الأحد ١٦ نيسان (أبريل) ٢٠٢٣
بقلم محمد زكريا توفيق

كيف تصنع القنبلة الذرية والهيدروجينية

أهم وأخطر تطبيق لمعادلة أينشتين الشهيرة، الخاصة بمساوات الكتلة بالطاقة، E=mc2، والتي قام بنشرها عام 1905م، هي القنبلة الذرية. ظهور هذه المعادلة مع تأثيث نظرية الكم، جعلت هذا العمل الشيطاني ممكنا.

كيف حول العلماء هذه المعادلة البسيطة الجميلة والتي تبدو عليها ملامح البراءة والطهر، إلى شيء مريع وشنيع؟ لم يكن الأمر مقصودا أو سهلا. لم يكن هدف العلماء في البداية صناعة القنابل أو أدوات الحرب. إنما كان الهدف هو معرفة تركيب المادة وكنهها، وفهم مكونات الذرة وأصلها وفصلها، وكيف تعمل القوانين التي تحكم هذا الكون الذي نعيش فيه.

لم تكن أبحاث الذرة جهد فرد واحد، وإنما كانت ثمرة جهود علماء العالم كله. ولقد راعهم وأفزعهم الكم الهائل للطاقة المخزونة في نواة الذرة. مارد جبار داخل القمقم.

الصياد المسكين قام بنزع الغطاء. فخرج المارد إلى الوجود. شبيك لبيك كل ما تطلب بين يديك. ماذا تريد؟ بنت السلطان، أم تدمير العالم؟ أمرك مطاع يا مولاي. الأمر متروك لك. مسألة خيار فقط لا غير. سكة سلامة وسكة ندامة.

في البداية كان الهدف علمي بحت. لوجه الله، وللمعرفة الخالصة. لكن تدخل حب السيطرة والسياسة. وما أدراك ما السياسة. فحولت كل الجهود النبيلة إلى ألاعيب شيطانية، بهدف تطوير فنون القتل والتدمير والسيطرة. الباقي نعرفه جميعا. هيروشيما وناجازاكي. وأكثر من 300 قنبلة ذرية إسرائيلية. والآن أكثر من نصف علماء الفيزياء في الولايات المتحدة، يعملون في البحرية الأمريكية، لتطوير وتحسين أدوات القتل والتدمير.

لم يشترك أينشتين مباشرة في عمل القنبلة الذرية. كان يؤمن بالديموقراطية، وبالحكومة العالمية، ونزع التسلح، وإلغاء الجيوش. كان يناهض الحروب بكل أشكالها. ورفض أن يكون رئيسا لدولة إسرائيل عند قيامها. وكانت علاقته عظيمة بالدكتور مصطفي مشرفة باشا، العالم المصري المشهور.

لكن بسبب ظهور النازية في ألمانيا، والخوف من سيطرة هتلر على أوروبا، وتصنيعه للقنبلة الذرية، قام أينشتين بتشجيع حكومة الولايات المتحدة، على صناعة القنبلة الذرية. وأرسل خطابا إلى الرئيس فرانكلين روزفلت عام 1939م. محذرا من احتمال توصل الألمان إلى القنبلة الذرية أولا. فقد كان لدى الألمان أعظم العقول المتخصصة في الذرة في ذلك الوقت. لكنه ندم على خطابه هذا أشد الندم، وكان يعتبره أعظم الأخطاء في حياته.

في الواقع، أينشتين لم يكتب الخطاب بنفسه. إنما كتبه عالم الذرة ليو سيلارد، وأغرى أينشتين بتوقيعه. فقد كان أينشتين يعيش في الولايات المتحدة منذ عام 1933م، بعد هروبه من ألمانيا خوفا من النازية. وجاء في الخطاب:

"سيدي: بعض أبحاث فيرمي وسيلارد التي قمت بمراجعتها، تجعلني أتوقع أن عنصر اليورانيوم من الممكن أن يتحول إلى مصدر هام جديد للطاقة في المستقبل القريب".

طاقة القنبلة الذرية تأتي من نواة الذرة. لذلك تسمى أيضا القنبلة النووية، وهو الاسم الأدق، لكن الناس تعودت على الاسم الأول. الكتلة تتحول إلى طاقة حسب معادلة أينشتين E=mc2. وتعني: الطاقة تعادل ناتج ضرب سرعة الضوء في مقدار ثابت. الطاقة تعرف بطاقة الربط أو الجذب أو الشد في النواة. ولتوضيح ذلك، وما دمنا نتكلم عن الذرة، فيجب أن نعرف شيئا عن تركيبها وتكونها.

الذرة تتكون من جسيمات صغيرة جدا تعرف بالجزيئيات. وحتى العشرينات من القرن العشرين، كان معروفا أن الذرة تتكون من نواة وإلكترون أو أكثر. الإلكترون له شحنة سالبة ويدور حول النواة. مثل المجموعة الشمسية. فالشمس تشبه النواة، ومجموعة الكواكب التي تدور حولها تمثل الإلكترونات.

نواة الذرة تتكون من نوعين من الجسيمات الصغيرة تسمى بروتونات ونيترونات. البروتون له شحنة موجبة تعادل شحنة الإلكترون. والنيترون متعادل الشحنة. كتلة النيترون تزيد قليلا عن كتلة البروتون. وكتلة البروتون تعادل 1836 ضعف كتلة الإلكترون.

كم عدد البروتونات والنيترونات والإلكترونات في الذرة؟ هذا يتوقف على نوع العنصر الذي نتكلم عنه. بعض العناصر مثل غاز الهيدروجين، ذرته بسيطة التكوين ومكونة من: بروتون واحد في النواة، وإلكترون واحد يدور حولها (الأبحاث الحديثة تثبت أن الإلكترون عبارة عن سحابة تغلف النواة). وبعض العناصر معقدة التركيب مثل ذرة اليورانيوم.

اليورانيوم عنصر ثقيل، أثقل من الذهب. يوجد نوعان أو نظيران منه في الطبيعة. اليورانيوم 235، واليورانيوم 238. اليورانيوم 235، يرمز له بالرمز U-235، وهو مكون من 92 بروتون و143 نيترون و92 إلكترون. أما اليورانيوم 238، ورمزه U-238، فيتكون من 92 بروتون و146 نيوترون و92 إلكترون.

اليورانيوم مثل البترول، لا يمكن تصنيعه متى نضب. لكنه يوجد في الطبيعة مختلطا بالصخور بكثرة في أنحاء متفرقة من العالم. النوع الأول، اليورانيوم 235 موضوعنا هنا، يوجد بنسبة 6 في الألف مختلطا بالنوع الثاني، اليورانيوم 238. ومن الصعب فصل النوع الأول عن النوع الثاني ويحتاج إلى تكنولوجيا عالية.

نحن في الواقع نتحدث عن ذرة في حجم الفيل بالنسبة لباقي الذرات. داخل النواة، 92 بروتون كل منها مشحون بشحنة موجبة. ونحن نعرف أن الشحنات المتشابهة تتنافر. فما الذي يجمع 92 قوة متنافرة مع بعض؟

الذي يجمع البروتونات مع بعضها هي طاقة الربط (Binding Energy). ونعرف أن النيوترونات متعادلة الشحنة. فما الذي يمنعها من التطاير في الفضاء وترك النواة؟ طاقة الربط أيضا هي التي تمنعها من ترك النواة. طاقة الربط تجعل نواة الذرة متماسكة إلى حد ما، بالرغم من وجود 235 أو 238 جسيم بداخلها، تتنافر وتتوق إلى الهرب.

القوى الطبيعية التي تتحكم في هذا الكون عددها أربعة:
 الجاذبية
 الكهرومغناطيسية
 القوة الضعيفة
 القوة القوية

القوى الأربعة هذه هي التي تسير هذا الكون منذ بدأ الخليقة.

قوة الجاذبية: نعرفها جميعا وتمنعنا من التطاير في الفضاء. وهي ضعيفة إلى درجة أن مغناطيس صغير يمكنه رفع مسمار صغير والتغلب على جاذبية الأرض.

القوة الكهرومغناطيسية: هي المسؤولة عن الضوء وباقي الأشعة.

القوة الضعيفة: هي التي تجعل بعض العناصر الثقيل مشعة.

القوة القوية: هي قوة شديدة جدا، تعمل لمسافات قصيرة جدا. وهي التي تكون "طاقة الربط" التي تربط جسيمات النواة مع بعضها.

عندما نحك حبة سبحة بقطعة صوف، فإنها تفقد بعض الإلكترونات، وتصبح مشحونة بشحنة موجبة. لأن القوة التي تربط الإلكترون بالذرة تعتبر ضعيفة جدا، بالنسبة للقوة التي تربط جسيمات النواة ببعضها. القوة القوية هذه، تعادل ملايين المرات القوة التي تربط الإلكترون بالذرة.

طاقة الربط التي تستخدم لربط جسيمات النواة (البروتونات والنيترونات) ببعضها، وتمنعها من الانفراط، تستهلك جزءا من مجموع كتلة النواة. هكذا يقول أينشتين. وبذلك تكون كتلة مجموع مفردات مكونات النواة، أكبر من كتلة النواة نفسها وهي مجمعة. البيع بالجملة أرخص من البيع بالقطاعي.

في هذه الحالة، الطاقة المخزونة داخل النواة تكون أكبر من طاقة مجموع أجزائها المفردة. وذلك لأن جزءا من الكتلة قد تحول إلى طاقة ربط. هذه الظاهرة معروفة ب "نقص الكتلة".

في بعض الأحيان، طاقة الربط التي تحافظ على جسيمات النواة مع بعضها، تكون غير كافية. في عام 1896م، كان الفيزيائي الفرنسي هنري بيكويريل منبهرا بتجارب الأشعة السينية التي يقوم بها رونتجن في ألمانيا.

في معمله، بمتحف التاريخ الطبيعي بباريس، بدأ بيكويريل تعريض شرائح فوتوغرافية لضوء الشمس، بعد طلائها بأملاح اليورانيوم. ظانا أن هذا سوف ينتج عنه أشعة إكس. وفي يوم ملبد بالغيوم، وضع بيكويريل الشرائح الفوتوغرافية في أحد الأدراج مع أملاح اليورانيوم. عندما قام بتحميض الشرائح وهو يعلم أنها لم تتعرض لأشعة الشمس، وجد أنها قد تأثرت بأشعة قوية. هذه الأشعة القوية، لم تكن سوى أشعة أملاح اليورانيوم.

عندما علم بيير وماري كوري بما حدث لشائح بيكويريل من أملاح اليورانيوم، بدءا في البحث عن عناصر أخرى لها خاصية الإشعاع. فوجدا أن عنصري الثوريوم واليورانيوم بنوعيه لهما خاصيتي الإشعاع. وفي عام 1898م، اكتشفا عنصرين آخرين، هما البولونيوم (سمي باسم بلد ماري كوري، بولندا)، والراديوم (اسم يدل على نشاطه الإشعاعي.

في إنجلترا، صمم إيرنست راذرفورد تجربة، لفحص خاصية الإشعاع هذه. فوجد أن هذه الأشعة نوعان. أحدهما أكثر اختراقا للأجسام من الأخرى. الأشعة الأقل اختراقا لها شحنة موجبة، أسماها أشعة ألفا، والأخرى لها شحنة سالبة، أطلق عليها أشعة بيتا.

لماذا بعض العناصر، لها خاصية الإشعاع هذه دون غيرها من العناصر؟ قوة الربط الموجودة في نواة الذرة قوية جدا، فكيف لا تبقي على جسيمات هذه الأشعة داخل النواة، وتسمح لها بالهرب عن طريق الإشعاع؟

السبب، هو أن قوة الربط الموجودة في النواة، تعمل في مسافات صغيرة جدا. بمعنى أن جسيمات الذرة لابد أن تكون قريبة جدا من بعضها، أي تكاد تتلامس، حتى تبدأ هذه القوة في العمل. قوة الربط لا تعمل في المسافات البعيدة. وتترك المجال لقوى التنافر بين شحنات البروتونات الموجبة، لكي تعمل عملها. فيقوم كل بروتون بدفع البروتون القريب منه خارج نواة الذرة، وبذلك يحدث الإشعاع.

في الذرة المستقرة، تتعادل قوى الربط بين جسيمات النواة مع قوى التنافر للبروتونات. النيترونات داخل النواة تؤثر عليها قوى الربط فقط. لأنها متعادلة الشحنة ولا تتعرض لقوى التنافر. وإذا كان لدينا عدد كاف منها فإنها تعمل على استقرار النواة.

المشكلة تأتى من الذرات الكبيرة. فهي مثل الحكومات الكبيرة، والشركات الكبيرة. تصبح تحت ظروف معينة غير مستقرة. فمثلا، عندما يزيد عدد البروتونات داخل النواة عن 30 بروتون، تصبح القوى المؤثرة على البروتون الموجود في قلب النواة، مختلفة عن القوى المؤثرة على البروتون القريب من السطح. وعندما يزيد عدد البروتونات زيادة كبيرة، قد تتغلب قوى التنافر على قوى الربط. وبذلك تصبح الذرة غير مستقرة.

في هذه الحالة، تبدأ كتل صغيرة من النواة في الهرب. كل منها عبارة عن 2 بروتون و2 نيترون. وجد أن هذه الكتل، عبارة عن أنوية ذرات الهيليوم. أو ما يسمى بأشعة ألفا.

النيترون المتعادل الشحنة، والذي يعمل على استقرار نواة الذرة، لما له من قوة ربط هو الآخر، وخصوصا عندما تكثر البروتونات المتنافرة داخلها، له خاصية غريبة. هو لا يعيش طويلا خارج النواة. مثل السمك، يموت بسرعة خارج الماء. النيترون كذلك، إذا ترك النواة، فإنه يعيش فقط لمدة 15 دقيقة. ماذا يحدث له بعد ذلك؟

في الأنوية الكبيرة للذرات غير المستقرة، النيترونات داخل النواة تظل كما هي ولا يسمح لها بالتغيير. أما الموجودة على السطح الخارجي للنواة، مثل البرتقال الموجود على وش القفص، يمكنه التحول إلى ثلاثة أشياء في نفس الوقت. بروتون وإلكترون وشيء جديد، لم نسمع عنه من قبل، اسمه نيوترينو. ألاعيب شيحة.

البروتون الناتج من التحول، يظل موجودا في النواة ولا يرغب في مغادرتها. لماذا؟ لأن النواة تسمح له بالانضمام لها مادام البروتون على السطح (العربية مليئة لكن الضيف الجديد يمكن أن يركب فوق السطح).

النواة لا تسمح بخلق بروتونات جديدة داخل قلب النواة، وإلا تحولت كل النيترونات في قلب النواة إلى الثلاث جسيمات المشار إليها بعد 15 دقيقة هي عمر النيترون الحر. فقط النيترونات التي على السطح الخارجي، هي التي تتحول، عندما تكون النواة غير مستقرة. الإلكترون والضيف الجديد النيوترينو، ليس لهما مكان داخل النواة. لذلك يخرجان من غير مطرود إلى رحاب الكون الخارجي. هذا ما يعرف بأشعة بيتا.

النيوترينو له خاصية عجيبة لا ينافسه فيها أحد، فهو يستطيع أن يخترق جسمي وجسمك وحتى الكرة الأرضية وينفذ من الناحية الأخرى دون أن يصطدم بشيء.

النوع الثالث من الإشعاع الذي تم اكتشافه، ويأتي من أنوية الذرات غير المستقرة أيضا، عبارة عن موجات كهرومغناطيسية، مثل الضوء. تسمى أشعة جاما. ليس لها شحنة كهربائية.

في عام 1930م، عندما كان العلماء يطبقون مبادئ نظرية الكم على الذرة، لمعرفة ماذا يحدث هناك، كانوا يبحثون أيضا عن طرق لتحويل النواة العادية إلى نواة مشعة. بهدف المعرفة وحب الاستطلاع فقط لا غير. ولم يكن موضوع القنبلة الذرية في دماغ أحد منهم.

في عام 1934م، كان الفيزيائي الإيطالي إنريكو فيرمي، يستخدم النيترونات من الذرات المشعة، كقذائف موجة إلى أنوية اليورانيوم. وكان يعتقد أن تجربته هذه سوف تنتج عناصر أثقل من اليورانيوم، وليس عناصر جديدة. المعروف أن عدد البروتونات في النواه هو الذي يحدد نوع العنصر. ويسمى العدد الذرى.

عدد البروتونات يحدد نوع العنصر، أما عدد النيترونات في النواة فيحدد أنواع النظائر. إذا تغير عدد البروتونات أو العدد الذرى، تغير العنصر. أما إذا تغير عدد النيوترونات، مع بقاء العدد الذرى ثابتا، فتسمى الذرة نظير. مثلا: هناك اليورانيوم ونظائر اليورانيوم، الكربون ونظائر الكربون. كلها تتساوى في العدد الذرى ولكن تختلف في عدد النيوترونات.

اعتقد فيرمي أنه نجح في تحويل ذرة اليورانيوم إلى ذرة أثقل، أي إلى نظير جديد. ونشر بحثه في المجلات العلمية. لكن عالمة كيمياء تدعى عايدة نوداك، كتبت مقالا، قالت فيه أن فيرمى لم يأت بعنصر جديد، وإنما قام، من حيث لا يدري، بتفتيت الذرة. تفتيت الذرة جاء عن طريق الخطأ.

قليل من علماء الفيزياء هم الذين قرأوا مقال عايدة نوداك، لأنه نشر في مجلة علمية تختص بشؤون علوم الكيمياء. الذين قرأوه لم يصدقوا أن فيرمي قد أخطأ في النتائج. فيرمي نفسه قرأ المقال، وأعاد بعض الحسابات. لكنه قرر أن عايدة مخطئة في استنتاجها.

أيهما على صواب؟ فيرمي أم نوداك؟ الإجابة على هذا السؤال أتت بعد عدة سنوات، في منتصف الحرب العالمية الثانية. على أيدي عالمة الذرة النمساوية ليز ميتنر ومجموعة الباحثين الذين يعملون تحت إشرافها. من قال إن المرأة لا تصلح أن تكون عالمة ذرة. ماري كوري وعايدة نوداك وليز ميتنر وسميرة موسى وغيرهن كثيرات.

قامت ليز ميتنر، هي ومجموعتها، بدراسة تجربة فيرمي لمدة أربع سنوات متواصلة. في نهاية الدراسة، شرحت بالتفصيل ما فعله فيرمي بالضبط. فيرمي اكتشف انشطار الذرة وهو لا يدري. انشطار الذرة هو أول خطوة عملية في صناعة القنبلة الذرية.

في عام 1938م، ذهبت ليز ميتنر لزيارة ابن أختها في كوبنهاجن أوتو فريش، الذي كان يعمل باحثا في معهد نيل بور. أثناء السير على الجليد في صباح يوم قارس البرد، بدأ الاثنان يناقشان تجربة فيرمي، وموضوع انشطار ذرة اليورانيوم. وقامت ميتنر بحساب معادلة أينشتين في رأسها E=mc2، فوجدت أن كمية الطاقة الناتجة من الانشطار هائلة.

الطاقة الناتجة من انشطار نواة ذرة واحدة من اليورانيوم، صغيرة نسبيا، وتبلغ جزء من ترليون (مليون مليون) جزء من الطاقة المستخدمة في رفع كرة السلة من الأرض إلى صدر إنسان متوسط الطول. لكن هذه الطاقة تصبح مهولة، إذا أطلقت من كل الذرات في وقت واحد. عدم إطلاقها في نفس الوقت لن يأتي بالنتيجة المرجوة.

عالم واحد كان دائم التفكير في تصنيع القنبلة الذرية. هو ليو سيلارد، الذي ورط أينشتين، وجعله يوقع الخطاب المرسل للرئيس روزفلت. في عام 1932م، جاء ليو سيلارد بفكرة إن النيوترونات أفضل من أشعة ألفا، في قذف نواة اليورانيوم 235. وجاء سيلارد أيضا بالطريقة التي تجعل كل طاقات الأنوية المنشطرة تنطلق في آن واحد.

كانت فكرة سيلارد، هي أننا نبحث عن عنصر، عندما نقذفه بنيترون واحد، فإنه يطلق اثنين أو أكثر من النيترونات. النيترونات المنطلقة، سوف تقذف أنوية جديدة. فتنطلق أربع إلكترونات أخرى. والأربعة تصبح ثمانية. وهكذا في سلسلة تفاعل، ينتج عنها كمية هائلة من الطاقة.

سرعان ما بدأ التفكير في صناعة القنبلة الذرية، لزوم الحرب، بعد خطاب أينشتين إلى الرئيس روزفلت. كانت فكرة استخدام النيترونات في سلسلة التفاعل، التي اقترحها سيلارد، هي موضوع الساعة. وعندما فكر فيها سيلارد، لم يكن انشطار الذرة قد أكتشف بعد. ولم يكن أحد يعرف أن نواة الذرة الكبيرة يمكنها أن تنقسم إلى ذرتين، باستخدام قذائف بطيئة من النيترونات.

في عام 1942م، استطاع إينريكو فيرمي في معمله، في مدينة شيكاغو، توليد أول سلسلة تفاعلات نووية. فيرمي كان قد ترك بلده الأصلي إيطاليا، هربا من موسوليني والحكم الفاشستي، ولجأ إلى الولايات المتحدة.

في سلسلة تفاعلات فيرمي، كتلة نواة اليورانيوم 235 قبل التفاعل، بالإضافة إلى النيترونات التي نستخدمها كقذائف، كانت أكبر من كتلة الأجزاء المفتتة بعد سلسلة التفاعل. كل ذرة يورانيوم 235 يتم تفتيتها، تتحول إلى ذرة باريوم + ذرة كربتون + 3 نيوترون. معادلة أينشتين تخبرنا أن الفرق في الكتلة، ينطلق كطاقة عندما تنشطر نواة اليورانيوم.

فيرمى لم يسمح بالتفاعلات داخل معمله بالانطلاق بدون حدود. وإلا حدث انفجار مروع داخل معمله. فقد كان يتحكم في سلسلة التفاعلات عن طريق استخدام مواد ماصة للنيترونات، مثل قضبان الكربون. لكن داخل القنبلة الذرية، سلسلة التفاعلات تنطلق بدون أي سيطرة أو تحكم.

لكي يحدث الانفجار، نحتاج إلى كمية كافية من اليورانيوم 235، لمساندة واستمرار سلسلة التفاعل. ونحتاج إلى تصميم جيد يجعل التفاعل يبدأ في الوقت المناسب. 52 كيلوجرام من اليورانيوم 235، كاف لبدء التفاعل. لذلك تسمى كمية اليورانيوم هذه بالكتلة الحرجة. اليورانيوم 238 لا يصلح للانشطار بالرغم من وجوده بكثرة.

إذا كانت لدينا الكتلة الحرجة من اليورانيوم 235، فإنها تبدأ في الانفجار من نفسها. أي نيوترون سائب، يمكنه أن يشعل التفاعل. داخل القنبلة الذرية، الكتلة الحرجة تتكون فقط عند وقت الانفجار.

القنبلة التي ألقيت على المدنيين في هيروشيما في اليابان في 6 أغسطس عام 1945م، وهو يوم أسود في تاريخ الإنسان مهما قيل في تبريره، كان اسمها الطفل الصغير (منتهي البراءة). وكانت على شكل سيجار سميك. اليورانيوم 235 داخلها منفصل إلى جزئين، كل جزء أقل من الكتلة الحرجة. عندما يلتقي الجزءان، تتكون الكتلة الحرجة وتبدأ سلسلة التفاعل والانفجار. الانفجار يحدث في الجزء العاشر الأخير من الميكروثانية. وهذا ما يجعل قوة الانفجار مدمرة للغاية. لأن الطاقة تنطلق في وقت واحد.

بعد عدة سنوات، قامت الولايات المتحدة بتصنيع قنبلة أخرى أقوى آلاف المرات من القنبلة الذرية. هي القنبلة الهيدروجينية. تعمل تماما مثل الشمس. شمسنا العظيمة هذه والتي تعطينا الدفيء والحياة، ما هي إلا قنبلة هيدروجينية ضخمة. يعنى نحن مدينون بحياتنا لقنبلة هيدروجينية.

القنبلة الهيدروجينية لا تعمل بالانشطار النووي، وإنما تعمل على العكس، بالالتحام أو الانصهار النووي. الانصهار النووي عبارة عن صهر نواتين من عناصر خفيفة من نظائر الهيدروجين.

كما قلنا سابقا أن بعض العناصر لها نظائر. غاز الهيدروجين هو أيضا له نظائر. أحدها يسمى ديوتيريوم له نواة، بها بروتون واحد ونيترون واحد. ونظير آخر اسمه ترايتيوم، نواته بها بروتون واحد و2 نيترون. بالطبع الهيدروجين العادي، نواته بها بروتون واحد فقط.

لو صهرنا نواة النظير الأول للهيدروجين مع النظير الثاني، فإن الناتج يكون نواة جديدة لعنصر الهيليوم، التي تتكون من 2 بروتون و2 نيترون. ويتبقى نيترون حر طليق. معادلة أينشتين الشهيرة E=mc2، تخبرنا أن كتلة أنوية نظائر الهيدروجين، أكبر من كتلة الهيليوم مضافا إليها النيترون الطليق. أين الفرق في الكتلة؟ يتحول إلى طاقة هي طاقة القنبلة الهيدروجينية.

مشكلة التقنية في القنبلة الهيدروجينية هو كيف نقوم بصهر أنوية نظائر الهيدروجين مع بعضها والتغلب على قوى التنافر الموجودة بين البروتونات، وهي قوى شديدة جدا. مثل قوى التنافر بين أقطاب المغناطيس المتشابه. ولكي نفعل ذلك، لا بد أن نقوم بتقريب الأنوية مع بعضها إلى درجة تقترب من التلامس حتى تبدأ القوة القوية، أي قوة الربط، في العمل. وكما قلنا سابقا أن القوة القوية، وهي إحدى القوى الأربعة التي تتحكم في هذا الكون، لا تعمل إلا في مسافات صغيرة جدا.

الحل هو إحاطة أنوية الهيدروجين المراد صهرها بقنبلة ذرية عادية. وعندما تنفجر القنبلة الذرية العادية، الطاقة المتولدة منها تقوم بدفع أنوية الهيدروجين إلى الداخل فتقترب من بعضها إلى مسافات صغيرة جدا ويحدث الانصهار. والنتيجة، صناعة شمس أخرى على الكرة الأرضية. الاسم الأصح للقنبلة الهيدروجينية هو القنبلة الشمسية. كارثة أخرى وعمل شيطاني آخر يهدد مستقبل الجنس البشرى.

القنبلة الذرية صنعت خوفا من ألمانيا النازية، لكنها لم تستخدم ضد ألمانيا. لأن الحرب مع ألمانيا كانت قد انتهت في مايو عام 1945م. لكن القنبلة أسقطت على المدنيين في هيروشيما وناجازاكي باليابان، لتنهي الحرب العالمية الثانية.

بعد الحرب العالمية الثانية، بدأ النظر إلى أينشتين على أنه أبو القنبلة الذرية. لكنه كان يكره هذا اللقب بشدة. ورفض الاشتراك مع مجموعة العلماء التي شكلها الرئيس الأمريكي روزفلت لتصنيع القنبلة. وكان أينشتين يقول باستمرار: "لو كنت أعرف أن المانيا لن تستطيع عمل القنبلة الذرية، لما كنت أيدتها أو أرسلت خطابي إلى الرئيس روزفلت". وسبق في عام 1921م، أن قال أينشتين: "أنا أرفض وبدون حدود أي عمل، مباشر أو غير مباشر، يخدم أغراض الحرب." ومن أقواله المأثورة: "قتل الناس عمل مقزز".

عندما قام أينشتين بزيارة الولايات المتحدة عام 1930م، جاء في مقال له نشرته جريدة نيويورك تايمز: "لو 2% من المطلوبين للتجنيد في كل الدول رفضوا الالتحاق بالجيش، وطالبوا بأن تحل كل المنازعات الدولية بالطرق السلمية، لأصبحت الحكومات عاجزة عن إشعال الحروب. الحكومات لا تستطيع أن تضع كل هذا العدد من الناس في المعتقلات".

بعد الحرب وحتى وفاة أينشتين عام 1955م، كان يناهض التسلح النووي، ودائم المطالبة بنزع السلاح وتدمير الأسلحة النووية. تدمير هذا الشيطان الذي خرج من القمقم، ولا نعرف كيف نعيده إليه. ويكفي أن نعرف أن الغواصة الحربية العادية في هذه الأيام، تحمل قوة تدمير نووية تعادل 25 ضعف قوة المتفجرات التي ألقيت في الحرب العالمية الثانية كلها. فأي مصير ينتظر البشرية ونحن نتسابق في فنون الأسلحة النووية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى