الأحد ٢٢ تموز (يوليو) ٢٠٠٧
بقلم محمود الغيطاني

ليلة ساخنة...رحلة كابوسية في ليل القاهرة

في الأربعينيات من القرن الماضي أطلق المخرج الإيطالي "روبيرتوروسلليني" مقولته السينمائية الشهيرة (قبل كل شئ علينا أن نعرف الناس كما هم، يجب أن نحمل الكاميرا وننطلق إلى الشوارع والطرقات وندخل البيوت، إذ يكفي أن نخرج إلى أي منعطف ونقف في أي مكان، ونلاحظ ما يدور بعيون يقظة لكي نخرج فيلما سينمائيا ايطاليا حقيقيا).

ربما كانت هذه المقولة السينمائية الهامة التي أطلقها "روبيرتوروسلليني" معبرة عن وجهة نظر تحمل قدرا ما من الأيدلوجية بعد اندحار الفاشية؛ ولذلك رغب في الخروج إلى الشارع والتعرف على الناس واتجاهاتهم ورغباتهم وأحلامهم وآمالهم في مقابل المد الفاشي المنصرم، إلا أنها في ذات الوقت كانت بداية حقيقية لسينما الواقعية التي بدأت تسود العالم منذ ذلك الحين، حينما خرجت الكاميرا المحمولة إلى الشارع، ولعل فيلمه الهام "روما مدينة مفتوحة"1944 (الذي عبر عن معاناة سكان مدينة روما تحت الاحتلال الألماني، المدينة التي ما زالت تعاني أهوال وخراب الحرب، والذي قدمه عام 1945 كمانفيستوللمدرسة الجديدة التي أطلق عليها اسم الواقعية الجديدة) بعد اندحار الفاشية خير دليل على ذلك.

ولكن، لعل السبب الأساس الذي أدى لبداية ظهور السينما الواقعية في ايطاليا ومن ثم انتشارها فيما بعد في جميع أرجاء العالم، هوتلك الأزمة الاقتصادية الطاحنة التي مر بها العالم وعلى وجه الخصوص أوروبا إبان الحروب العالمية في ثلاثينيات وأربعينيات القرن المنصرم؛ مما أدى إلى إفلاس الكثير من المصارف المالية التي كان يلجأ إليها جميع صنّاع السينما تقريبا للصرف على البلاتوهات واستوديوهات السينما، وما تحتاجه تلك البلاتوهات من أدوات وكاميرات وروافع وما إلى ذلك، وهنا وقع جميع صناع السينما الإيطالية في مأزق عدم وجود الموارد المالية التي لابد من توافرها من أجل إنتاج أفلامهم المزمع صناعتها، إلا أنهم للخروج من تلك الأزمة الطاحنة المهددة لصناعة السينما عندهم بالموت فكروا في الخروج إلى الشارع والتصوير في المنازل بدلا من البلاتوه؛ فحملوا الكاميرا على أكتافهم، وكان خروجهم إلى الشارع إيذانا بمولد موجة جديدة في السينما العالمية أطلقنا عليها اسم الواقعية الجديدة التي تمتح مادتها الخام من البشر العاديين الذين دخلوا لأول مرة داخل الكادر كخلفية بشرية- حقيقية وحية- للممثلين الحقيقيين- سواء كان هذا الدخول بأصواتهم فقط أم بأجسامهم أيضا-؛ وبالتالي اكتسبت صناعة الأفلام السينمائية المزيد من الصدق والموضوعية والواقعية لأنها تعاملت مع الطبيعة التي يعرفها الناس- لا الطبيعة المصنوعة داخل البلاتوه-.

ولكننا نلاحظ أن هذا الاتجاه على الرغم من أهميته في تاريخ السينما العالمية، إلا أنه كان وليد المصادفة البحتة- بمعنى أنه لم يكن مرتبا له أومبنيا على نسق فكري معين في بدايته- نتيجة الظروف الاقتصادية التي مرت بها صناعة السينما في ذلك الوقت، إلا أن هذا الاتجاه بدأ ينتشر في العالم كله ويلاقي الكثير من القبول والإعجاب فيما بعد.

وفي أواخر السبعينيات من القرن الماضي وبداية الثمانينيات كانت السينما المصرية تسبح في لجة مظلمة بسبب الكثير من الأفلام التي لا تمت للسينما بصلة، والبعيدة عن عالمها الحقيقي كل البعد، تلك الحقبة التي أطلقنا عليها ما أسميناه بأفلام سينما المقاولات التي اتخذت من السينما وسيلة هامة من وسائل التربح فقط دون الاهتمام بصناعة السينما كصناعة جادة، وبالتالي كان الكثيرون من المنتجين والمخرجين يهتمون بصناعة أفلام والقيام بتعليبها في شرائط فيديودون الاهتمام بالعرض السينمائي من أجل تصديرها وبيعها لدول الخليج التي تغدق عليهم الكثير من أموال النفط- التي لن تأتيهم من السوق السينمائي المصري إذا ما اهتموا بصناعة سينما جادة- إلا أنه في تلك الآونة بدأت بعض الأصوات السينمائية الجديدة، والجادة في تعاملها مع ذلك الفن البصري في الظهور على السطح الآسن لثقافتنا السينمائية، ولقد كانت تلك الأصوات تحمل الكثير من الهموم والآمال والطموحات والثقافة البصرية ما يؤهلها لإحداث ثورة من حيث المضمون والشكل في صناعة السينما المصرية آنذاك، لاسيما أنهم كانوا يعملون في مجال السينما منذ فترة ليست بالقصيرة، إما من خلال صناعة الأفلام التسجيلية مثل "خيري بشارة" الذي قدم "صائد الدبابات"1974 وغيرها من الأفلام التسجيلية التي كان آخرها- قبل بدء مرحلة السينما الروائية- "حديث الحجر"1979 ، "داود عبد السيد" الذي قدم كذلك العديد من الأفلام التسجيلية الهامة منها "وصية رجل حكيم في شئون القرية والتعليم"1976 ، كذلك فيلمه "العمل في الحقل"1979 وغيرها من الأفلام الهامة، و"محمد خان" أيضا الذي خرج من كنف السينما التسجيلية، أوالعمل بكتابة السيناريومثل المخرج "رأفت الميهي" منذ بدايته عام1967 بسيناريوفيلم "جفت الأمطار" للمخرج "سيد عيسى"، حتى آخر سيناريوكتبه لغيره من المخرجين عام1975 "على من نطلق الرصاص" للمخرج "كمال الشيخ".

وهنا رأينا فيلم "ضربة شمس" أولى أفلام المخرج "محمد خان" الروائية الطويلة عام1980 الذي كان إيذانا بميلاد موجة جديدة في السينما المصرية أطلقنا عليها اسم الواقعية الجديدة أوالسينما الجديدة- كما يفضل الناقد أحمد يوسف أن يطلق عليها- التي اهتمت اهتماما خاصا بالخروج إلى الشارع وتصوير الناس والحياة الطبيعية ومعاناتهم من خلال الكاميرا المحمولة- تماما كما كان الأمر في السينما الواقعية الإيطالية- ومن ثم تتالت علينا في فترة قصيرة العديد من الأفلام التي تهتم بهذه الروح الجديدة للعديد من الأسماء التي انحصرت في "رأفت الميهي" وفيلمه "عيون لا تنام"1981 ، "خيري بشارة" وفيلميه "العوامة70 "، "الأقدار الدامية"1982 ، "عاطف الطيب" وفيلمه "الغيرة القاتلة"1982 ، "داود عبد السيد" وفيلمه "الصعاليك"1985 بالإضافة إلى "محمد خان".

إلا أننا نلاحظ أن ظهور الواقعية الجديدة في السينما المصرية لم يكن وليد المصادفة كما حدث في السينما الإيطالية؛ فلقد كانت ظروف صناعة السينما المنهارة تماما في ذلك الوقت، وانهيار الكثير من الأحلام والآمال الكبرى الممثلة في الحلم القومي والمد الناصري وانتكاسة1967 بهزيمتنا القصوى، هذا فضلا عن إطلاع جميع هؤلاء المخرجين على جميع التيارات والمدارس السينمائية ومنها بالضرورة الواقعية الإيطالية، وغير ذلك الكثير، إرهاصا لبداية تخلّق اتجاه جديد لابد أن يعلن عن نفسه في السينما المصرية.

ولعلنا نلاحظ أن المخرج "عاطف الطيب" كان من أكثر مخرجي الواقعية الجديدة ظهورا وانتشارا وتميزا، لا لأنه أجودهم فنيا؛ ولكن لأنه كان أكثرهم التصاقا بالجماهير وتعبيرا عن الطبقات الكادحة من الشعب المصري والتعبير عن آمالهم وآلامهم وطموحاتهم ومعاناتهم الشديدة التي استطاع نقلها إلى شاشة السينما بصدق، ولعل فيلمه الثاني "سواق الأتوبيس"1983 يعد من أكثر أفلامه واقعية وميلودرامية أيضا واقترابا من الناس ومعاناتهم حينما قدم سائق الأتوبيس الذي يحاول باستماتة إنقاذ ورشة والده من البيع في المزاد العلني في حين أن الجميع غير مهتمين بذلك وما صاحب هذا من أخلاقيات الأنا التي ابتعدت عن الاهتمام بالغير، تلك الأخلاق الجديدة التي صاحبت فترة الانفتاح الاقتصادي وما صاحبها من تغير قيمي وأخلاقي وسلوكي، ثم تتالت أفلام المخرج "عاطف الطيب" فيما بعد فقدم عام1984 فيلمه "الزمار" الذي منعته الرقابة منعا باتا من العرض الجماهيري، وإن كان قد شارك في مهرجانات موسكو، برلين، القاهرة- نظرا لما يحمله من رسالة ثورية تحث الناس على المطالبة بحقوقهم- على الرغم من تجريدية الفيلم وابتعاده التام عن السياق الواقعي الذي يميز سينما "عاطف الطيب" واعتماده أكثر على الفكرة- إلا أنه سمح له بالتداول على أشرطة فيديوفقط- ثم رأينا عام1986 ثلاثة أفلام هامة دفعة واحدة وهي "الحب فوق هضبة الهرم"، "ملف في الآداب"، "البرئ" وهنا نلاحظ أنه اقترب في فيلميه الأوليين كثيرا من معاناة الطبقات الكادحة والبرجوازية في المجتمع المصري، فنراه في الفيلم الأول يصور معاناة شابين تزوجا ولا يستطيعا إيجاد شقة يمارسا من خلالها حياتهما الطبيعية، إلى أن يندمجا- في لحظة عاطفية وفي مفارقة واضحة تحت سفح الهرم- في ممارسة حبهما فيتم القبض عليهما بدعوى الفعل الفاضح واتهامهما بدلا من اتهام المجتمع والسلطة اللذين يتحملان العبء الأكبر مما حدث، بينما نراه في الثاني يقدم فتاة يعرض عليها أحد الشباب الزواج وبالتالي فلم تكن تتخيل أن ذهابها معه هي وصديقيها ورئيسها في العمل لرؤية شقته التي يمتلكها في وسط البلد ستكون سببا لاتهامهم جميعا بالدعارة من قبل أحد الضباط المصابين بالبارانويا- وما أكثرهم، وكأن وزارة الداخلية حريصة على اختيار المرضى النفسيين ليكونوا ضباطا أوأنهم يتعلمون مثل هذه الأمراض داخل كلية الشرطة-، إلا أنه في فيلمه الثالث يكاد يكون تخطى الخطوط الحمراء رقابيا وسياسيا بحديثه عن بطش السلطة وما يدور في المعتقلات من تعذيب وقتل وإهانة؛ وبالتالي حدثت لهذا الفيلم مجزرة رقابية وتم منعه من العرض ولم يتم الإفراج عنه إلا بعد حذف مشهد النهاية الذي يعد أهم ما في الفيلم لاكتمال رسالته الثورية التي يرغب في قولها.

ومن هنا نلاحظ ملاحظة هامة مفادها أن اهتمام "عاطف الطيب" بالتعبير عن الطبقات الكادحة والبرجوازية ومعاناة القسم الأكبر من المجتمع المصري كان هوشغله الشاغل وهاجسه الذي يؤرقه دائما، ولقد كان يرجع دائما السبب في مثل هذا الاهتمام إلى بطش السلطة واختلال النظام السياسي الذي نعيش في ظله، نلاحظ ذلك في قوله (مشكلات الطبقة المتوسطة التي أعبر عنها سينمائيا ناتجة في أغلبها عن قهر سياسي.. انه القهر الذي تواجهه إذا دخلت أي قسم بوليس في مصر.. فلن تعامل معاملة كريمة إلا لوكنت رئيس جمهورية.. إحساس المواطن بالقهر يجعله في حالة كمون مرعب.. وأرى أن مهمتي كمخرج هي تحضير هذا المواطن وتجهيزه للحظة الانقضاض، وإقناعه أن الكلام في السياسة ليس تطاولا) ولهذا بدت جميع أفلامه تقريبا وكأنها رسالة تحريضية للمواطن المهضوم حقه، الذي يعاني ليل نهار من تلك السلطة الغاشمة التي تنتهكه ساعة بعد أخرى.

ولذلك لم يكن غريبا على "عاطف الطيب" أن يقدم لنا فيلمه "ليلة ساخنة" الذي نراه أكثر أفلامه على الإطلاق اكتمالا فنيا سواء من ناحية السرد السينمائي أومن ناحية المضمون- على الرغم من يقيننا التام أن فكرة الكمال الفني هي فكرة منتفية دائما لأنه لا يمكن لها أن تحدث- ولعل هذا الاكتمال الفني له من العوامل المساعدة "لعاطف الطيب" الكثير الذي أدى إلى خروج فيلمه في النهاية بمثل هذا الشكل الفني الناضج، وقد يكون من أهم هذه العوامل أن كاتب السيناريوهوالسيناريست المخضرم "رفيق الصبان" بينما كتب الحوار "محمد أشرف"، وقد شارك السيناريست المميز "بشير الديك" كليهما في كتابة السيناريووالحوار.

وبالرغم من إيماننا بأن المخرج الجيد لا يمكنه صناعة فيلم سينمائي محترم فنيا إلا إذا كان بين يديه ورقا مكتوبا بشكل جيد، ففي المقابل أيضا نرى أن الورق الجيد لا يمكن أن يصنع مخرجا جيدا، ومن هنا فقد اجتمع عاملان هامان لصناعة هذا الفيلم- الورق الجيد، والمخرج الواعي الجاد- بالإضافة إلى عامل آخر أكثر أهمية وهوالنضج الفني والخبرة التي اكتسبها "عاطف الطيب" منذ بدايته عام1982 حتى قام بإخراج هذا الفيلم الذي خرج بهذا الشكل المكتمل.

ولذلك رأينا "عاطف الطيب" في هذا الفيلم أكثر روية، وأكثر بعدا عن الميلودرامية، بل وأكثر اهتماما بمعاناة الطبقة البسيطة- العريضة- من المجتمع المصري، تلك الطبقة التي لا يهتم بها الكثير من صناع السينما على الرغم من أن معاناتهم تكاد تكون فانتازية بشكل عبثي وكأنها خارجة من مسرح اللامعقول لدى "يوجين يونسكو"، "صمويل بيكيت"، فرأيناه يعبر عنها ويتحدث بلسانهم وإحساسهم حتى لقد بدا الفيلم وكأنه نقلا تاما وكاملا لحياة كاملة من المعاناة والقهر لأناس تحاول نسيان قهرها وأزماتها ومعاناتها من أجل محاولة الحياة، ومن هنا كان الفيلم حياة حقيقية شديدة الواقعية والتأثير وليس فيلما يؤديه مجموعة من الممثلين.

وربما كان أهم ما يميز "ليلة ساخنة" أنه قد اتخذ تيمة الرحلة أوالطريق مسارا لهذا الفيلم العميق الذي يدور في ليلة واحدة داخل أعماق ليل القاهرة وهي ليلة رأس السنة (الكريسماس) لنكتشف من خلال هذه الليلة/الرحلة مجتمعا يمور بالكثير جدا من التناقضات التي بدت لنا على الرغم من إحساسنا بها وحياتنا داخلها يوميا وكأنها غريبة علينا لم نرها من قبل ولم نعرفها- وهذا هوسمة الإبداع الجيد الصادق الذي ينقل لنا العادي المألوف وكأنه غريب علينا لأول مرة نلمسه ونعيشه، فيؤثر فينا ونتأثر به، ومن ثم لابد أن نتساءل في نهاية الأمر (لما يحدث كل ذلك للملايين من المصريين الذين أهينت كرامتهم بمثل هذا الشكل؟ ولما تفعل بنا السلطة كل ذلك؟)-.

ولعل تيمة الرحلة أوالطريق ليست بجديدة على سينما "عاطف الطيب" الذي قدمها من قبل في بداياته الأولى من خلال فيلمه الهام "سواق الأتوبيس"1983 ، كذلك نستطيع ملاحظة تيمة الرحلة في فيلمه "دماء على الإسفلت"1992 حينما عاد الأخ الأكبر (نور الشريف) من الخارج ليجد أسرته شديدة التفكك، كل شخص في طريق، فيبدأ رحلة البحث والتحري عن كل من شقيقه وشقيقته خاصة بعد اتهام والده بالسرقة لأحد ملفات القضايا الهامة فيفاجأ في النهاية بأن شقيقته قد تحولت إلى فتاة ليل وتتعاطى الهيروين هي وشقيقها الآخر، كذلك فيلمه الهام "كشف المستور"1994 الذي يصور "سلوى"( نبيلة عبيد) التي حاولت تماما نسيان ماضيها في العمل المخابراتي- كداعرة تخدم الوطن على السرير- وفضلت أن تعيش كسيدة مجتمع مرموقة، إلا أن بعض رجال المخابرات لا يتركونها وشأنها ومن ثم يطالبونها بعملية جديدة على فراش أحد الدبلوماسيين العرب، وهنا تبدأ رحلة البحث عن رئيسها المخابراتي السابق (يوسف شعبان) الذي أكد لها هي وزميلاتها حينما قررن ترك هذا العمل أن جميع الملفات والصور والشرائط الخاصة بهم قد تم إحراقها، إلا أنها اكتشفت الآن بأنها مهددة بفضحها من خلال هذه الصور والشرائط إذا لم ترضخ لمثل هذه العملية، ومن خلال رحلة بحث طويلة لمحاولة التأكد من ذلك يدور الفيلم، كي يكتشف رئيسها السابق-معها- أن الجميع وهومنهم قد تم خداعه تحت ستار خدمة الوطن في حين كان الأمر في حقيقته لا يعدوأكثر من دعارة وقوادة تقوم بها الدولة والسلطة نفسها، ولقد تم حذف دور "يوسف شعبان" بالكامل تقريبا كضابط مخابرات سابق في هذا الفيلم بأيدي السيد الرقيب، ولعل هذا ليس بالغريب على سينما "عاطف الطيب" الذي تعرضت جل أفلامه للبتر والحذف والمنع، بل واتهامه أيضا هووجميع طاقم العمل معه في فيلم "ناجي العلي"1992 بالخيانة والعمالة نظرا لأنه في جميع أفلامه تجاوز الخطوط الحمراء في مهاجمة السلطة وكشف زيفها.

نقول أن تيمة الرحلة/الطريق في أفلام "عاطف الطيب" لم تكن بغريبة عنه، إلا أنها لم تكن واضحة تماما بالمعنى المألوف لدى العامة إلا من خلال فيلميه "سواق الأتوبيس" الذي دارت معظم أحداثه في الأتوبيس، وفيلمه "ليلة ساخنة" الذي دارت أحداثه كلها تقريبا في التاكسي.
ولذلك نرى "حورية" (لبلبة) الفتاة الفقيرة التي تحاول الحياة بشرف بعد أن تناست تماما ماضيها كفتاة ليل وفضلت العمل كفرّاشة وخادمة كي تنفق وتربي شقيقتها الصغيرة الطالبة، إلا أن "عاطف الطيب" يحرص منذ بداية الفيلم على الإفصاح عن أزمتها المالية القصوى، فهي في حاجة ماسة لمبلغ قد نراه نحن شديد البساطة بينما هوبالنسبة لها ضخما ضخامة الجبال، وهومبلغ ثلاثمائة جنيه كي تشارك في ترميم البيت الذي تسكن فيه، والذي نجا من الزلزال وإلا سيتم طردها إلى الشارع بلا مأوى؛ ولذلك نراها تفكر في بيع السلسلة الذهبية المزينة لعنقها كي تدفع المبلغ بدلا من التشرد في الشارع، إلا أن جارها وزميلها في العمل "لمعي" (محمد شرف) يطلب منها التخديم على مجموعة من السهارى الذين سيقضون ليلة رأس السنة في إحدى العوامات، وحينما تعترض على ذلك رافضة ومؤكدة أنها تركت حياتها الماضية تماما وترغب الحياة بشرف نراه يؤكد لها أنها ستقوم بخدمتهم فقط وتقديم المشروبات والثلج وأن أقصى ما يمكن حدوثه هوالقيام بالرقص لهم إذا اقتضى الأمر في مقابل مبلغ خمسمائة جنيه؛ ولأنها في حاجة قصوى للمال وإلا تم طردها من منزلها توافق على مضض مؤكدة عليه أنها لن تقوم بأكثر من الخدمة والرقص إذا تطلب الأمر ذلك، لكنها تفاجأ بسائق (الرجل الكبير) صاحب السهرة يهددها مستخدما مطواته إذا لم تدخل الغرفة مع سيده لمضاجعته، وبالتالي تضطر إلى الاستسلام تحت ضغط التهديد وحاجتها للمال، في حين أن الرجل لا يفعل أكثر من وضع رأسه على صدرها والبكاء ثم يعطيها المال بسخاء مما يجعلنا نظن أن أزمتها قد انتهت، إلا أن سائقه "زقزوق" (حسن الأسمر) يدخل عليها الغرفة ليأخذ منها المال عنوة، بل ويستولي على سلسلتها الذهبية التي كانت هي الحل الوحيد للخروج من أزمتها، ثم يقوم بضربها وطردها من العوامة وإلقائها في الشارع.

ولعلنا نلاحظ هنا ملاحظة هامة ساقها المخرج "عاطف الطيب" بذكاء في طيات فيلمه، وهي أن جميع أفراد هذا المجتمع- الهش والمتفسخ على الرغم من بساطتهم ومعاناتهم جميعا إلا أن الجميع- يسطوعلى الجميع بقسوة غير مألوفة وكأننا في مجتمع يأكل فيه القوي الضعيف حتى الموت، فنرى حارس العوامة المعدم حينما يلمح "حورية" (لبلبة) داخلة للعوامة يستوقفها مستفسرا ولا يسمح لها بالمرور إلا بعد جباية مبلغ خمسة جنيهات (كتذكرة) أورسم دخول، كذلك السائق "زقزوق" (حسن الأسمر) يتعدى عليها بالضرب وسرقة أموالها وسلسلتها الذهبية وطردها للشارع وغير ذلك من المواقف الكثيرة في الفيلم، ولكن بالرغم من تلك القسوة التي يتعامل بها هؤلاء البسطاء مع بعضهم البعض لا نستطيع امتلاك دليل إدانة واحد ضدهم أومبرر واحد لكراهيتهم؛ نتيجة لأن "عاطف الطيب" قدمهم كشخصيات مطحونة راغبة في لقمة العيش بأي سبيل نتيجة السياسات السلطوية والاقتصادية المنهارة التي يمر بها المجتمع المصري على أيدي حاكميه منذ فترة ليست بالقصيرة، هذا فضلا عن سياسات القهر السلطوي، فيبدولنا الأمر دائما وكأنه تفريغ لطاقات القهر المخزونة داخل هؤلاء الأشخاص على بعضهم البعض بما أنهم غير قادرين على توجيه هذه الطاقة في اتجاه السلطة؛ فالسلطة تقهر الجميع من الفقراء، والفقراء يقهرون من هم أضعف منهم في متوالية دائمة حتى نصل إلى الحلقة الأضعف التي لا خيار أمامها سوى الاستسلام أوالانهيار بترك مجتمع القهر الفوضوي بالموت.

وبالتالي نرى "حورية"(لبلبة) تحاول الهروب والاستغاثة بأية سيارة مارة، ومن ثم تتوقف في عرض الطريق أمام التاكسي الذي يقوده "سيد" (نور الشريف) والذي يمر بأزمة اقتصادية طاحنة هوالآخر نتيجة لإصابة حماته- التي تقوم برعاية ولده المعاق ذهنيا بعد وفاة زوجته- بجلطة في أول الليل، وحينما يسرع بأخذها إلى المستشفى يفاجأ بضرورة دخولها العمليات في الصباح الباكر، ولكي يتم ذلك تطلب منه الممرضة العديد من الطلبات المستحيلة بالنسبة له قائلة (عايزين أنبوبة أكسجين دلوقتي حالا، وواحدة تانية عشان العملية بكرة، ودوا، وشاش وبنج لزوم العملية) وحينما يسألها (عدم المؤاخذة، هي دي مش مستشفى حكومي؟) ترد ساخرة (آه، بس ما فيهاش الحاجات دي، كفاية انك مش حتدفع للدكتور أجرة ايده، ولا حتدفع فتح أوضة عمليات، ولا أجرة دكتور بنج) في نقل قوي وصريح وواضح لما يدور في مستشفيات مصر من إهمال وفوضى واستهانة بأرواح المرضى من الفقراء على الرغم من ادعاء النظام الحاكم ليل نهار أن هذه المستشفيات مجهزة لخدمة المواطنين وإنقاذ أرواحهم، وكأنهم يتحدثون إلينا من بلاد (واق الواق) ولابد منا نحن البسطاء تصديق أكاذيبهم التي يختلقونها كي يصدقونها هم باعتبارنا نعيش في كوكب المريخ، وبالتالي يقع "سيد" (نور الشريف) في مأزق الحصول على مبلغ ثلاثمائة جنيه خلال هذه الليلة وإلا لن يقوم الطبيب بإجراء العملية لحماته في الصباح، فنراه يعد الممرضة بالإتيان بالمبلغ في الصباح معتمدا على أن الليلة رأس السنة وربما يرزقه الله بهذا المبلغ أثناء قيادته الليلية.

ولكن لابد من ملاحظة أن "عاطف الطيب" قد استطاع بمهارة وحذق فني وذكاء بالغ إدخالنا إلى عالمه الذي يرغب في تقديمه دون افتعال أواختلاق للأحداث لتبدأ رحلة ليلية شديدة الكابوسية لكل من "حورية" (لبلبة)، "سيد"(نور الشريف) طوال الليل القاهري الساهر في ليلة رأس السنة، فتتمثل كابوسيتها بالنسبة "لحورية" في البحث عن "زقزوق" (حسن الأسمر) الذي سرق مالها وسلسلتها الذهبية- أملها الوحيد في عدم التشرد- وبالنسبة "لسيد" في الحصول على المبلغ- أمله الوحيد في إجراء العملية لحماته التي ترعى ولده الوحيد- ومن هنا تتلاقى أزمتيهما في طريق واحد، ولأنها تحكي ظروفها "لسيد"(نور الشريف) وتتوسل إليه مساعدتها في العودة إلى العوامة باعتباره قريبها- لأنهم إذا وجدوا معها رجلا ربما يخشونه ويعيدون إليها أموالها- يوافق بشهامة ويذهب معها ليجدهم قد خرجوا للسهر في أحد كباريهات شارع الهرم، وهنا تتوسل إليه أخذها هناك للبحث عنهم قائلة أن الخمسمائة جنيه في كل الأحوال كانت ضائعة فإذا ما ذهب معها ستعطيه نصفهم وتأخذ هي النصف الآخر، ولأنه لم يستطع ترك فتاة ضعيفة وحدها في مثل هذا المأزق، ولأن الظروف كانت دائما في غير صالحه منذ بداية الليل وكأن القدر يصر على إحكام أزمته، فنراه بعد أن يتفق مع أحد الزبائن على عشرة جنيهات مقابل توصيله من وسط البلد إلى عين شمس يخل الرجل باتفاقه معه حينما يصل إلى منزله ويصر على إعطائه خمسة جنيهات فقط بل والادعاء بأنه- سيد- حاول الاعتداء عليه وبالتالي يتم تحرير مخالفة له وسحب رخصة قيادته من قبل أمين الشرطة المتواجد، ومرة أخرى حينما يطلب منه أحد الزبائن إيصاله إلى الإسكندرية في مقابل مائتين من الجنيهات ويوافق على ذلك، يقابل ذلك الزبون أحد أصدقاءه الذي يقود سيارته الخاصة في بداية الطريق فيفضل النزول من التاكسي للعودة إلى الإسكندرية مع صديقه وبالتالي تضيع عليه المائتين جنيه، ولذلك يوافق "سيد"(نور الشريف) على الذهاب معها في رحلة البحث عن هؤلاء الذين سطوا عليها لتصبح رحلة أشبه بالبحث عن المستحيل.

ولقد لاحظنا أن الفنان (نور الشريف) كان في أنضج حالاته الفنية في هذا الفيلم؛ فرأينا على وجهه ملامح الحيرة والانكسار وقلة الحيلة طوال مشاهد الفيلم ولعل السبب في ذلك عمله مع مخرج متمكن من أدواته الفنية مثل (عاطف الطيب) الذي استطاع بذكاء تقديم (لبلبة) ربما هي للمرة الأولى في هذا الشكل الناضج فنيا الذي لم نرها فيه من قبل، بل واكتشاف الكثير من قدراتها الفنية التمثيلية، فنراها تقول بصدق مؤثر (اللي زينا ينزل يشتغل ويطلع عين اللي خلفوه على ما يجيب الجنيه) فيرد عليها بائسا (ويا ريته بيروّح بيه).

ولعل هذا الذكاء لدى "عاطف الطيب" الذي جعله يلمح تلك المقدرة الفنية عند (لبلبة) هوما جعله أيضا يلتقط بذكاء فني الكثير من تحولات المجتمع الجديدة الظاهرة في المجتمع المصري؛ فنرى "سيد"(نور الشريف) حينما يحاول المرور بسيارته (التاكسي) من أحد الشوارع الرئيسية يجده مغلقا بمجموعة ضخمة من الملتحين الواقفين للاستماع إلى شيخهم الواعظ لهم والمعترض على الاحتفال بالكريسماس، والراغب في ذات الوقت بتطبيق حد الزنا، وحينما يرغب "سيد"(نور الشريف) في المرور يقوم أحد الملتحين بضرب مقدمة سيارته بعصا غليظة في يده قبل السماح له بالمرور مما يؤدي إلى إتلافها.

وهكذا نرى العديد من العوامل الكابوسية والمعطلة لهما في طريقهما/رحلتيهما للبحث عن أموالهما، فتارة يطارده مجموعة من الشباب العابث الذين يلمحون "حورية"(لبلبة) معه في التاكسي ويصرون على أخذها منه لقضاء الليلة معها، وتارة يجد تاكسي قد اضطرمت فيه النيران فيضطر إلى الهبوط لمحاولة الاشتراك في إطفائه، وتارة ثالثة يعود إليه مجموعة الشباب الذين يختلقون معه عراكا لأخذ "حورية" بالقوة وحينما يدافع عنها يضربونه على رأسه بعصا غليظة ويهربون مما يؤدي إلى جرح رأسه ونزيفه، وهكذا تتحول رحلة البحث طوال الليل إلى كابوس طويل لا ينتهي.
إلى أن يركب معه "البنهاوي"(سيد زيان) للتوجه إلى المطار، ثم يطلب منه الذهاب إلى أحد الأماكن قبل الاستمرار في طريقهما، وهناك تحدث مشادة بينه وبين(عزت أبوعوف) لأن "البنهاوي"(سيد زيان)- الذي يقوم بتهريب الشباب إلى اليمن ومنها إلى أفغانستان لتفريخ المزيد من الإرهابيين، بالإضافة إلى متاجرته في المخدرات- يرفض إعطاؤه كل المبلغ المتفق عليه، وهنا تحدث مطاردة دامية بين التاكسي الذي يقوده "سيد"(نور الشريف) وبداخله "البنهاوي"(سيد زيان) وبين (عزت أبوعوف) ومن معه، لتنتهي المطاردة بمقتل "البنهاوي" على يد مطارديه؛ فيضطر كل من "سيد"، "حورية" للهروب، إلا أنهما يكتشفا أن حقيبة "البنهاوي" التي كانت بيده فيها الكثير من الأموال التي تقرب من المليون، وهنا يقعا في أزمة شديدة الحيرة ولذلك نراهما في بيت "حورية"(لبلبة) بينما الأموال على المنضدة وقد وقفا ينظران إليها بحيرة وخوف، وحينما تحاول "حورية" إقناعه بأن الأموال من حقهما يصر على عدم أخذها ومن ثم تسليمها للشرطة مكتفيا بنصيبهما القانوني منها وهونسبة الـ10% ، فتوافق "حورية" على مضض، ولأنها تخاف القبض عليه بالإضافة إلى رغبتها في المال تطلب منه ترك الحقيبة معها في السيارة كي يدخل هوقسم الشرطة ويرى كيف ستصير الأمر معه، وهناك يفتشونه تفتيشا ذاتيا دقيقا معاملين إياه بإهانة وغلظة، وحينما يجدون معه الكارت الشخصي "للبنهاوي"(سيد زيان) والذي كان قد أعطاه له بعد إيهامه بأنه يقوم بالتسفير إلى الدول العربية يتهمونه بقتله، وكان دليلهم على ذلك الدماء التي تغطي ملابسه وذلك الجرح الذي في رأسه الحادث بفعل عراكه مع مجموعة الشباب الراغبين في "حورية"، فيقول له ضابط الشرطة (دا مسجل أمن دولة ومخدرات وأموال عامة... أنت تبع أي فرع فيهم؟) وهنا ينقلب الأمر إلى كابوس حقيقي بالنسبة "لسيد"(نور الشريف) الذي رغب في عدم أخذ أموال ليست من حقه وذهب لتسليمها والتبليغ عن جريمة قتل فووجه بالقتل والكثير من التهم الموجهة إليه، وبالتالي يحجم عن إخبارهم بالمال الذي في السيارة مكتفيا بإعطائهم حقيبة السفر الأخرى التي كانت على سقف التاكسي، لنرى "حورية"(لبلبة) تسير وحيدة في الشارع المظلم وقد قزمتها الكاميرا بينما تحمل حقيبة المال على كتفها في انتظار أمل خروج "سيد"(نور الشريف) من أزمته التي وقع فيها.

علّنا نلاحظ هنا أن أمانة الشرفاء حينما تضحى كابوسا لابد لنا أن نتساءل لماذا يحدث كل ذلك في حق هؤلاء المطحونين الذين ليس لهم ذنب في هذه الدنيا سوى الحياة في مجتمع متمزق يحكمه مجموعة من اللصوص من خلال سياسات سلطوية مهترئة من أجل المزيد من تجويعهم وقمعهم يساعدهم في ذلك الكثيرين من الأفاقين ورجال الأعمال الذين يأكلون حقوق هؤلاء المظلومين؟ ولماذا نرى مستشفياتنا التي من المفترض الحفاظ على أرواحنا بمثل هذا الشكل من الإهمال والفوضى؟ ولماذا يضطر مجموعة من الشباب خريجي كليات الهندسة والعلوم للعمل كحارسي سيارات أمام الكباريهات وحينما يسألهم "سيد" مندهشا عن السبب في ذلك يردون عليه (مش أحسن ما نستنى المصروف؟) ولماذا كل هذا الكابوس الطويل الذي يعيشه المجتمع المصري بسبب حكامه؟

لعل تلك هي الرسالة التي حرص المخرج على إيصالها بإلحاح من خلال جميع أفلامه السينمائية التي قدمها، إلا أنها بدت في ذلك الفيلم- ومن خلال هذه الرحلة الطويلة التي انتهت بمأساة صارخة- في شكل طاغ، ولكن هل من الممكن أن يجد المصريون بارقة أمل لالتقاط أنفاسهم من السلطة الغاشمة التي تنهشهم ليل نهار؟

علّ تلك الرحلة الطويلة التي رأيناها والتي أثارت داخلنا الكثير من الألم مما يحدث تكون دافعا للتحرك ضد ما يتم في حقنا بدلا من الانسحاق والصمت وثقافة الاستكانة التي بدت واضحة بشكل صارخ في قول "حورية(لبلبة) حينما قال لها "سيد" بعد أن اعتدى أحد الملتحين على سيارته (شوية ماعندهمش خشا ولا دين، وشوية عايزين يخنقونا ويحرّموا علينا حتى الهوا اللي بنتنفسه) فترد عليه بانسحاق ( يا خويا... إحنا مالنا ومال السياسة؟ المهم نشوف شغلنا)!!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء او المديرات.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى