الأربعاء ٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم محمد أبو عبيد

مثل رَجِل أنيق لكنّه سفّاح

قد لا يكفي بعضنا ماء البحر إذا صار مداداً حتى يعدد المناقب، وكأننا براء من المثالب، وعلى رأسها ثقافة القتل السائدة منذ الخلافة الراشدة وحتى اللحظة. (والثقافة) تلصق بالقتل مجازاً لا أكثر. كأنها الأسلوب الذي لم نعرف له مثيلا قَط على امتداد أكثر من ألفية سنوية، والمنبعث من شهوة جامحة في حب السلطة تجنح بصاحبها نحو تصفية الآخر: إما أكون أو لا أكون. ذلك لا يتعلق بالسلطة السياسية فحسب، إنما يتعداها صوب ما يمكن نعته بالسلطة الاجتماعية، وكذلك الفكرية.

بدءاً من الخلافة الراشدة، متجاوزين مقتل الخليفة الفاروق عمر بن الخطاب، باعتبار أن من قتله المجوسي أبو لؤلؤة، بالمقدور تصور كيف بدأت ثقافة القتل والاغتيال السياسي تأخذ منحاها وتتجذر على أنها أسلوب سيمتد إلى تاريخنا الحاضر، وينتهجه طلاب السلطة السياسية، والقيادة العسكرية، وأيضاً من اتخذوا من أنفسهم طواغيت فكر، ومجتمع وعائلات. تعددت الأهداف والأسلوب واحد.
ثقافة القتل هي التي قضت على الخليفة الراشدي عثمان بن عفان ومن بعده علي بن أبي طالب، رضي الله عنهما، وهي الثقافة التي انتصرت على محاولات الصلح والتهدئة، وهي التي سادت على مدى فترات خلال الخلافة الأموية، تنتهي بها، وبها تبدأ الفترة العباسية، لتظل أسلوباً متلاصقا مثلما لا ينفصل الشخص عن ظله. والأدهى والأمر ّ أن أسلوب القتل ينتصر حتى على الإخوة الذين لا تشفع صلة القربى لهم. فالخليفة المأمون يقتل أخاه الأمين طمعاً بالمنصب، ويتم التمثيل بجثته .

وتاريخنا الحاضر ليس خاليا من الأمين ولا المأمون، سواء في أرض الرَجلين الأصلية، العراق، أو في غزة ولبنان، وباكستان وسائر أصقاع العرب والمسلمين. ولعل القرن الأخير مقترن بمئات حوادث الاغتيال السياسي بأبشع صوره التي لا ترحم بشراً ولا شجراً ولا حجراً. كل ذلك مبعثه سادية في النفس لا يهدئها إلا سيلان اللعاب على منظر الدماء والأشلاء. إلى جانب وأد "الأنثى" .

إنها صور لا تتوقف عند حد السادية السياسية أو العسكرية، فالفكر والإبداع ليسا أمينيْن ولا مأمونيْن من سكاكين طواغيت الفكر الذين لا يعارضون غيرهم من المفكرين والمبدعين إلا بجز أعناقهم، إن ليس بأيديهم، فبفتاويهم وأحكامهم بعد أن نصّبوا أنفسهم آمِرين وناهين لا تتسع عقولهم لآراء الغير ولا يروْن فيها إلا شراً يجب اجتذاذه ولو بحد السيف .

مجتمعياً، فإن الثأر يعلو فوق القوانين والقضاء، وهو عادة ما انفكت تمارَس في رحاب العرب والمسلمين، وإن ليس من قِبلهم جميعاً. لعل العقل عاجز عن تخيل استمرارية ممارسة هذا الأسلوب في وقت ترنو فيه أبصار العلماء إلى الكواكب الأخرى، لإتاحة وصول الآدميين إليها عِلْما وسياحة. وعلى المستوى الأضيق، أي الأسرة، يستقي "الذكر" من ثقافة القتل أسلوباً للتعامل مع الأنثى، زوجة أو بنتا أو شقيقة، من منطلق " الشرف " وما ذلك إلا جرائم قرف. وما زالت قوانين القضاء الوضعية متهاونة مع مثل هؤلاء المجرمين الذين يستحقون عقاب أي مجرم آخر.مهما حاول المرء أن يجمّل الصورة، فإن المباضع والأدوات تظل عاجزة عن إخفاء هذا القبح المتفشي في الجسد العربي والمسلم .إننا مثل رَجل أنيق ببذلة جميلة وقميص رائع وربطة عنق جذابة لكنه سفاح قاتل .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى