السبت ١٨ أيلول (سبتمبر) ٢٠١٠
محمد أركون
بقلم أوس داوود يعقوب

كان داعية للخروج من محنة الحاضر

توفي مساء يوم الثلاثاء الماضي (14/أيلول ـ سبتمبر) في العاصمة الفرنسية باريس المفكر والباحث والمؤرخ الجزائري محمد أركون ، عن عمر يناهز 82 عاماً.
ولد أركون عام 1928م ، في بلدة " تاوريرت" في ولاية "تيزي وزو" شرق العاصمة الجزائرية بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، وقد أهتم بدراسة وتحليل الفكر الإسلامي وتميز فكره بمحاولة عدم الفصل بين الحضارات شرقية وغربية واحتكار الإسقاطات على أحدهما دون الآخر، بل إمكانية فهم الحضارات دون النظر إليها على أنها شكل غريب من الآخر، كما تميز بذكاء وبصيرة وعمق التحليل، وحظيت أعماله بالاهتمام الكبير في العالم العربي والإسلامي والأوساط الأكاديمية العالمية ، وكان من أبرز المبادرين بالحوار بين الديانات.

وهو من أشد المفكرين انتقاداً للاستشراق المبني على رفع القداسة عن القرآن الكريم، والتعامل مع القرآن على أنه منتوج بشري، والتشكيك في نسبة النصوص الأصلية في الإسلام (الكتاب والسنة)، ويعتبر كثير من المتابعين العرب، محمد أركون رائداً في مجاله، على الأقل في العالم العربي، حيث أخضع النصوص الدينية، والتراث الديني للتحليل والدراسة وفقاً لأحدث المناهج العملية.

وقد تناول محمد أركون في أبحاثه مسألة التعامل مع الإرث الثقافي والحضاري للشرق والغرب والنظر إليهما دون انفصال، معتبراً أن مهمته الأساسية هي الوساطة بين الفكر الإسلامي والفكر الأوروبي. إلا أنه انتقد النظرة الغربية السلبية تجاه المثقفين المسلمين عامة، رغم انتقاد هؤلاء لمظاهر التشدد الديني.

وتعرض أركون بسبب مواقفه المتحررة، وخصوصاً تلك الداعية إلى قراءة حضارية جديدة للقرآن، إلى انتقادات عنيفة من قبل التيار الإسلامي الأصولي.

وقد احتار النقاد و الباحثون في أية خانة يصنفون محمد أركون، لكنهم أجمعوا على أنه يدعو إلى تجديد الفكر العربي الإسلامي. وهو ينتمي إلى جيل ميشيل فوكو و بيير بورديو و فرانسوا فوريه و هم الذين أحدثوا ثورة "ابستمولوجية" ومنهجية في الفكر الفرنسي. كذلك أحدث أركون ثورة مشابهة في الفكر الإسلامي و العربي، مما ولد بينه و بين الاستشراق الكلاسيكي – الذي ظل مخلصاً للمنهجية الفللوجية- (فقه اللغة) صراعاً بيناً.

صاحب مشروع فكري ومعرفي

تأثر محمد أركون وهو طالب ـ بالجزائر ـ بلوسيان فيفر، لاسيما بمنهجيته في علم التاريخ ، وفي بداياته تأثر أيضاُ بريجيس بلاشير المحترف في فقه اللغة (الفللوجيا) و تعلم منه منهجية تحقيق و تدقيق النصوص و مقارعتها ببعضها البعض و دراستها على الطريقة التاريخية الوضعية، و لم يكتف بذلك لا سيما و أن توجهاته كانت متعددة كنتاج لفضوله الشخصي و مطالعاته الواسعة.

و هكذا اهتم أركون بالتاريخ الوقائعي و التاريخ الاقتصادي و الاجتماعي و السياسي. كما أدخل في دراسته منهجية علم النفس التاريخي بالإضافة إلى علم الاقتصاد.
وفي ستينات القرن الماضي اهتم بمنهجية الألسنيات و على ضوئها قرأ القرآن الكريم والنصوص الإسلامية الكبرى، السيرة النبوية، نص سيرة علي للشيخ المفيد، نهج البلاغة، رسالة الشافعي، نصوص ابن رشد، ابن خلدون و آخرون.

بعد ذلك قام أركون بدراسات ألسنية و تاريخية و أنثروبولوجية و حاول المزج بين عدة مناهج طبقها على التراث العربي الإسلامي. وهي نفس المناهج التي طبقها علماء فرنسا على تراثهم اللاتيني المسيحي الأوروبي.

ويعد أركون صاحب أحد المشاريع الفكرية والمعرفية الهامة في مشروعنا الثقافي الحضاري، والذي استهدف بالأساس فتح آفاقاً واسعة للفكر العربي الإسلامي عبر تطبيقاتها لمنجزات ومناهج العلوم الإنسانية الحديثة على دراسة الإسلام. و لقد ظل الدكتور أركون يسعى جاهداً إلى ترسيخ المنهجية التاريخية الحديثة في الفكر الإسلامي، لأنه يرى أنها السبيل الوحيد لتحقيق الفهم العلمي للواقع التاريخي للمجتمعات الإسلامية ، وهذا من شأنه إلغاء كافة التعصبات المذهبية والعرقية لاسيما بوضعها على محك الفهم العلمي.

وقد تميز محمد أركون بشجاعة ميزته عن معاصريه من المفكرين العرب ، وهي شجاعة التطرق إلى اللامفكر فيه. و لفهم موقفه من الاستشراق لابد من الرجوع إلى أركون الطالب بالجامعة الجزائرية و هو يدرس اللغة العربية و آدابها في وضع قاسً مطبوع بسيادة الثقافة الغربية الآتية إلى الجزائر لتحضيرها وإدخالها في حلبة الحضارة حسب ادعاء المستعمر الغازي. ومنذ ذلك الوقت تبرعمت في نفس أركون بدايات الرفض للاستشراق بكل مناهجه و طرائقه. هذا الرفض تولد عنه التمرد ضد المجتمع و حالته وضد الظلم السائد فيه.

ومنذ أن أصبح مدرساً بجامعة السوريون ، اتبع منهجاً مختلفاً جذرياً لمنهج المستشرقين وشرع في محاولاته التحليلية المعتمدة على المقارنة الواسعة سعياً للخروج من الإطارات الضيقة المرسومة من طرف الارثوذوكسية، وهذا ما فعله مع الفكر الإسلامي.

ولقد هدف محمد أركون في مشروعه الفكري إلى بناء "إسلاميات تطبيقية" و ذلك بمحاولة تطبيق المنهجيات العلمية على القرآن الكريم، و من ضمنها تلك التي طبقت على النصوص المسيحية، و هي التي أخضعت النص الديني لمحك النقد التاريخي المقارن و التحليل الألسني التفكيكي و للتأمل الفلسفي المتعلق بإنتاج المعنى و توسعاته و تحولاته.

و قد طرح أركون هذا المشروع في الدراسات الإسلامية لكي يهتم به الباحثون العرب و المسلمون عموما، لاسيما و هو مشروع متصل بالبحوث في النص الديني بصفة عامة. انه مشروع مبني بالأساس على التعرف على الظاهرة الدينية حتى تحل الظاهرة الدينية في أفق أوسع من الأفق الإسلامي. لاسيما و أنه يتم الاكتفاء بالنظر إلى تاريخ الإسلام كدين، كإطار فكري دون مراعاة ما حدث و ما يحدث في الأديان الأخرى.
ومشروع أركون ـ حسب ناقديه ـ يفتح باباً أوسع لتاريخ الأديان إذا انطلقنا من القرآن الكريم ومن منطقه الذي يطرح قضية تاريخ النجاة، أي كيف نعيش حياتنا كمؤمنين متلقين كلام الله تعالى حتى نطبقه في حياتنا قصد النجاة من العذاب.

ويركز محمد أركون في مشروعه على ضرورة تفهم القرآن ـ كلام الله ـ و الذي يفتح للبشر – وللمؤمنين بالخصوص- آفاقاً للتدبر و التفكر و التفقه و التعقل. فكم من مرة تكررت "أفلا تتدبرون" و "أفلا تعقلون" في القرآن الكريم؟ لكن هذا النوع من التفكير المتوسع تم تهميشه و ضيقت مجالاته.
وعبر منهجه الفكري والعلمي تمكن محمد أركون من تكوين فكرة دقيقة عن تطور تاريخ الإسلام.

سنة 2010م .. مراجعة وتقويم

سعى أركون عبر مسيرته العلمية الممتدة على مدى أربعين عاماً إلى تجذير مفهوم "الأنسنة" (هيومانيزم) في الفضاءين العربي والإسلامي. وظل مهتماً بهذا المشروع حتى آخر أيامه. ويرى المتابعون لمسيرة أركون الفكرية والعلمية أن هذه السنة تعد تاريخية من منظور العلاقة بين أركون وقرائه العرب ، حيث شهدت صدور عنوانين بارزين: «الأنسنة والإسلام، مدخل تاريخي نقدي» (310 صفحة) و «نحو نقد العقل الإسلامي»(357 صفحة) ـ صدرا عن دار الطليعة ـ. وفي هذين الكتابين قام أركون بنوع من المراجعة والتقويم الإجماليين لأفكاره المنشورة منذ أربعين سنة، وأن الحصيلة كانت مزيداً من تعميق الجانب النقدي وتقويته. فقد عاد أركون إلى موضوع الأنسنة بعد أربعين سنة من أطروحته المشهورة (عربها هاشم صالح سنة 1997م بعنوان: «نزعة الأنسنة في الفكر العربي»، وكانت قد نشرت باللغة الفرنسية سنة 1970م) ليقدم جرداً لتطور أفكاره وتطور الأفكار حوله، في الغرب كما في العالم الإسلامي، فكان كتابه الجديد «الأنسنة والإسلام» بمثابة السيرة الفكرية المقنعة. إذ يبدو أركون هذه المرة أكثر تألماً من حال الفكر العربي الذي ظل بعيداً من الاهتمامات والمحاور والمفاهيم والمناهج المستعملة في الفكر العالمي، وأكثر امتعاضاً أمام الرفض الذي يواجه به شخصياً في العالمين العربي والإسلامي ، وأكثر يأساً من أن يستجيب الفكر العربي لضرورة التحول من المركزية اللاهوتية إلى مركزية إنسوية في ظل سيطرة الوثوقية بشكليها العقدي والأيديولوجي، وغياب الحس النقدي والقدرة على التجديد البنّاء.

ومع ذلك لم يستسلم أركون للتشاؤم بل عمق مفهومين كان طرحهما في السنوات الأخيرة وهما «العقل المنبثق» و «الهدم الفكري».

ومعلوم أن أركون قد تعرض منذ أحداث أيلول (سبتمبر) 2001 إلى حملات قاسية من الانتقادات ما زالت مستمرة إلى اليوم، ومن الغريب أنها صدرت من طرفين متناقضين. فهناك طرف أول اعتبر أن أعمال أركون النقدية قدمت الذريعة للغرب لمهاجمة العالم الإسلامي وثقافته ، ولم يعد هذا النقد يصدر عن المحافظين وحدهم ، فقد تبنته أيضاً شخصيات تحسب على الإصلاحية الإسلامية الجديدة، وفي مقدمها المفكر التونسي محمد الطالبي. وهناك طرف ثان يمثله الاستشراق الجديد يعتبر أركون مسؤولاً من خلال تحويله وجهة الإسلاميات الكلاسيكية ذات المنهج الفيلولوجي عن تراجع البحوث التاريخية النقدية ، ويستشهدون بصفة خاصة بكتابه «قراءات في القرآن» الذي حول مسار النقد التاريخي باتجاه المعالجات البنيوية والسيميائية التي لم تجد نفعاً في تجديد تعامل المسلمين مع نصوصهم الدينية وغير الدينية.

غير أن أركون أجاب بصفة غير مباشرة الصنفين من ناقديه من خلال إصراره على مشروع الإسلاميات التطبيقية الذي تميز به منذ السبعينات عن الاستشراق الكلاسيكي من جهة والأيديولوجيا العربية المعاصرة من جهة أخرى. وربما كان أركون أكثر وضوحاً في كتابيه الأخيرين في التذكير بأن نقده السابق للاستشراق الكلاسيكي لم يكن يتضمن نية التخلي عن المنهج الفيلولوجي ولا التشكيك في القيمة العلمية لهذا المنهج، وإنما عاب على الاستشراق إصراره على البقاء في حدود الثقافة الرسمية المكتوبة التي رعتها السلطات الإمبراطورية. وينتقد بالتوازي تحول الدراسات الإسلامية إلى الباحثين في العلوم السياسية الذين يقصرون الاهتمام على الحدث الآني معزولاً عن خلفياته الضاربة في التاريخ وغير عابئين بمفهوم «الأمد الطويل» كما استقر مع مدرسة التاريخ الجديد.

ترك أركون ارثاً فكرياً هاماً ومؤلفات كثيرة باللغة الفرنسية أو بالإنكليزية وترجمت أعماله إلى العديد من اللغات من بينها العربية والهولندية والإنكليزية والإندونيسية ومن مؤلفاته المترجمة إلى العربية نذكر:

( الفكر العربي، والإسلام: أصالة وممارسة ، وتاريخية الفكر العربي الإسلامي أو "نقد العقل الإسلامي"، والفكر الإسلامي: قراءة علمية، والإسلام: الأخلاق والسياسة، والفكر الإسلامي: نقد وإجتهاد، والعلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب، ومن الإجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي ، ومن فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، ولإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة، ونزعة الأنسنة في الفكر العربي، وقضايا في نقد العقل الديني. كيف نفهم الإسلام اليوم؟، والفكر الأصولي واستحالة التأصيل. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي، ومعارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية، و من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، وأين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟، والقرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني، وتاريخ الجماعات السرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى