ كسرى أنوشروان رأی فی منامِه أنّه يشربُ خمراً فی جامٍ من ذهبٍ، وأنّ وخنزيراً یكرعُ الماءَ معه فی ذلكَ الجام، فراح يبحثُ عن تفسيرِ ذلك المنامِ دون أن يعرفَ أحدٌ مغزى ذلك الحلُمِ، فأشاروا له إلى ذلك الحكيمِ بُزرجَمهر، فأرسل في طلبِه، فدخل بزرجمهرُ قصرَ أنوشروان، فطلبَ كسرى إليه تفسيرَ المنام، فأجابهُ بأنّ تفسيرَه لا يكونُ إلّا في خلوةٍ بينهما. فأمرَ كسرى بإخلاءِ المکان. فقال بزرجمهرُ: إنّ بين نسائِك وجواریك رجلاً. وكانت لأنوشروانَ امرأةٌ من بناتِ الملوكِ تعشقُ غلاماً، فتكسوهُ كِسوةَ الجواري حتّى تلتقيَ به، ولا يَعرفُ أمرَه أحدٌ، فلمّا مرّت النساءُ والجواري أمامَ كسرى متجرِّداتٍ، انكشفَ أمرُ الغلام، فأمرَ بقتلِه مع عشيقتِه زوجةِ كِسرى، وأُعجِبَ كسرى بفطنةِ بزرجمهرَ وحكمتِه رغمَ حداثتِه، واستخلَصهُ لنفسِه.
ومن أشهرِ حكمِ ووصايا بزرجمهرَ لكِسرى أنو شروان الّتي خلَّدَها التَّاريخُ، وقد فاضَت بها قريحتُه حينَما جلس أنو شروان يوماً للحُكماء؛ ليأخذَ من آدابِهم. فقال لهم وقد أخذُوا مراتبَهم في مجلسِه: دلُّوني على حكمةٍ فيها منفعةٌ لخاصّةِ نفسِي وعامّةِ رعيَّتي. فأدْلى كلُّ حكيمٍ بما عندَه من رأيٍ، وأنو شروانَ مُطرقٌ يفكّرُ في أقاويلِهم. وكان أجملَ ما وقعَ عليهِ وصيّةُ بزرجمهرَ ، فأمرَ أن تُكتبَ بالذّهبِ، وقال: هذا كلامٌ فيه جميعُ أنواعِ السّياساتِ الملوكيّة. وهذا نصُّ الوصيَّة:
"أيُّها الملكُ، أنا جامعٌ لك ذلكَ في اثنتَي عشرةَ كلمةً:
أُوْلاها: تقْوَى اللهِ في الشّهوةِ والرّغبةِ والرّهبة والغضبِ والهوى، فاجعلْ ما عرضَ من ذلكَ كلِّه للهِ لا للنَّاس.
والثّانيةُ: الصّدقُ في القولِ، والوفاءُ بالعِدَاتِ والشّروطِ والمواثيق.
والثّالثةُ: مَشُورةُ العلماءِ فيما يَحدثُ من الأمور.
والرّابعةُ: إكرامُ العلماءِ والأشرافِ وأهلِ الثّغور والقوَّاد والكتّاب والخَوَل، بقدرِ منازلِهم.
والخامسةُ: التَّعهُّد للقُضاة، والفحصُ عن العمَّال، ومحاسبتُهم محاسبةً عادلةً، ومجازاةُ المحسِنِ منهم بإحسانِه، والمسيءِ على إساءتِه.
والسّادسةُ: تعهُّدُ أهلِ السّجون بالعرضِ لهم في الأيّام، يستوثقُ من المسيءِ ويُطلِق البريءَ.
والسّابعةُ: تعهُّدُ سبُلِ النّاس وأسواقِهم وتجارتِهم.
والثّامنةُ: حسنُ تأديبِ الرّعيَّةِ على الجرائمِ وإقامةُ الحدود.
والتّاسعةُ: إعدادُ السّلاحِ وجمعُ آلاتِ الحرب.
والعاشرةُ: إكرامُ الولدِ والأهلِ والأقارب، وتفقُّدُ ما يُصلِحهم.
والحاديةَ عشرةَ: إذكاءُ العيونِ في الثّغور لعلمِ ما يُتخوَّفُ، فتُؤخذُ له أُهبتُه قبل الهجْمة.
والثّانيةَ عشرةَ: تفقُّدُ الوزراءِ والخَول، والاستبدالُ بذوي الغِشّ والعجزِ منهم."
وقد رُوي أنّ كسرى سخطَ ذاتَ يومٍ على بزرجهمرَ، فحبسَه في بيتٍ مُظلم، وأمرَ أن يُصفَّدَ بالحديد؛ فبقيَ أيّاماً على تلكَ الحالة، فأرسل إليه مَن يسألُه عن حالِه، فإذا هو منشرحُ الصّدرِ مطمئِنُّ النَّفسِ، فقالُوا له: أنت في هذه الحالةِ من الضّيقِ ونراكَ ناعمَ البال!
فقال بزرجمهرُ: اصطنَعتُ ستّةَ أخلاطٍ وعجنتُها واستعملتُها، فهي الّتي أبقَتْني على ما ترَون! قالُوا: صِفْ لنا هذه الأخلاطَ لعلَّنا ننتفِعُ بها عندَ البلْوى:
فقال: نعمْ.
أمّا الخِلْطُ الأوَّل: فالثِّقةُ باللهِ عزَّ وجلَّ.
وأمّا الثّاني: فكلُّ ما شاءهُ اللهُ كائنٌ.
وأمّا الثّالثُ: فالصَّبرُ خيرُ ما استَمْهل الممتَحَنَ.
وأمّا الرّابعُ: فإذا لم أصبِرْ فماذا أصنعُ ولا أُعينُ نفسي بالجزعِ؟
وأمّا الخامسُ: فقد يكونُ أشدَّ ممّا أنا فيه.
وأمّا السّادسُ: فمِنْ ساعةٍ إلى ساعةٍ فرجٌ.
فبلغَ ما قالهُ كسرى؛ فأطلقَهُ وأعزّهُ.
إلّا أنّ الحكمةَ قد تكون ضحيّةَ الغباءِ أو خبثِ الكائدينَ والحاسدينَ أو الظّلمِ والاستبداد، فها هو الوزيرُ الحكيمُ العادل يلقَى حتفَه على يدِ كِسرى الثّاني حفيدِ أنوشروان الّذي أمرَ بقتلِ بزرجمهرَ؛ لأنّ الوشاةَ حول كِسرى لم يدَعُوه وشأنَه. فأعدمَه كِسرى على مرأَىً من النّاسِ وأمام ناظريّ ابنتِه.
لكنّ حكمةَ هذا الوزيرِ العادلِ الّتي أسقطَت أسطورةَ كلِّ كِسرى، فخلّدهُ التّاريخُ، وكُتِبت حكمُه بالذَّهبِ وفاضَت سيرتُه بهاءً وجلالاً على ألسنةِ الشّعراءِ والكتّاب، فها هو شاعرُ القطرينِ خليلُ مطران يخلّدُ ذكرى الوزيرِ الحكيمِ بزرجمهرَ في قصيدةٍ من غُررِ القصائدِ العربيّة (مقتلُ بُزَرْجَمَهْر):
إذْ يبدأُ الشّاعرُ قصيدتَه بذمِّ الفرسِ في عهدِ كِسرى من خلالِ وصفِهم بالذُّلِّ والعبوديّةِ والسُّجودِ لكِسرى، وقد كانُوا قدماً أمَّةً عريقةً برجالِها ووقائعِها، لكنَّهم بدَوا في زمنِ كِسرى أصاغرَ كالسِّخالِ الضّعيفةِ، وقد منحُوا ملكَهم المستبِدَّ النّفسَ والملْكَ والعِرضَ والكرامةَ: فما أقْسى هذا اليومَ الّذي قُتِل فيه بزر جمهرُ، وقد استجابَت الجماهيرُ المستكينةُ لأمرِ الملكِ وانطلقَت مسرعةً لتشهدَ مصرعَ الوزيرِ العادل!
سَجَدُوا لِكِسْرَى إِذْ بَـــــدَا إِجْـــلاَلاَ
كَسُجُودِهِمْ لِلشَّــــمْسِ إِذْ تَتَـــــــلاَلاَ
يَا أُمَّةَ الْفُرْسِ الْعَرِيقَةَ فِي الْعُلَى
مَاذَا أَحَــالَ بِكِ الأسُـــــوُدَ سِـــخَالاَ
كنْتُـــمْ كِبَاراً فِي الْحُــــــرُوبِ أَعِــــــزَّةً
وَالْيــــــوْمَ بِتُّــمْ صَاغِـــــــــــرِينَ ضِئَالاَ
عُبَّاد كِسْرَى مــانِحِيهِ نُفُــــوسَكُمْ
وَرِقَـــــابَكُمْ وَالعِـــــــــــــرْضَ وَالأَمْــــــــوَالاَ
تَسْــــتَقْبِلُونَ نِعَـــــــــالَهُ بِوُجَــــــوهِكُـــمْ
وَتُعَـــــفِّــــــــــــــرُونَ أَذِلَّـــــــــةً أَوْكَـــــالاَ
ثمّ يصفُ تجمُّعَ الحشودِ الغفيرة ليشهدُوا مصرعَ الوزير العادلِ الّذي ملأَ البلادَ حكمةً وعدالة، وقد جاؤُوا بوجوهٍ يغمرُها البِشرُ، وفي حقيقةِ ذواتِها خوفٌ ورعبٌ وحزن، إنّهم يتظاهرُون بالرّضا والسَّعادةِ بينَما هم يكظمُون الغيظَ الشَّديد في نفوسِهم الّتي تضطربُ خوفاً وهلعاً:
يَا يَوْمَ قَتْل بُزَرْجُمَهْرَ وَقَــــدْ أَتَـــــوْا
فِيـــــهِ يُلَبُّـــــونَ النِّــــــدَاءَ عِجَــــــالاَ
مُتَأَلِّبِينَ لِيَشْـــهَدُوا مَـــــــوْتَ الَّذِي
أَحْيَا البِـــــلاَدَ عَـــــدَالَةُ وَنَــــوَالاَ
يُبْدُونَ بِشْراً وَالنَّفوسُ كَظِيمَةٌ
يُجْفِـــــلْنَ بَيْنَ ضُلُـــــوعِهِمْ إِجْفَـالاَ
تَجْلُــــو أَسِــــرَّتَهُمْ بُــــرُوقُ مَسَـــرَّةٍ
وَقُلُــــوبُهُمْ تَــــدْمَى بِهِــــنَّ نِصَــــالاَ
وَإِذَا سَمِعْتَ صِــيَاحَهُمْ وَدَوِيَّهُمْ
لَـــــمْ تَـــــدْرِهِ فَرَحــــاً وَلاَ إِعْــــــوَالاَ
ثمّ يصفُ جبروتَ كِسرى على عرشِه المزخرفِ بالنَّفائس، ولم يكنْ كِسرى ليَطغى لولا خنوعُ الفرسِ وذلُّهم وجهلُهم وجهالتُهم:
وَيَلُوحُ كِسْرَى مُشْرِفاً مِنْ قَصْرِهِ
شَمْساً تُضِيءُ مَهَـــــابَةً وَجَــــلاَلا
شَبَحاً لأُرْمُـــوزَ العَظِــــــــيمِ مُمَــثِّلاً
مَلِـــــكاً يَضُـــــــمُّ رِدَاؤُهُ رِئْبَـــــــالاَ
يزْهُــــــــو بِهِ العَرْشُ الرَّفِيــــعُ كَأَنَّهُ
بِسَــــنَى التَّـــكَبُّرُ فِي ذُرَاهُ مِثَـــالاَ
مَا كَانَ كِسْرَى إِذْ طَغَى فِي قَوْمِهِ
إِلاَّ لِمَـــــا خَلُقُــــــوا
بِــــــهِ فَعَّــالاَ
هُـــــمْ حَكَّمُــــوهُ فَاسْــتَبَدَّ تَحَكُّماً
وَهُــــــــمُ أَرَادُوا أَنْ يَصُولَ فَصَالاَ
وَالجَـــــــهْلُ دَاءٌ قَـدْ تَقَـــادَمَ عَهْدُهُ
فِي الْعــــالَمِينَ وَلاَ يَـــزَالُ عُضَالاَ
لوْلاَ الجَهَـــالَةُ لَمْ يَكُونُــــوا كُلُّهُمْ
إِلاَّ خَـــاَئِقَ إِخْــــوَةٍ أَمْثَـــالاَ
ويصفُ ذلكَ المشهدَ الأليم حينَما أحضرَ الجلّادُ الوزيرَ الحكيم، إذ يُصدر كِسرى أمرَه لأقيالِه وقوّادِه بالجلوسِ، وتتصاعدُ صيحةٌ مدوّية إيذاناً بإحضارِ الضَّحيّة.. فها هو ذا الوزيرُ يصلُ إلى ساحةِ الإعدام يقودُه جلّادُه المتكبّرُ وهو يَمشي في غرورٍ وصلفٍ، وراحَت الجماهيرُ تتجمَّعُ وتتفرّقُ في كلِّ جيئةٍ وذهاب، كأَنّها أمواجُ البحرِ المتلاطمةُ المتعاقبةُ، وقد غضبَ الملكُ عليه بعدَ أن قدّم لهُ نصيحةً صادقة فانتقم منهُ ظلماً وتعسُّفاً:
وَإِذَا اسْتَوى كِسْرَى وَأَجْلَسَ دُونَهُ
قُــــوَّادَهُ الْبُسَــلاَءَ وَالأَقْيَـــالاَ
صَعِدَتْ إِلَيْهِ مِنَ الْجَمَاعَةِ صَيْحَةٌ
كَادَتْ تُزَلْـــزِلُ قَصْــــرَهُ زِلْـــــزَالا
وَإِذَا الــوَزِيــــــرُ بُزَرْجُمُـــهْرُ يَسُــوقُه
جَــــلاَّدهُ مُتَهَــاديــــاً مُخْــــتالا
وَتَرُوحُ حَولَهُمَا الْجُمُوعُ وَتَغْتَدِي
كَالمَـــــوْجِ وَهْـــوَ مُدَافَــعٌ يَتَتَالَى
سَخِطَ المَلِيكُ عَلَـيْهِ إِثْرَ نَصِيحَةٍ
فَاقْتَصَّ مِنْهُ غَــــوَايَةً وَضَــــلاَلاَ
وها هي الجموعُ الخانعةُ الذّليلة المرتعِدةُ ترفض الشّفاعةَ للوزيرِ العادل حينَما ارتفعَ صوتُ السّيّافِ قائلاً للجماهيرِ: هل من أحدٍ يطلبُ الرّحمةَ للوزيرِ؟ فردّتِ الجماهيرُ الخائفةُ بالرَّفض:
نَادَاهُمُ الْجَلاَّدُ هَلْ مِنْ شَافِعٍ
لِبُزَرْجُمـــهْـــرَ فَقــــالَ كُلٌّ: لاَ لاَ
ثمّ نرى مشهداً حواريّاً رائعاً يصوّرُ ابنةَ الوزيرِ العادل، وقد خلعَت حجابَها متحدِّيةً الجموعَ بأنْ ليس بينَهم رجالٌ حتّى تشعرَ بالحياءِ، وتوجّهُ خطابَها لكِسرى بأنّه أعدمَ الحكيمَ الّذي نصحَه، فليَهنأْ بعدَه في عيشتِه:
وَأَدَارَ كِسْرَى فِي الجَمَاعَةِ طَرْفهُ
فــــرَأَى فَتَــــاةً كَالصَّبَاحِ جَمَــــالاَ
تَسْبِي مَحَاسِنُهَا الْقُلُوبِ وَتَنْثَنِي
عَنْهَا عُيُــــونُ النَّاظِـــــرِينَ كَلاَلاَ
بِنْتُ الوَزِيرِ أَتتْ لِتشْــــــهَدَ قَتْلهُ
وَتَرَى السَّفَاهَ مِنَ الرَّشَادِ مُدَالاَ
تَفْرِي الصُّفُوفَ خَفِيَّةً مَنْظُورَةً
فَرْيَ السَّــــفِينَةِ لِلحِبَابِ جِبَــالاً
بَادٍ مُحَـــيَّاهَا فَــــــأَيْنَ قِنَاعُــهَا
وَعَلاَمَ شَــــاءَتْ أَنْ يَزُولَ فَزَالاَ
لاَ عَارَ عِنْــــدَهُمْ كَخَلْعِ نِسائِهِمْ
أَسْــــــــتَارَهُنَّ وَلَـــــــوْ فَعَــــلْنَ ثَكَالَى
فَأَشَارَ كِسْرَى أَن يُرَى فِي أَمْـــــــرِهَا
فَمَضَى الرَّسُولُ إِلى الفَتَاةِ وَقَالا
مَوْلاَي يَعْجَــــبُ كَيْــــفَ لَمْ تَتَقَنَّعِي
قَالَــتْ لَـــــــهُ أَتَعَجُّــباً وَسُــــــؤَالاَ
أُنْظُرْ وَقَدْ قُتِلْ الحَكِيمُ فَهَلُ تَرَى
إِلاَّ رُسُـــوماً حَــــوْلَهُ وَظِـــــلاَلاَ
فَارْجِعْ إِلَى المَلِكِ الْعَظِيمِ وَقُلْ لَه
مَاتَ النَّصِيحُ وَعِشْتَ أَنْعَمَ بَالاَ
وَبِقيِتَ وَحْدَكَ بَعْدَهُ رَجُلاً فَسُدْ
وَارْعَ النِّسَــــاءَ وَدَبِّـــــــرِ الأَطْفَالاَ
مَا كَانِتِ الْحَسْنَاءُ تَرْفَعُ سِتْرَهَا
لَوْ أَنَّ فِي هَذِي الجُمُوعِ رجَالاَ
وفي الختامِ أقولُ ونفسي مليئةٌ بالأسى والحسرةِ على أممِ الأرضِ الّتي امتلأَت دواوينُها وملفَّاتُها السّرّيّةُ بقصصِ ألفِ بُزرجمهر، وكم في أقبيةِ الأنظمةِ القمعيّةِ من حكماءَ ووزراءَ وعلماءَ وُضِعُوا تحتَ الإقامةِ الجبريّة، وكانت نهايتُهم الحقيقيَّةُ القتلَ والنّحرَ، فاتُّهمُوا بالانتحارِ، وكم من مُصلحينَ وشرفاءَ قتلتْهم أيدي الظّالمينَ ونُسبَت الجريمةُ لطواحينِ الهواء، وكم من مآسي أمّةٍ لبس صنّاعُها المرتزقةُ جلودَ الأسودِ وحملُوا نياشينَ النَّصر، ونُسِبت الهزائمُ لكائناتٍ قادمةٍ من الفَضاء؟!