الاثنين ٤ تموز (يوليو) ٢٠١٦
بقلم هالة قزع

لماذا ندرس اللغة

اللغة البشرية ذات طبيعة إنسانية حبانا الله بها من بين سائر المخلوقات، وميزها بمميزات تختلف عن لغات الكائنات الأخرى. فإذا كانت لغة الكائنات الأخرى وسيلة من وسائل التواصل والتفاهم فيما بينها فإن اللغة الإنسانية تتميز وتتفوق عليها من حيث كونها عنواناً لهويتنا، ومصدر فخر واعتزاز لنا، فلم تعد اللغة مجرد أصوات من أجل التفاهم ومد الجسور فيما بيننا فقط، إذ لو كان الأمر كذلك لاكتفينا بأصوات محددة أو إشارات معينة يمكنها أن تؤدي غرض التواصل فيما بيننا، ولكن غرض اللغة يفوق ذلك بكثير، فهي تعبر عن الأفكار والمشاعر، وسائر العمليات العقلية المعقدة والبسيطة على حد سواء. ويحتاج الإنسان في كثير من الأحيان إلى التعبير عن هذه الأفكار التي تخاطب مستويات مختلفة من البشر إلى استعمال أساليب غير تقليدية في اللغة؛ فيلجأ إلى غير المألوف من المجاز، وتحميل الألفاظ من الدلالات والمعاني ما لم توضع له في الأساس، والأسباب القابعة خلف هذا الأسلوب متعددة منها على سبيل المثال: عدم قدرة المتكلم على البوح الصريح والمباشر بمكنون النفس، والأسباب في ذلك كثيرة منها: سياسية، أو اجتماعية، أو دينية، وقد يكون السبب افتقار اللغة إلى الألفاظ التي يمكنها أن تعبر عن هذه المشاعر والأفكار بطريقة تقليدية، فيلجأ المتكلم أو الكاتب إلى طرق مختلفة في التعبير كالاستعارات والمجازات والتصوير وغيرها من الأساليب ؛ لأنها تعبر بصورة أعمق وأدق وأجمل، حيث إنها ترسم لنا المشهد بطريقة فنية إبداعية فنقف أمامه مذهولين مندهشين من قدرته على التصوير وقدرة المشهد على التعبير والتأثير، ومن هنا تختلف القراءات من شخص إلى آخر، وهذه تتفرع بدورها إلى قراءات أخرى وهكذا إلى ما شاء الله كما قال المتنبي:

أنام ملء جفوني عن شواردها
ويسهر الناس جراها ويختصم

وبسبب هذه القدرة الهائلة للغات الإنسانية، وبسبب ارتباطها الوثيق بالنصوص الدينية كالسنسكريتية التي ارتبطت بنصوص الفيدا (الكتاب المقدس عند الهنود) أو العبرية التي كتب بها العهد القديم، والعربية التي نزل بها القرآن الكريم، بسبب هذا الارتباط لاقت اللغات الإنسانية بشكل عام اهتماماً كبيراً منذ القدم فقد أظهرت الشعوب اهتماماً واضحاً بالقضايا اللسانية، وكان ذلك نابعاً من تطلعهم إلى معرفة الطقوس الدينية، لا سيما الشكل الذي سجلت به اللغة في نصوصهم الدينية، وهكذا وصف الهنود اللغة السنسكريتية ووصفوا أصواتها، واهتموا بمعالجة القضايا اللغوية من الوجهة الآنية، واهتموا اهتماماً كبيراً بالنحو في مؤلفاتهم القديمة، وأوثق الشهود على ذلك بانيني الذي وصفه بلومفيلد بأنه واحد من أعظم معالم الذكاء البشري، وقد وصف السنسكريتية في أربعة آلاف معادلة وكان على وعي تام بأن اللغة نظام وكان يدرك فكرة المورفيم.

وكذلك كان للإغريق أو اليونان جهودهم الفاعلة في الدراسات اللغوية فقد تجاوزت الحدود الضيقة وصارت جزءاً من البحث الفلسفي لذا نجد لديهم جهوداً خاصة في تتبع أصل اللغة، وقد قاموا بدراسة اللغة دراسة وصفية صوتية، وبحثوا في العلاقة بين الكلمة وشكلها الصوتي، وأحكموا وضع نحو وصفي للغة اليونانية، ولكن ما قلل من قيمة هذا العمل أن الوصف لم يكن موضوعياً لسببين: أن تفسير الظواهر اللسانية كان موغلاً في التفلسف، واقتناعهم بأن اللغة اليونانية أعظم اللغات البشرية.
وقد تأثر بهم الرومان الذين كانوا تلامذة اليونان وورثتهم فنهجوا نهجهم وساروا على دربهم ولهم إسهامات كبيرة في الدراسات الصوتية، والصرفية، والنحوية، وفي تصنيف الكلام ودراسة بنية الجملة وغيرها من الدراسات.

أما في العصور الوسطى فقد برع العرب في الدراسات اللغوية بحق وكان الدافع والمحرك الرئيس لهذه الجهود القرآن الكريم والدين الإسلامي، إذ كانا بثابة قطب الرحى التي دارت حولها جميع الدراسات اللغوية بكافة أشكالها الصوتية، والصرفية، والنحوية، والدلالية، فبعد أن استقر الدين الإسلامي بدأ العلماء بمباحثهم اللغوية التي كان أولها نقط الإعراب في زمن علي بن أبي طالب على يد أبي الأسود الدؤلي، وكانت هذه بداية مرحلة الازدهار للدرس اللغوي عند العرب في جميع تخصصاته وأقسامه، ابتداء بدراسة الكلمة أو اللفظة، والحرف، والجملة، والدلالة،والنحو، والصرف والأصوات والبلاغة وغيرها من الدراسات اللغوية، فكان لهم إسهام هائل في الدرس اللغوي أفاد منه علماء الغرب بشكل كبير حتى إننا نجد جذوركثير من نظريات اللغة الحديثة في ثنايا كتب الجرجاني وابن جني وغيرهما.

مع بداية النصف الثاني من القرن الثامن عشر الميلادي شهد البحث اللغوي في الغرب تطوراً ويقظة لم يسبق لها مثيل وقد ازداد شهرة بعدما تم الكشف عن اللغة السنسكريتية، فاتصف البحث اللغوي بالطابع التاريخي والتاريخي المقارن حيث تم مقارنة اللغة السنسكريتية باللغات الأوروبية.

أما الدرس اللغوي في القرن العشرين فقد تأثر بالمنهج العلمي نتيجة لانتشار العلوم المختلفة في ذلك القرن فبدأت لسانيات القرن العشرين بإهمال الدراسات التاريخية والمقارنة وركزت على دراسة الوضع الآني فظهر المنهج البنيوي الذي يعتمد على المنهج العلمي التجريدي.

والمنهج البنيوي ينظر إلى الظواهر على أنها نظام وبناء وهيكل متشابك تتصل فيه الأجزاء مع بعضها البعض بعلاقات معينة، وأي خلل في هذه الجزيئات التي تشكل النظام يؤثر على النظام بأكمله، ولذلك بدأت المدارس اللسانية المختلفة تتبنى هذا المنهج البنيوي باعتباره صالحاً لدراسة اللغة، ولعل عالم اللغة دي سوسير أول من سار على هذا المنهج في دراسته للغة وقد عرف علم اللغة بأنه دراسة اللغة في ذاتها ومن أجل ذاتها، وبذلك أصبحت دراسة اللغة دراسة علمية تقوم على تحليل العناصر ودراستها دراسة علمية بحتة.

وهكذا توالت الدراسات اللغوية والمدارس اللسانية الحديثة بعد ذلك معتمدة على غيرها من الدراسات اللغوية والنظريات السابقة؛ لأن المعرفة تراكمية بالأساس وكل مدرسة لسانية جديدة لا بد أن تفيد من التي سبقتها، فقد تؤيدها وتبني على ما جاءت به وتزيد عليه، أو قد تنقضها وتبني على أنقاضها نظرية جديدة مخالفة لها، ومن المؤكد أن المدارس الحديثة قد أفادت من الدراسات اللغوية في القرن التاسع عشر والثامن عشر ومن قبلهما أفادت من الهنود والرومان والإغريق وكذلك العرب، ولعل تأثرها بالعرب كان الأكبر وذلك بسبب الحضارة العربية العظيمة التي وصلت إلى معظم دول أوروبا وآسيا معربة عن وتيرة فكرية عالية، ورؤية مستقبلية نافذة، مما كان له الأثر الكبير فيما تلاها من حضارات ولعلومهم أكبر الأثر فيما تلاها من علوم على اختلافها.

ونحن إذ نذكر فضل العرب في هذه العلوم اللسانية وغيرها لا ننكر فضل غيرهم فقد قدموا للبشرية خدمات كبيرة، وخطوا خطوات واسعة في الدراسات اللغوية والبحوث اللسانية.

وإذا وجدنا جذور بعض النظريات اللغوية الحديثة عند العرب فإن ذلك لا ينفي فضل العلماء المحدثين في صياغتها على شكل نظريات لها أصول وقواعد محددة فتحت المجال أمام دراسات متعددة حققت نجاحات هائلة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى