الأحد ١٤ آب (أغسطس) ٢٠٢٢
بقلم جورج سلوم

ما فوق السريريات

وتعود بيَ الذاكرة الشمطاء إلى أوائل ثمانينيات القرن الماضي عندما كنت طالباً في كليّة الطب بدمشق، ذاك هو الزمان، أما المكان الذي قادتني الذاكرة إليه فهو ما يُسمّى بالمَشرَحة، وهو القسم الذي تضطجع به الجثث الآيلة للتشريح التعليمي بأيدي طلاب كلية الطب.

المكان على اتّساعه وإنارته الجيدة وتهويته المتجدّدة بالدارات الكهربائية يبقى رهيباً، بأكثر من ثلاثين جثة مسجّاة على طاولات التشريح المصنوعة من المعدن غير القابل للصدأ، كأسرّة مهيّأة للتقطيع والسّبْر والتشريح وعليها أجساد لن تنزف مهما نهشْتَ من أعضائها.

وكانوا يقسموننا إلى مجموعات صغيرة، يتوازعوننا بحيث يكون لكلّ جثة نصيبُها من بضع طلاب مسلّحين بمباضعهم، وأدواتهم الحادّة تشقّ الجثامين بطريقة مدروسة وصولاً إلى العضو المطلوب كشفه تشريحياً. وموضوع درْسنا يومَها كان القلب، ذاك العضو الهاجع بين الضلوع كعضلة لحمية ساكنة مليئة بالعلقات والجلطات السوداء.

وبدأت المناشير اليدوية تفتك بالضلوع كمن يفتح قفصاً على سجين ولكنك تعرف مسبقاً بأنك ستجده ميتاً في محبسه. ولا أنكر أنني استسخفت يومها ذلك القلب النبيل عندما قبضتُ عليه بيدي، وما هو إلا كتلةً من لحم تنتأ عنها الشرايين كجدائل مجنونة تفوح منها رائحة الفورمول المانع للتعفن والتفسّخ.

وبعد ساعتين، وبانتهاء الدرس العمليّ كانت تلك الأجساد مفرّغة من قلوبها التي تحوّلت لقطع وشرائح مبعثرة، وكأنك في دكان جزّارٍ مبتدئ يقطع الذبيحة بطريقة عشوائية. ويترك الطلاب عادةً بقاياهم وثمالاتهم الجيفية على الطاولة المعدنية جُنيب الجثة نفسها، وينصرفون لغسيل أدواتهم الجراحية، يتحدّثون، ويتضاحكون، لتخفيف هول مسرحهم، ويحاولون مقارنة ما درسوه نظرياً بما شاهدوه عملياً.

وبعدها يأتي المستخدَم المسؤول عن تنظيف المكان، رجلٌ خمسينيّ ملتحٍ يبدو ساخراً من كلّ شيء، من الطلاب الذين يعتبرهم جهلة وفاشلين وسطحيين مثل أساتذتهم، وساخراً من الأجساد البشرية التي تُعتَبر ـ برأيه ـ أقل قيمة من الذبائح الحيوانية، كان يسعى بين الجثث ويجرّ كيساً بلاستيكياً سميكاً ويضع فيه بقايا الدرس التشريحي من لحمٍ وأنسجة وعظام بشرية.

كنتُ أراقب ذلك الكيس الذي يكتنز رويداً حتى صار جعبةً تحوي ثلاثين من القلوب، يحشرها فوق بعضها، وهو يدندن أغنية عاطفية، ذكَّرَني ساعتَها بحفّار القبور الذي فقد احترام الأجساد الحية وسلّم مقاليدَه لسلطان الموت الذي لا مندوحة من الانصياع لجبروته.

وقلت لصديقي الطالب وكان من السودان الشقيق:

 وأين سيذهب بهذا الكيس المليء بالقلوب برأيك يا محمّد؟

وقال الصديق بلا اكتراث:

 وحتى الكلاب لا تأكل هذه اللحوم المُشبَعة بالفورمول السام!

وقلت:

 إنها قمامة طبية، ومن المؤكّد أنهم سيحرقونها، أو يدفنونها في مقبرة خاصّة.

ولا أزال أذكر كيف تغيّرت سحنة صديقي السوداني لحظتَها، واحمرار العيون له وقعُه المخيف على بشرته السمراء وبياض عيونه، وكأنّ الدم صعد إلى رأسه فجأة واحتقن وجهه فأخذ لوناً خمرياً، وزاد انفعاله وقال وقد علا صوته:

 قمّة الكفر أن يدفنوا قلب رجلٍ مع امرأة، إنّ ربع أولئك الجثث من الإناث كما ترى.

وتابع قائلاً وقد ازدادت نبرة صوته ليسمعه المستخدم أيضاً:

 ليس هذا فحسب.. فنحن لا نعرف شيئاً عن أسمائهم ولا أديانهم أولئك المُشرَّحون.

قلت:

 ولا جنسياتهم، ولعلمك فإنّ الجامعات والدول تتبادل الجثث التعليمية حتى لا يكون فيهم شخصاً معروفاً.

فأجاب:

 لا يجوز شرعاً هذا الدفن الهمجيّ، في حفرة يحتفرونها للقلوب، وغداً تتلوها حفرة للأكباد وقِسْ على ذلك. نحتٌ للأجساد وصولاً للهيكل العظمي الذي سيبيعون عظامه، ألم تشترِ جمجمة من هذا المستخدم عديم الضمير؟ أتذكر كيف كان يخيّرنا عندما قال أتريدون جمجمة امرأة أم رجل؟ وقال إنه يعرف أعمارَهم عندما ماتوا، وقال وكلّه سخرية، عندي جمجمة لصبيّة مقتولة، وعندي جمجمة لطفل، وكل شيء بثمنه
أتذكر كيف كان يستخدم عظمة الفخذ كعصا يلوّح بها كمطرقة القاضي؟

وقلت مخفّفاً غلواء انفعاله:

 إنها بالنهاية قضيّة تعليمية، نتعلّم أولاً بالأموات، وسنتعلّم لاحقاً بالأحياء في مشفى الجامعة، نقطّعهم ونشرذمهم، وهناك الأمر سيكون أشدّ وطأة فالروح موجودة والدم ينزف، هه هه، وإلا كيف سنغدو أطباء وجرّاحين؟

سكت قليلاً ولم يجبني، وكنا على وشك الخروج من باب المشرحة متنكّبين مريلتنا البيضاء، لكنه أمسك بي وقال:

 تريّث، دع زملاءنا يخرجون، وابقَ معي قليلاً لأنني سألقّن هذا المستخدم والمسؤولين عنه في الجامعة درساً

 دعْكَ من هذا، لننجح أولاً في مادة التشريح، وبعدها عليكَ بهم بدءاً من أستاذ المادة وصولاً إلى المشرفين والعمّال، وما هذا المستخدم إلا مجرّد عامل صغير، ومن يرضى أن يمتهن مهنته؟ ولولا أنه فقير لما ارتضى أن يصير زبّالاً في مشرحة!

لكنّ محمّداً لم يستمعْ لي، وجذبَني وراءه حتى صار بمواجهة المُستخدَم الذي كان يربط كيسَه بحزامٍ خاص ولاصق، ولاحظتُ عبارة مطبوعة على الكيس بالعربية والأجنبية (نفايات طبية).

محمد الذي يسكن معي في المدينة الجامعية كان ذا خلفية دينية، وأعرف ذلك من الكتب التي تعجّ بها مكتبته، ولم تكن لتفوته صلاة أو فرض دينيّ، لكنه ما كان متعصّباً أو متزمّتاً، ونلتقي معاً على محبّتنا للغة العربية والتاريخ العربي الذي كنا نجلّه.

أمسك بالعامل المستخدَم وقال:

 يجب عليك أن تجعل كل قلب في كيس صغير، وتفتح لكل عضو حفرة كبيرة كقبر، ثم تضيف الأعضاء المبتورة كل مرة إلى الحفرة الخاصة بكل جسد، أي يجب تجميع الأعضاء لكل إنسان في حفرته، وليس خلطها، لأن هذه الأعضاء ستعود وتلتقي ببعضها يوم القيامة لتصير جسداً كاملاً تلقى باريها به، فلم الاستهتار بيوم القيامة؟

توقّف العامل عن أغنيته، ونظر في عيني محمّد نظرة مستغبية، ولم يقل شيئاً.

فعاد محمد لكلامه محذّراً:

 هؤلاء بني آدم أديانهم مختلفة، ولا يجوز دفنهم هكذا جزافاً، ولا يجوز دفن أعضاء امرأة مع رجل، يجب أن تخاف الله أنت ومشغّليك!

لكن المستخدم تابع أغنيته بصوتٍ أعلى وأعطاها إيقاعاً راقصاً، ثم أدار ظهره لنا وجرّ كيسه الثقيل نحو حاوية بلاستيكية ذات غطاء، فطار صواب محمّد الذي لحق به وهو يصيح:

 هيه.. أنت يجب أن تستمع لي، وإلا سأذهب لعميد الكليّة

عندها أجاب المستخدم وما زال ساخراً:

 اذهب للعميد وللعقيد ومن تراه مناسباً، أتخاف أن تتزوّج الأعضاء في كيسي؟ اصبر حتى الدرس السادس وبعدها سترى

وقلت للمستخدم:

 وما هو الدرس السادس؟

أجاب وهو يضحك:

 ستملؤون كيسي بالأعضاء التناسلية للجثث، وسنرى إن كانت ستتزاوج أم لا كما يتمنّى رفيقك!

قال ذلك، وانصرف عنا إلى حاويته المغلقة ذات العجلات، وقادها إلى المصعد، ومنه سيتصرّف بها بلا شك.

عدنا إلى غرفتنا، ليفتح زميلي كتبه، ويشرح لي ترتيبات الآخرة ويستشهد بمراجعه، وانتهى بنا الأمر بالاعتراف بالعجز والرضوخ لما هو قائم.

وعندما تقدّمت بنا السنون، وأصبحنا طلاباً في المشفى الجامعي، فقَدْنا ذلك التقديس للأعضاء البشرية عندما بدأنا نرمي المرارة المستأصلة والزائدة والغدة الدرقية والكتل السرطانية والطرف السفلي المبتور كنفايات طبية.

إنها أعضاء مريضة ويجب التخلّص منها للفوز بما تبقّى من الجسد النظيف، كمن يخلع ضرساً منخوراً، ونسينا أين يذهبون بها، لكنّ بعض مرافقي المرضى كانوا يحرصون على أخذ قطع أجساد ذويهم لدفنها مهما صغرت، مثل القطع الجلدية الناجمة عن الختان مثلاً.

وعندما سمح الطب بعد ذلك باستزراع الأعضاء من جسدٍ لآخر، كالكلية مثلاً، عاد المتفقّهون لطرح فكرة تشويه الخلائق البشرية وخلط أعضائها وجواز ذلك أم عدمه، وإمكانية تحريم ازدراع أعضاء رجل في امرأة أو العكس أو نقلها من مسلمٍ لغير مسلم، وإمكانية تغيير جنس المخلوق جراحياً وهورمونياً، واعتبار ذلك اعتداءً على كمال صنيعة الخالق.

ولسنا هنا في مهْمَهِ الجدال هذا!

لأنّ موضوعَنا السابق ما يزال حتى الآن (سريرياً)، أي نتكلّم عن الحالات السريرية، أي بما يجري على سرير المريض وما يتظاهر عليه من أعراض وأمراض.

أما عبارة (فوق سريرية) فهي جديدة وغير مستعمَلة طبياً، مع العلم أن عبارة (تحت سريرية) تدلّ على الأعراض التي تكون في الطور الكامن قبل تطوّرها وتظاهرها لتصبح سريرية.

من الجائز أن نستعمل وصف (فوق سريري) لبعض الأعراض التي يتعذّر كشفها بالوسائل التشخيصية السريرية المعروفة، أي أن الحالة عصيّة على الكشف بتلك الوسائل، وهذا جائز كما قلنا.

لكن قصتنا فوق السريرية يعود طرحها من جديد بعد أن كثر الإزدراع والتجميل والترقيع والتغيير في خليقة الله الحية، بما يجعل تلك الأجساد حاملة لأعضاء ليست لها، ولا ينطبق الأمر على البدائل الصناعية كمفصل أو صمّام قلبي بلاستيكي.

بالنتيجة، ستموت تلك الأجساد لاحقاً منقوصة عضواً أو زائدة بعضوٍ ليس لها، وحسب نظرية زميلي محمد التي لا أزال أذكرها، فإن تلك الأعضاء ستدبّ فيها الحياة ثانية وسيلتحق كل عضو بصاحبه ليكون كاملاً أمام محكمة الباري.

كان محمّد صديقي يتخيّل أن هناك مستشفىً تمّ إعدادُه في العالم الآخر، ويعمل فيه لفيفٌ من الملائكة المختصّون (بالجراحة الروحيّة)، وتصل إليهم قوافل الموتى المنقوصين بفعل فعائل البشر. أي مقطوع الرأس ليعودوا ويخيطوه على رقبته، ومبتور الطرف ليُعيدوا وصله كما كان، ناهيك عن اللواتي استؤصلت أثداءهن في الدنيا ليتم إعادتها، ومثقّبو الأجساد بالرصاص أو الشظايا ليتم رتقهم، والمهشّمون بالانفجارات والمهروسون بالأنقاض والمحروقون بفنون النيران البشريّة، إضافة لمن خضعوا لازدراع الأعضاء والذين سيتم إعادة كل عضو لصاحبه.

ونظريته تلك، تقول بأنّ كل تلك الجرائم البشرية والخزعبلات الطبية سيتم إصلاحها في المشفى الملائكي في العالم الآخر، وهو سيكون مشفىً تصحيحياً نهائياً لا أخطاء طبية فيه، ولا آراء شخصية ولا اجتهادات لأطباء مشهورين غربيين كانوا أم شرقيين، إنه المشفى الإصلاحي الأخير الذي لا إصلاح بعده ولا دواء.

وقد سمّاه يومها (المشفى فوق السريري) معتبراً مشافينا الحالية مجرّد مشافٍ سريرية فقط!

في ذلك المشفى تتم العمليات الناجحة قطعاً بقدرة الخالق، ففي غرفة عملياته المقدّسة يضعون الرأس المبتور دنيوياً بالمقصلة أو بالسيف بجانب رقبة المجنيّ عليه، وبالصلاة تدب الروح في الخلايا المتباعدة فتتلاحم وتلتصق، على طريقة (كن فيكون)، ولله في خلقه شؤون!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى