الثلاثاء ٢٥ آب (أغسطس) ٢٠٠٩
بقلم لطفي خلف

ما كتبه درويش

كان ثورة في الشعر وليس محض شعر في الثورة!

أن تكتب من أجل قضية، معنى ذلك أن تعطيها جماليات إضافية لتثري وتغني روحها وتبرز وتجلي جوانب مظلمة فيها، لم تكن لتظهركما تريد أنت قبل أن يرفع من رصيد شهرتها قلمك، الذي ظهر بدافع غريزي، أو لأن بعوض الغيرة والخوف عليها، قد لدغ لديك جلد الإحساس والاندفاع.

أكاديميون كثيرون اعتبروا أن من يكتب للثورة وفي مناسبات الثورة يعد شاعرا سياسيا، دماء أشعاره تحتوي على هيموجلوبين السياسة فقط، وشعره يتنفس برئة السياسيين أو الوطنيين!

هكذا كان درويش أيضا من وجهة نظر رجل الشارع البسيط أو في نظرنا نحن عندما كنا في بدايات المرحلة الدراسية الأولى، حينما قرأنا وسمعنا قصائدة الوطنية
وكانت تشنف آذاننا وتجعلنا نطيرفوق بساط الحماسة والانفعال والغليان.

لم نكن نقادا في تلك الآونة طبعا، ولم نكن في المستوى المطلوب لغربلة أغراض شعر درويش أو فرزها والوصول إلى صلب ما نطرحه في هذا النص.
لم يكتب أي شاعر حتى ولو انخرط في صفوف ثورة بلاده شعرا وطنيا أو سياسيا أكثر صدقا وانتماء وتمسكا بمبادئ وثوابت الثورة مما كتب درويش، ولم يذب شاعر ما وينصهر في أتون المعاناة و "يركب حصان تجربة" الثورة أكثر من درويش، ومع كل هذا لم يكن درويش متلهفا لذكر الخطاب السياسي في شعره ولو أن الزيت السياسي قد طفا على سطح أشعاره، فهو" ليس محررا حربيا للقضية الفلسطينية " معتبرا نفسه شاعرا شاملا يكتب في كل الأغراض الشعرية وفي كل أمر يثير اهتمامه ويشد أحاسيسه، يكتب ويكتب دون توقف، ولا ينشر أكثر من ثلثي ما يكتب، يعيد كتابة قصائده أكثر من مرة، فمنها ما يؤول مصيره للنشر ومنها ما يؤول إلى المحرقة! المهم أنه إنسان ويكتب في كل المواضيع التي تتناول مشاكل الإنسان وهمومه وقضاياه وعلاقته بالطبيعة والكون،وذهب أبعد من ذلك وكأنه يكتب في الميتافيزيقا بأسلوب فلسفي ذي نكهة مميزة، تجلى من خلالها عربيا وكونيا، ليختزل مفردات أو جملا طويلة في مفردة أو اثنتين، فكان لهذا التكثيف والاختزال الوقع الكبير على المتلقي، واللهفة للبحث عن المزيد من أجل قراءة ما استجد على الساحة الأدبية من كتابات هذا الشاعر.

ليس ما كتبه درويش شعرا في القضية والثورة من أجل أن ينال لقب شاعر الوطن والقضية، وينال أوسمة الثورة، ويصبح بالتالي رمزا للثورة فحسب، إنما فجر ثورة في الشعر فخلق للشعر روحا وطعما، وصلب المتلقي على خشبة الانتظار، ليشعر بلبن الكلام يسيل على شفة المتعطش منا للمطالعة، وتجعلنا نقف على رؤوس أصابع التفاؤل كلما سمعنا خبرا عابرا عن نيته طرح قصيدة جديدة في صحيفة أو مجلة أو على شاشة إحدى الفضائيات.

درويش الذي عجن صلصال شعره بماء النكبات الفلسطينية المتتالية، لم ترفعه القضية الفلسطينية وحدها إلى المستوى الكوني الذي وصل إليه، إنما النفق الذي حفره بعضلاته الإبداعية تحت رمال مفردات اللغة واقتحامه نار الفكر ودروبه الوعرة بسهولة ويسر وعن طيب خاطر، كونه موهوبا من الدرجة الأولى وعاشقا للثقافة والكتاب والشعر، وجهده الخاص وثقافته العالية وفلسفته في الحياة والطبيعة وقضايا الإنسان، هو ما جعله يشعل ثورة حقيقية في الشعر، لم تخفت نيرانها ولم يهدأ
أوارها حتى بعد غياب من أشعلها!

كان ثورة في الشعر وليس محض شعر في الثورة!

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى