السبت ٢٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٤
بقلم إدريس ولد القابلة

لقد فات الأوان ـ القسم الأول

المحتويات

  لقد فات الأوان
  يوم الاعتداء على الفتى
  المسيد
  الميخالة
  استنفار عائلة
  خرج و لم يعد
  لا نموت إلا مرتين
  خارج الدائرة
  باب التوبة مفتوح على الدوام
  نجونا و لكن
  نهاية أم بداية
  المحاكمة
  صدفة غريبة
  الجلسة الأولى
  محاربة الأمية

لقد فات الأوان

لم يكن لديها إلا ولدها البكر الوحيد، غاب عنها منذ أكثر من عشرين سنة وانقطعت عنها أخباره، لا تعرف.هل هو ميت أم حي يرزق.

كانت نساء الدرب العتيق يقضين لها بعض الحاجات ويصرفن معها بعض الوقت لمؤانستها والتخفيف من جأشها.

كانت تفرح بدخول زهرة عليها.وزهرة أحد. وحيدة لا يعرف ماضيها أحد.عهد سكان الدرب بها وحيدة، تسكن في غرفة صغيرة مستخرجة من منزل قديم، كانت وحيدة دائما، في غرفتها، في الدرب، في الأيام العادية وفي الأعياد والمناسبات.كل الناس ينطقون اسمها بدون كنية ولا لقب، لا أب ولا أم، لا أخ ولا أخت ولا قريب، لكن يعرفون أنها اشتغلت وكدت طوال حياتها.

قصيرة جدا، قبيحة الوجه، لها أنف كبير، دميمة لكنها خفيفة المزاج وسخريتها لاذعة ولسانبشر.د لا على الناس فحسب بل حتى على نفسها.كانت دائما تتحدث عن عفريت من الجن تقول أنها تزوجته وتحكي علاقتها به وكأنها تتكلم عن بشر.
وكانت زهرة دائمة التردد على رقية المسكينة، لا سيما بعد أن أنهكها البكاء والحسرة على ابنها الغائب، كلما دخلت عندها تقوم على التو من فراشها لتوقد النار وتغلي الماء لإعداد الشاي المنعنع.وكانت زهرة تعرف حق المعرفة أن شاي رقية ألذ شاي شربته، فقد كان مذاقه مثل رائحته بالتمام والكمال.

وإعداد الشاي بالنسبة لرقية كان يخضع عندها لطقوس، فهي تطيل مدة إعداده حتى تستبقي صديقتها معها أطول مدة ممكنة، وتلافيا لقنوطها، كانت تحاول بكل ما يحن لها من أحاديث، لاسيما وأنها معروفة، خلافا لزهرة بذلفة اللسان وسلاسة وكياسة الحديث.وفي الأخير كانت تحدثها عن ابنها الوحيد الذي غادرها وتبع فتاة غنية من بنات أحد أعيان مدينة بعيدة، استولت على قلبه فتزوجها دون علم أمه حيث قدم نفسه يتيم الأبوين مقطوعا من شجرة خجلا من فقر والدته فأنكر وجودها دفعا للحرج وخوفا من ضياع الفرصة.

ورغم محاولاتها العديدة للعثور عليه لم تفلح فاكتفت بتعزية نفسها قائلة بأنه سيعود يوما ما لا محالة لأن الدم لا يمكنه أن يتحول إلى ماء.

في البداية بكت بغزارة كأن ابنها مات، فأصبحت تكثر من الذهاب إلى الجنائز والمآتم لتبكي وتنوح تفريجا عن حرقتها على فقدان فلذة كبدها.

أثقلتها السنون وأنهكها الحزن إلى عدم قدرتها على الاعتماد على نفسها فاستقرت مع صديقتها زهرة الوحيدة مثلها، في غرفتها لتعيشا معا ما تبقى لهما من العمر.
…مرت الأعوام والشهور والأيام وزهرة ترعى صديقتها رقية التي لم تعد تقوى على الحركة.

وفي ضحى يوم شتائي توقفت سيارة فخالمتسخ، لنوع المستورد بالعملة الصعبة، فنزلت فتاة في ريعان شبابها، في منتهى الأناقة والأنوثة.نظرت إلنحوه،زل الحزين المتهاوي المتسخ، ثم إلى عتبته المغطاة بالأوحال وتنهدت بعمق.توجهت نحوه، فتحت لها زهرة الباب وبعد حديث قصير كأنه برقية بالشفرة قبلتها وحضنتها ودخلا معا.

 أختي رقية…بنت ولدك جاءت لتأخذ ك….استيقظي ….ألم تسمعيني…
ظلت المرأة العجوز مستلقية على ظهرها ناظرة إلى السقف دون حركة ولا نبس كلمة.

نظرت زهرة نظرة باردة إلى الفتاة وأعادت الكرة.

 قلت لك حفيدتك جاءت تبحث عنك …

اقتربت الفتاة الوسيمة الرشيقة من زهرة، فألقت نظرة على المرأة العجوز فرأتها صورة طبق الأصل لأبيها، ولاحظت شبهها بصديقتها رقية فرأتها وكأنها ترى رقية قبل ستين سنة خلت.

ارتجفت شفتا الفتاة وانفجرتا بكلمة واحدة.

 جدتي….جدتي…

لم تحرك المستلقية عل ظهرها ساكنا، فأعادت الفتاة رافعة صوتها أكثر.

 جدتي..جدتي…أنا حفيدتك ….ابنة ولدك

لا حركة ولا ترنيمة .

انحدرت الفتاة إلى ركبتيها، تمسح أنفها بمنديل حريري صغير مطرز والدموع تنهمر من عينيها .

 جدتي …منذ توفي والدي وأنا أبحث عنك، عن عائلتي، عن أصلي حتى عرفت منذ أيام قليلة أنك هنا، فقررت القدوم حالا لآخذك معي ولا أفارقك..

دنت منها أكثر فلا هي أجابت ولا هي تحركت، مسكت بيديها فأحست ببرودة غريبة حادة، تركتها عللا التو فتراخى الذراع وسقط ممدودا بجانب الفراش راسما حركة ذهاب وإياب لمدة ثوان ثم استكان.

……صراخ….عويل…..بكاء.

أحست الفتاة الجميلة بحزن رهيب وقسوة لم تكن قد سمعت عنها في الروايات التي دأبت على مطالعتها كالبؤساء "وأمنا الأرض" و"أوليفر تويست "…
بكت وبكت ولا زالت تبكي لأنها جاءت بعد فوات الأوان.

يوم الاعتداء على الفتى

كان منزل الفتى قرب "دار العجزة " بسلا العتيقة وكان هذا المنزل كبيرا لا تستغل الأسرة إلا جزءا ضئيلا منه لقلة عدد أفرادها، حيث أن أغلب الغرف ظلت غير مستعملة.

اليوم جميل من أيام فصل الربيع ولكنه كان ينذر بشيء غير معتاد.

والد الفتى ينظر إليه باهتمام كبير، يبتسم له برقة وحنان وهو يدخن سيجارته، وقبل ذهابه بصحبة العم يداعب شعره ويلاطفه بحنان غير معتاد ثم يمضي
أم الفتى تقوم بعملها اليومي وهي عصبية متعصبة أكثر من المعتاد لكنها تركته يعبث براحته دون مراقبة وتقول له مشجعة:

 العب براحتك يا بني.

لا وعيد …ولا تهديد… ولا سباب

يصعد الفتى إلى السطح بعض الوقت ليفقد دار العجزة كعادته، فقد كان يعجبه مراقبة ضيوف تلك الدار وهم يأخذون أماكنهم المعتادة بجانب الحائط المتهاري بحثا عن الظل.

ولما رجع الفتى يجد أمامه زوارا من العائلة ومن الجيران ،ينادي أمه ويقول لها :

 أريد الخروج إلى الزنقة

 تجيبه:

 عندنا ضيوف وعليك أن تغيري ثيابك

…يطرق الباب ويدخل الوالد والعم بصحبة رجلين، يقول الأب لأحدهما:

 تفضل يا سيدنا الحجام

ذهب الفتى في اتجاه أبيه فقال الرجل:

 تبارك الله على السلطان

يأخذه من يده ويقول له:

 سأريك لعبة جميلة

جلس الحجام على الأرض وهو يبسمل وهم بفتح حقيبته، وأخرج بعض الأدوات.
يأتي الرجل الآخر بمقعد خشبي قصير فيجلس الفتى عليه أمام "المعلم الحجام" قائلا له:"هكذا أفضل"

وإذا بيده تكتلان الفتى من الذراعين والرجلين بقوة وإحكام لمنع أية حركة وأحس الطفل الصغير أنه ملصق بالكرسي، استغاث بأبيه وبعمه وبأمه وجدته ولكنهم ظلوا يتفرجون.

"المعلم الحجام " يهجم عليه هجمة وحشية نكراء وبيده مقص يلمع لمعانا غريبا وهو يقول:

 أنظر إلى الطير في السقف

فلم يبالي به الفتى وظلت عيناه متجهتان نحو إلى المقص اللامع الذي أخذ طريقه إلى أسفل بطنه بين رجليه.

وهاهو الألم الحاد القاسي ينساب من جسمه، من ذلك الجزء الذي من العيب ذكره أو إظهاره حتى في الحمام.

وهاهو صراخ الفتى يجلجل ويجتاح أرجاء المنزل العتيق، ولم يدر ماذا حدث لمدة من الزمن.

…وبعد لحظة تلوح أم الفتى وجدته وتقبلانه بحنان وقبل أن يفتح فمه للاحتجاج تضعا بين يديه عدة هدايا: نقود، حلوى ولعب…

ويعيش الفتى أياما بين الألم والهدايا ويمتلئ المنزل الكبير العتيق بالضيوف وتعم الفرحة ويحلى الطرب.

وتمر الأيام والفتى يمشي مفرجا بين فخديه ممسكا بطرف القميص الفضفاض حتى لا يلمس ذلك الجزء من جسده موضوع الاعتداء الغاشم من طرف " المعلم الحجام".

المسيد

المسيد (الكتاب القرآني)، كان عبارة عن حانوت ضيقة لا نوافذ لها ولا منفذ إلا الباب الصغير.

كان الصبيان يقعدون على حصير متهاري أطرافه متلاشية بفعل الزمان وعبث العابثين.يتلون الآيات بصوت مرتفع .

وكان كل واحد منهم "يلغي بلغاه "واحد يقرأ الصمدية "وآخر الرحمن" وثلث الواقعة ورابع «يس"..حتى لا يكاد المار بجانب المسيد لا يفقه شيئا مما يترامى إلى مسمعه من أصوات وقهقهات.
والفقيه متربع على منبره تارة يلوح بسوطه عندما يحس أن وثيرة القراءة تدنو من الانخفاض وتارة أخرى يباشر حديثا مطولا حول الثواب والعقاب أو الجنة والنار مع الإسكافي صاحب الدكان المجاور للمسيد .

مع اقتراب وقت الغداء يبدأ الكبار بتلاوة ما حفظوه من القرآن واحدا تلو الآخر، يستمر الأول في القراءة ويلتحق به الثاني عندما يصل إلى الجزء الذي يحفظه ويستمران معا في القراءة ويلتحق بهما ثالث ثم رابع حسب ترتيب السور بالمصحف وهكذا دواليك، فيكبر عدد القارئين مع الانحدار إلى السور القصيرة.وتكون مساهمة جميع رواد المسيد ابتداء من الوصول إلى سور الحزب الأخير لاسيما القصيرة منها، وكانت سورة الفاتحة علامة الفرج والإنعتاق من رحمة الفقيه وتوجه الصبيان إلى حال سبيلهم .

كان الفتى يفضل الجلوس قرب الباب حتى يتمكن من استنشاق الهواء النقي نظرا لأن قاع المسيد كانت تنتشر فيه عدة روائح ولا واحدة منها تطاق.

وحتى عندما يأمره الفقيه بالجلوس في قاع المسيد كان الفتى يزحف ببطء رويدا رويدا حتى يصل إلى الباب ويستقر بجانبه ويتمعن بدقة في الأحذية المتراكمة بالعتبة حتى يقع بصره على مكان حداءه فيحاول بكل الوسائل تقريبه إليه وجعله في متناول يديه فيتحين الفرصة وفي رمشة عين يكون قد أخذه وانطلق هاربا إلى خارج المسيد.

وفي الصباح يعاقبه الفقيه الاختفاء بدونة.في بداية الأمر كان يحاول الاختفاء بدون إثارة انتباه الفقيه، لكن حين أصبح يقوم بذلك ولو كان يراقبه.
لقد عمل الفقيه كل ما في وسعه واستعمل معه كل المغريات التي في طاقته لكي يظل الفتى ضمن رواد المسيد لاشيء إلا لكي يتوصل كل يوم أربعاء بالأجرة من والد الطفل لكن لم يتوقف في ذلك.

هكذا غادر الفتى المسيد قبيل ولوجه المدرسة الابتدائية.

الميخالة

كان موسى يقوم بجهد جهيد الاعتماد على نفسه للتمكن من ربح بعض النقود ليتأتى له الدخول إلى السينما على غرار أقرانه الذين كانوا يحصلون عن ثمن التذكرة من دويهم خلافا للفتى ابن الأرملة.

وكان يوم العطلة الأسبوعية هو يوم اجتماع أطفال الدرب للذهاب جماعة إلالمعوزة..وكان موسى يحصل على ثمن التذكرة بوسائله الخاصة دون الاعتماد على أمه المعوزة .

يستيقظ مبكرا، يتناول كسرة خبز جاف ويتوجه إلى المزبلة العمومية للتنقيب عن بقايا الأجزاء المعدنية لبيعها قصد ضمان ثمن التذكرة وقيمة "الكاصكروط".

يمشي حاملا قفة متهارية، يجاوز الجسر وتبدو له المزبلة مترامية الأطراف، أكوام وأكوام من القمامة، أطفال ورجال ونساء ينقبون في الزبال، بعضهم يحمل معاول وبعضهم قضبانا يستعينون بها للنبش في القمامات حيث يختلط كل شيء وتتشابك كل المواد والبقايا، الأطعمة والأوراق، والنفايات، كل ما تخلى عنه سكان المدينة.

عثر موسى على قضيب حديدي من النوع المستعمل في البناء المسلح، قام بطي مؤخرته واستعان به في النبش والتنقيب.

الشاحنات والعربات اليدوية تصل على التوالي وبلا انقطاع لتفرغ حمولتها الآتية من جميع أرجاء المدينة النائية.

ظل موسى يحفر وينبش وينقب في ركام القمامات بدون توقف إلى حدود منتصف النهار دون مبالاة بأشعة الشمس الحارة الساقطة على رأسه كأنها جمرات، لم يتوقف إلا بعد ملئ القفة المتهارية بقطع معدنية مختلفة.

وجاءت مرحلة الفرز، أفرغ موسى القفة عن آخر ها على الأرض وبدأ يفرز الأنواع المعدنية، يرفع كل قطعة يفحصها ثم يضعها حسب نوعها في إحدى المواقع الثلاثة أمامه، فهناك مكان خصصه للأليمينيوم وثان للقصدير وثالث للنحاس.

ومادام النحاس يباع بأغلى سعر فقد حرص موسى أن يكون موقعه الأقرب إليه، تحت نظره للتمكن من حمايته عند الحاجة من طمع الطامعين وما أكثرهم بالمزبلة العمومية التي كان يسود بها قانون الغاب، الشيء الذي فرض على موسى الابتعاد عنها للقيام بعملية الفرز محجوبا عن الأنظار.

بعد الفرز يكوم كمية النحاس المحصل عليها ويلمها بحذر في كتانة ويضع الرزمة في قاع القفة المتهارية ويضع كمية الأليمينيوم فوق الرزمة ويتخلى عن ركام أجزاء القصدير نظرا لأن سعره هزيلا ولأن كمية النحاس والأليمينيوم كافية لضمان ثمن تذكرة السينما وقيمة "الكاصكروط " وربما حتى "الزريعة".

يحوم موسى حول القفة المتهارية الممتلئة عن آخر ها دون إزاحة نظرة عنها، يعثر على قطعة حبل، يعقد به فم القفة، يحملها ويتوجه نحو الملاح.

كان الحمل ثقيلا لكن تفكيره في حصيلة وزنها ينسيه تعب تحمل ثقلها الجاثم على كتفه الطري.

كان هنا تاجر يهودي، له دكان صغير مظلم على الدوام بمدخل الملاح القديم يشتري كل ما يحمل إليه من قطع معدنية وعظام وبقايا أقمشة وأثواب وقنينات فارغة من فئة لتر فقط لاسيما المخصصة للخمور الحمراء والزجاج المكسر وآلات وأواني متلاشية.وكان سعر كل هذه المواد غالبا ما يكون محددا كما كانت كل هذه النفايات مقبولة من طرف التاجر اليهودي إلا في حالة عدم توفره على مكان لوضعها وآنذاك على البائع يلح إلحاحا إلى حد التماس الشفقة.لقبول اليهودي اقتنائها بأبخس الأسعار ما عدا بالنسبة للنحاس فهو مطلوب في أي وقت ومهما كانت الكمية ولو اضطر التاجر لإيداعها بمنزله المجاور للدكان.وزن اليهودي كل من المعدنين على حدة بعهد أن أفرغ موسى أمامه محتوى القفة المتهارية ونشره على الأرض بعد أن قام بفحصه قطعة قطعة.

 «إعطيني تسعين ريال، هل تأخذها أو تجمع قشاوشك ؟»

 «أعطيني تسعين ريالا »

 «كلمه وحده قلناها، حب الخاطر ها أنت، ما حبشي اجمع متاعك »

 «أعطيني خمسه وثمانين ريالا »

 «واش لي قلناها نعيدوها ؟ شوف غادي نعطيك اثنتين وثمانين ريال وخا أو لا؟ »

أخذ الفتى النقود، هرول إلى البقال، اشترى نصف خبزة بها علبة سمك مصبر وراح يعدو نحو السينما للحاق بأقرانه من صبيان الدرب.

إستنفار عائلة

في زمان كان الناس، أهل البلد يسعون فيه للحاق بركب الأمم المتقدمة، فكان لا مناص من إتباع أسرع وأضمن السبل لبلوغ المرغوب.وكان المخرج هو التحصيل والتعليم.

وآنذاك كانت المقاعد والفرص المتوفرة محدودة، أيام كان الآباء يضحون بالغالي والنفيس لضمان مقعد فلذات كبدهم بالمدرسة عالمين أن التعلم والتعليم هو السبيل الأجدى لضمان الغد لا سيما لمن لا ينتظرون إرثا ولا يتوفرون على ثروة.

آنذاك كانت أخت الفتى في السابعة من عمرها.وكان الشغل الشاغل للأسرة بكاملها ينحصر في التوصل إلى تسجيل الطفلة بالمدرسة الابتدائية.

كانت المقاعد الشاغرة محدودة ولم يكن للأسرة لا جاه ولا وسيطة.

وكان التسجيل بالمدرسة كيوم القيامة، يوم الحشر، يضرب له حساب وأي حساب.عذاب دائم، اتصالات، البحث للتعرف عن تاريخ افتتاح عملية التسجيل، الذهاب والإياب بين الدار والمدرسة، الوقوف في الطوابير وتحمل الإهانات.

قرر الأب تسجيل بنته بمدرسة "الضحايا" وهي أقرب مدارس المدينة، على قلتها، بمقر سكنى الأسرة، وقد سميت كذلك نسبة لضحايا زلزال مدينة أكادير.

تجند كل أفراد العائلة، وكانت الجدة هي بطلة هذه المهمة.

كان الطابور أمام المدرسة قد بدأ يتشكل وينمو أياما قبل تاريخ افتتاح عملية التسجيل، وكان على العائلة أن تحافظ على الدور في الطابور لذلك لا مندوحة من الحضور الدائم، ليل نهار، بالصف الطويل الممتد على السور الخارجي للمدرسة حتى لا تضيع الفرصة وتحرم الفتاة من حقها الدستوري في التعليم والتمدرس.
أصبحت الجدة المسكينة تبيت في الطابور تحت الالطوال.اء القمر.واستمر هذا الحال خسة أيام متتالية بلياليها الطوال.

وكان الفتى مكلفا بحمل الغطاء والأفرشة للمبيت والطعام لأن سنه لم يكن ليسمح له بتعويض الجدة في الطابور، والجلوس مكانها ولو لمهلة وجيزة خوفا من ضياع المكان وتلافيا لفقدان الدور لاسيما وأنه قريبا جدا من المقدمة.

طوال ذلك الوقت كانت الفتاة تلعيوم ابتداءرح لا مبالية بالأسرة المجندة عن أخوها، تعيش حالة طوارئ واستنفار.ولم تعد المياه إلى مجراها إلا يوم ابتداء عملية التسجيل، ولم يتنفس أعضاء الأسرة الصعداء إلا عندما وصل الدور ودخلت الأم رفقة بنتها لمقابلة المديرة./.

خرج ولم يعد

في ليلة من ليال رمضان بينما الفتى نائم، أيقظه صوت حاد:

 «هيا…انهض لتودع أمك »

أسرع إلى غرفة والدته، رآها تنظر إليها.نان غريب، جلس بالقرب منها منقبض القلب، منخار القوى.أمسك بيدها ثم قبلها بحرارة ونظر إليها.

تبسمت له بصعوبة وألم ظاهر، حركت شفتيها الذابلتين كأنها تود قول شيء لكن رأسها مال جانبا وتراخت يدها لم يشعر بأبيه الواقف على رأسه يردد:

«الله أكبر، الله أكبر، لا حول ولا قوة إلا بالله »

بكاء يغمر الأجواء

ناداها ثم ناداها ولكنها لو تجبه، لا هي أجابت ولا هي تحركت، بل رقدت إلى الأبد، وكانت النهاية.
بكى الفتى بكاء غزيرا وحزن حزنا مريرا، وتمنى أن يكون كل ما لم به كابوسا أو مجرد حلم مزعج، لكن البكاء والصراخ أكد له أنه الواقع ولا شيء غير الواقع …وظل الأسى ينخره.

بعد مدة وجيزة.تزوج الأب وبدأت المصاعب …انقطع الفتى عن الدراسة وأرغمته زوجة الأب على العمل للمساهمة في المصاريف .

أصبح الفتى يتوجه كل صباح إلى"الموقف" لاصطياد فرصة عمل، ويعود ليلا منهك القوى، وكلما حصل على أجرة هزل قدرها أم لا سلمها عن آخر ها لزوجة أبيه .

…وذات يوم أحس بتعب شديد لم يسعفه على النهوض، لكن زوجة الأب لم يهنأ لها بال.ولم تكف عن الكلام والسباب إلا حينما هم الفتى بالوقوف وتناول كسرة خبز "حرفي"وتوجه "الموقف متثاقلا.

في طريقه رأى ركاما من النفايات أمام المقهى، مازالت أبوابها موصدة، توقف عن السير، تناول قصبة من الأرض كسرها وأخذ بعضها وشرع في نبش الركام
فجأة أبصر قطعة ورق ملونة منكمشة يغلب عليها اللون الأخضر القاتم والمفتوح وبدت له تشبه الورق النقود الورقية.

التقطها سواها بثناياها.خوفا من تمزيقها نظرا لبللها، فوجدها ورقة نقدية من فئة ألف ريال.ضغط عليها لبسط ثناياها.

«إنه رزق هذا اليوم، الحمد والشكر لله..بينما أنا مريض ولا أستطيع العمل …سأسلم النقود لزوجة أبي وستعفيني هذا اليوم …فألف ريال أحسن من خمسمائة ريال الأجر اليومي في حال فوزي بفرصة عمل في "الموقف"»

أودع الورقة النقدية بجيبه ووضع يده عليها وعاد إلى الدار وهو يسير ببطء.
وما أن وصل حتى ابتدرته زوجة أبيه:

 لماذا عدت مبكرا ؟لماذا لم تبق في "الموقف" لاصطياد فرصة عمل

 أنا لست على ما يرام هذا اليوم لكن عثرت على ألف ريال

 أرينيها …

…تسلمتها منه وقالت:
 …والآن اذهب إلى" الموقف" …هل تعتقد أن ألف ريال مبلغ مهم يعفيك من الكفاح اليومي من أجل القوت.

أجابها بهدوء

 «إنه ليس بالمبلغ الكبير، ولكني لو عملتعادة، لنهار لما كنت لأحصل على نصفه وهذا لو صادفت فرصة.وما دمت مريضا وسلمت لك أكثر مما آتي به عادة، فلماذا علي الذهاب هذا اليوم إلى "الموقف" ؟بإمكاني الانتظار يوم أو يومين …

أنا أقول لك بأن عليك أن تذهب فورا وليس إذا أو بعد غد

خرج الفتى، توجه إلى "الموقف" لاصطياد فرصة عمل، تعب طوال النهار في تحميل الشاحنات.

صرف بعض أجرته في اقتناء طعام وتوجه إلى السوق ومنذئذ لم يعد إلى الدار وعاش حياته خارجه.

لا نموت إلا مرتين

تمرق السيارة بين المباني، تسير بأقصى سرعة، صوت المحرك ينتشر في أرجاء صمت الغروب.

رداد يبلل الأرض، مطر خفيف يلون الإسفلت، بركات مائية تتكون على الطريق المارة بين الحقول لعبور جسر خشبي قديم مهمل.

منذ أفاق مع الفجر والسائق ينهب الطريق الطويل نهبا حتى وصل إلى هذا المكان
في المقعد الأمامي شاب أرخى رأسه مثتائبا، في الخلف رجل بجانبه امرأة.
تقف السيارة، يمر أمامها نعش ،يطل الشاب من النافدة ويرى جثة ملفوفة في ثوب أبيض ،ممدودة على محمل خشبي متهاري .

قال السائق:

 إنه الفيروس …مازال يكتسح المنطقة …تنهدت المرأة بعمق قبل أن تتكلم …
 الموت …الموت…لا نتكلم هذه الأيام إلا عن الموت …الموت في الحرب، الموت بالفيروس…الموت…

هبط الرجل من السيارة، وضع يده اليمنى على الشاب واليسرى على المرأة وسار متعثرا في مشيته نحيفا منكمشا كالظل لا يكاد يبين بين حامليه.
بعد معاناة المشي تحت مطر منهمر في عشية كئيبة يصل الرجل إلى باب المنزل منهك القوى.

تنظر إليه المرأة وتقول:

 كان عليك المكوث بالمستشفى..

يجيبها بمشقة:

 وما جدوى ذلك إذا لم يكن هناك لا دواء ولا لقاح

…تذكرت يوم نقلوها إلى مستشفى الولادة، لوضع الابن بعد وفات الأب في حرب تحرير الوطن

حارب الأب لضمان استقلال الوطن وحارب الابن في سبيل إرساء التعليم ومحاربة الجوع ومقاومة المرض وسيادة الكرامة.

فإذا كان أبوه قد حارب ضد الأجنبي فالابن يقاوم ضد فئة من أبناء جلدته رفضوا اعتبار المواطن إنسانا واجتهدوا في تضييق الخناق عليه، ولازال الابن يناضل لفك الحصار المضروب عليه وعلى دويه.

إنهم يعملويحصدون، من فاتح يناير إلى 31 دجنبر.يأكلون ما يحصدون، وفي الموسم المقبل يضطرون لشراء البذور ليزرعونها ويتمكنون من أكل ما يحصدون وهكذا دواليك دائما مثقلون بالديون.

ليس لديهم حسابات بالبنوك المحلية أو الأجنبية، ولا مدخول ولا ريع، مفروض عليهم تزويج بناتهم ليتسنى لهم اقتناء البذور لزراعتها وأكل المحصول
…تذكرت المرأة كيف كبرت جنبا لجنب مع الشاب، تذكرت الأفراح والأتراح التي اقتسماها …
تذكرت عملية "تويزة "ولحظة تعرفها على الحبيب عوض الصديق …تذكرت لحظة لقائها مع الكهل العامل بمركز الإصلاح الزراعي يوم كانت تتنعم بريعان ربيع شبابها، ذلك الرجل الذي حملت منه غصبا عنها .

..تذكرت بكاءها ودموعها المنهمرة عندما وعت بما حصل وغضب أبويها يحيط بها من كل جانب.

…نظرت إلى الشاب الواقف بجانبها وتذكرت عندما رماها بنظراته المعاتبة يوم وداعها لأبويها لمرافقة الرجل الذي لوثها.

تنهدت تنهيدة عميقة قائلة:

 مالك حزين ؟

أجابها والحسرة بادية عليه:

…وهل هناك ما يفرح ؟

أردفت:

 …لكن لا يمكنك حمل العالم على كتفك إنك لست الأطلس.

رد عليها:

 لا…لا…لم أخلق من أجل ذلك …

…مرت أمامها شاحنة محملة بالدقيق والزيت والملابس المستعملة، مرت بسرعة البرق …أرعبتهما …

تقول:

 يا لطيف، لماذا كل هذه السرعة ؟

يجيبها:

 لا بد أن يكون مسرعا لأنه على وسك تحقيق أرباح طائلة، إن الشاحنة محملة بهبات النرويج والسويد والبلدان الأوروبية، الأخرى لضحايا الجوع والفقر لكنها تباع في الأسواق «على عينيك يا بن عدي »

قاطعته قائلة:

 …إذن على فقراء وجائعي البلد الاتصال بالبلدان المانحة وتحذيرها وإخبارها إن معوناتهم لا تصل لدويها ليعلموا أن لا أجر لهم عند الله لأن ما يهبونه لا يصل لذوي الحقوق بل يباع في الأسواق لنفس الفقراء والجائعين، عليهم إيقاف ما يبعثون به والكف عن إرسال المساعدات لأن المستفيدين منها هم من لا حاجة لهم للمساعدة .

 هل أنت ضد المساعدات ؟

 لا…ولكن…كونها تنتهي إلى جيوب معلومة، جيوب الذين يتاجرون حتى في الجوع والفقر والحرمان .

وبينما هي تكلمه يسبح الشاب في التفكير …إنها امرأة عظيمة، هي أرملة الآن ولها طفل من الرجل الذي لوثها والذي لم تطقه قط …نعم …لم تعد جميلة كما كانت من قبل …كان علي أن تزوجها.

…همدت جثة الرجل المحمول بينهما، تنبها إلى رأسه المندل على صدره، لقد فقد الحياة، لفظ أنفاسه الأخيرة ولم ينتبها إليه.

خارج الدائرة

لقد مارس عددا من الحرف واستقر به الأمر في آخر المطاف كحارس لضيعة رجل ثري يقطن بالمدينة.

إنسان يكتفي بالقليل، ويقتنع حتى بأقل من القليل ما دام ضميره مطمئن، رجل بسيط في السلوك والمعاشرة، همه الوحيد أن يقوم بمهمته على أحسن وجه إرضاء لخالقه أولا قبل التفكير في أي شيء آخر.

زاهد في الدنيا، يكفيه العمل لآخرته قبل دنياه، يحرس الضيعة كأنها أمانة مودعة لديه، لا يسمح لنفسه قبل غيره بمساس ولو ثمرة من ثمار أشجارها .

فكم من مرة اشتهى ليمونة أو تفاحة لكنه تراجع عن ذلك حفاظا على الأمانة .

…يسير في كبد الليل، يطوف على الضيعة شجرة شجرة، وحينما يزداد الليل حلكة ووحشة يفترش الثرى ويناجي ربه بعيدا عن ضجيج المدينة وآفاتها.

…مدينة مكتظة إلى حد الانفجار، صاخبة إلى حد الاندثار، تكاثر فيها آكلو لحوم البشر وتجار الجوع والحرمان ومروجو الموت والدمار والمهمشون والمهملون من كل الأصول والأجناس.

…في ضاحية المدينة، بحي الهدوء والحلم بالغد الوردي، سيارة فخمة "آخر تقليعة "تمرق من باب فيلا راقية يقودها سائق بجانبه رجل ضخم البطن، محتقن الوجه دما، أصلع، في فمه "سيكار" مستورد قيمته تعادل مدخول عامل لمدة أسبوعين على الأقل، سيقذف به من النافدة بمجرد احتراق نصفه أو يكاد.

أتعبه عمل أسبوع وقرر قضاء عشية مشمشة بضيعته.

إنه يضطلع بمسؤوليات محلية وجهوية ووطنية ويشرف على عدة مصالح جماعية ولا سيما ما يرتبط بمصالحه الذاتية الشخصية، يراكم مهام الدفاع عن مصالح الجماعة والجهة والبلاد خدمة لمصالح خاصة به وبدويه.

أنتدب محليا لضمان الانتداب الوطني ،لأن الأول يسهل بلوغ الثاني الذي يمكنه من الاستفادة المادية والمعنوية والنفودية لاسترجاع ماتم صرفه للوصول للغاية ضعفا مضاعفا .

يسأل السائق:

 هل الحلي رجل معقول أو كالسابقين الذين كانوا يبيعون الغلة ويسمحون لأهل الدوار بالاستلذاذ بمذاقها قبل أصحابها …؟

يجيبه السائق:
 لا…والله، إنه حارس أمين يحرم حتى على نفسه قبل الآخرين مساس ولو ثمرة واحدة، إنه يعتبر حراسة الضيعة أمانة في رقبته و…

يقاطعه:

 جميل…لقد اشتهيت الليمون، هل حان وقته ؟

 نحن يا سيدي في بداية الموسم

…أمر صاحب الضيعة الحارس أن يأتيه بحبات من الليمون، وما هي إلا لحظة ووجد بعضها أمامه.تناول واحدة قشرها وقضم فصا منها فوجده حامضا، رماها ثم تناول أخرى قضم فصا منها فوجده كذلك حامضا فقال:

 اقطف لي حبات من شجرة أخرى

أتاه الحارس بحبات أخرى، تناول فصا من إحداها ثم من أخرى فوجدها حامضة فصرخ:

 أتكون حارسا لضيعتي منذ مدة ولا تعرف الحلو من الحامض حتى يتسنى لك إمدادي بأحلى ثمرات أشجارها …

يجيبه الحارس بتأني واتزان غير مبال بالنرفزة البادية على محيى المالك:
 لقد استأجرتني لحراسة الضيعة لا لأن أذوق ثمارها للتعرف على حلوها ومرها
يقاطعه معلنا:

مازال لك الوجه لمواجهتي، فالحارس الذي لا يناولني ما أريده وما نفسي فيه أنا في غنى عنه.

باب التوبة مفتوح على الدوام …

احترف السرقة والخروج عن القانون، يوما بعد يوم يتجدر أكثر في وسط الذين يعيشون بخرق القانون والسطو على ثروات الغير.

…في يوم صيفي التقى بفنفسها.ت بالجميلة ولا القبيحة، بين ذلك وذاك، أحبها وأحبته.أعماها الحب ووهبت له نفسها.

تستمر العلاقة وهي أحبها فعلابما يعمل.حملت فتزوجها لويفعل.ها فعلا.علمت بما فعل ويفعل.حاولت نهيه عن السرقة ودفعته للبحث عن عمل حلال لا سيما وأنه على وشك أن يصبح أبا عما قريب.

…يشتد عليها الألم هذا الصباح، يقودها إلى المستشفى، يطلب من الطبيبة حضور عملية الولادة وترخص له بذلك من وراء الزجاج.

…تتألم المرأةالمنتظرة، أن تغادر عيناها الزوج الواقف وراء الحاجز الزجاجي غير بعيد عنها، تحس بقرب منها، نظراته إليها تزودها بالقوة اللازمة لخلاصها.وتأتي اللحظة المنتظرة، يبدو الرأس الصغير البني أولا ثم يتبعه الجسد …

ينظر إلى المشهد بخشوع وانبهار، إنها أنثى، يحس بسعادة لم يسبق له أن أحس بمثلها من قبل لا سيما وأنه لم يكن لديه أي تفضيل جنس عن الآخر، أنثى أم ذكر لا يهم.

يحملق في الجسد الصغير الوردي المبلل، تصدر عنه صرخة، أول صرخة إعلانا على ولوج عالم الفناء.

يتوهج وجهه بفعل الفرح والسرور متصورا بنته تحبو ثم تحقق أول خطوة وتنطق بأول كلمة وأرادها أن تقول "بابا"دون غيرها من الكلمات، تصورها أميرة شعرها أسود سلس .

…يتحرك الجسد الوردي الصغير بين أيدي الطبيبة الماسكة به من الرجل اليمنى بنعومة متميزة والرأس مدلى إلى الأسفل.

 إنها بنت أمورة …أليس جميلا الإحساس بإعطاء الحياة والمساهمة في منحها ؟

…يحول نظره إلى الزوجة، العرق مازال يتصبب على وجهها، يدخل إلى القاعة ويمسك يدها وهو يطبع جبهتها بقبلة رخيمة.

تقول له بوهن:

 هل أنت سعيد ؟

 أكثر من سعيد، لقد وهبتني أمورة جميلة، سترين سنكون سعداء نحن الثلاثة.

…تصوبه بنظرة تنم عن الشك والتمني:

 هل تظن بأمانة وصدق أننا سنقدر على ذلك؟

فهم بيت قصيدها، يجيبها بشيء من الغضب:

 ولماذا لا؟

ترد عليه على التو:

 نعم …ولماذا لا؟

…تقودها الممرضة من قاعة العمليات إلى غرفتها، تضعها على السرير وتتركها رفقة زوجها

تحدق في عينيه برهة وتقول:

 أوعدني أن لا تفعل شيئا خلال وجودي هنا بالمصحة لأنه إذا حدثت لك واقعة أو أصابتك مصيبة ستكون نهايتي، أوعدني بذلك أرجوك.

 ليس لدي ما أعدك به، لا تقلقي، سأراك غدا

لم تنبس بكلمة.

في طريق العودة ملكته رغبة العودة إلى المصحة ليعدها بكل ما ترغب فيه لكن كبرياءه دفعه لعدم التفكير في الأمر ومسايرة طريقة للقاء أصدقائه
كان اللقاء بحانة، كانت الطاولة عامرة بقنينات الجعة والخمر، حولها رجلان وأكثر من امرأة يجلس بجانب واحدة ويغوص الجميع في الضحك والشرب.

في منتصف الليل يدعو الجميع إلى منزله، بعد أن بدأت الخمر تلعب بالأدمغة.

 هيا يا أصدقاء لنكمل السهرة في بيتي

يجيبه صديقه:

 والبنات ماذا سنفعل بهن ؟

 يذهبن معنا، هناك مكان للجميع، فأنا أعزب حاليا وحدي في البيت

…أنغام…موسيقى صاخبة تغمر البيت القنينات الفارغة في كل مكان مازالت شاهدة على أجواء الفجور

…يدخل عليه صديقه إلى غرفة النوم يجده مستلقيا على السرير بين أنثيين.حاملا زجاجة نبيد بيده وكأسا بالأخرى

يقول له متمتما:

 …كان عليك الاكتفاء بواحدة، إنك وغد …زوجتك بالمصحة وأنت برفقة مومسين وعلى فراشها

…يتوجه الصديق السكران يتمايل نحو المهد الصغير المعد للمولود، يضع به قنينة الخمر ويشرع في هدهدتها كأنها رضيع ثم ينحني ويقول:

 إن أباك وغد، شيطان، بل إننا كلنا أوغاد وشياطين

ثم بنبرة جدية يضيف:

 لم يكن من حقنا بتاتا أن نفحش في بيتك ونلوثه هذه الليلة بالذات التي ولدت فيها زوجتك المسكينة.يلتفت إليه وهو مستلقي على ظهره على السرير بين المومسين ويقول:

 عليك أن تطرد المومسات من هناك حالا وإذا لم تفعل فسأكون أنا الفاعل
تنبه إلى فضاعة الأمر وخساسة الموقف لأن لم يسبق له أن سمح لمومس بالصعود إلى فراش زوجته الطاهر.

هل فعلته هاته هي طريقة لشكر زوجته بعد أن وهبته بنتا ؟

بعد صمت يقول:

 أنت محق فيما قلت، أنا وغد، وحش بدون إحساس ولا عاطفة، لا أحترم المرأة التي أحببتها

…يأمر المومسات بارتداء ملابسهن ومغادرة المنزل توا

…ظل وحده مع صديقه الجالس بجانبه على الفراش يحدثه

 إن ما فعلناه اليوم ليس من شيم بني الإنسان، ولا يمكننا أن نتستر وراء الخمر، فهذا بيت زوجتك ومولودتها وليس "بوردي " …بالمناسبة هل اخترت اسما للأمورة ؟

 نعم …سميتها أمل

 أمل …اسم جميل …فالآن أصبحت أبا …ولعل الأمور ستتغير ؟

 لا لن يتغير شيئا وأنت تعرف هذا جيدا

 إذن سوف لن تتمكن من معاينة ترعرع ابنتك.

 لماذا؟

 لأنه آجلا أم عاجلا ستجد نفسك في السجن

 أعرف ذلك، إنه من المخاطر المرتبطة بما نقوم به

 …إنه خطر دائم الحضور …إنها مشكلتك …

…على امتداد خمسة أيام يزور زوجته بانتظام ويظللها.بها طويلا على فراش المصحة، كل يوم يجدها وضيئة وهي ترضع أمل الصغيرة بعشق وحنان.يجد به المنظر لدرجة الغرق في تأملات لا نهاية لها.

إنه يحب زوجته والأمر، فلماذا النظر إلى أنثى أخرى ؟ لم يستطع تفسير الأمر، بل يرى ذلك أمرا عاديا لا يلام عليه دون اعتبار الضرر الذي يلحقه بزوجته إذا علمت بذلك.يظن أن بيئته فرضت عليه الحياة كما يحباها، الإجرام والزنى والسكر والقمار والسرقة والسطو …ياله من إرث سيتركه لطفلته البريئة.

…يمسك الطفلة بين يديه ويساعد الأم على ركوب سيارة الأجرة للعودة إلى البيت، يتهيأ له أن أمل الصغيرة تبتسم له وهو ينظر إليها بإمعان، يحول نظره إلى زوجته محاولا قراءة أفكارها.

فبالنسبة إليها كان عليه أن يتوب ويغير حياته.لكنه تورط في دروب الإجرام لدرجة لا يستطيع معها تصور التراجع متناسيا أن باب التوبة دائما مفتوح وما عليه إلا الإرادة والتوكل على الله .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى