الثلاثاء ٢٦ تشرين الأول (أكتوبر) ٢٠١٠
أربعون يوماً على رحيله ويستمر الجدل حول نتاجه الفكري
بقلم أوس داوود يعقوب

محمد أركون.. رائد التطبيقات الإسلامية

فقدت الساحة الثقافية والفكرية العربية، في (14/أيلول ـ سبتمبر2010م) رمزاً من أبرز رموزها المعاصرين، بعد رحيل المؤرخ والباحث والمفكر الجزائري محمد أركون عن عمر يناهز الـ (82 ) عاماً، أمضى قسطاً كبيراً منها منكباً على دراسة الفكر الديني، قارئاً وكاتباً، مقتفياً آثار المفكرين والفلاسفة الإسلاميين والتنويريين الكبار.

وقد أشتهر البروفسور أركون بتوجهه ما بعد الحداثي في نقد العقل الإسلامي وفكر الحداثة، واعتناقه المنهج الألسني النقدي، محدداً ما يقصده بقراءة ودراسة القرآن الكريم بمعنى التحرر من القيود الإيمانية في التعامل مع ما جاء في الكتاب المقدس، معتبراً أن القراءات الإيمانية تستند إلى مبادئ ومسلمات يصعب جعلها مادة للنقاش عند أفراد المجتمع كافة، مشيراً إلى أن هذا التعامل مع القرآن الكريم يرفض رفضاً قاطعاً التشكيك في محتواه، وفي هذا الإطار كان يدعو أركون المستشرقين إلى تفكيك البديهيات المؤسسة للتماسك لكل الإيمان، مطالباً بتطبيق نظريات فلسفية تهتم بتشريح المحتوى الديني بعيداً عن المتدثرين بعباءته والمتعصبين لمبادئه.

وقد كرّس أركون فكره ونقده للنظريات المتأصلة في الدين، داعياً إلى المزج بين دراسة الأديان السماوية في علم واحد مشترك.

كما دعا إلى تطبيق ما أنتجته علوم الإنسان والاجتماع، أي التاريخ والألسنيات والفلسفة والأنثروبولوجيا والسوسيولوجيا، بالإضافة إلى استخدام البنيوية والتفكيكية والنقدية لدراسة الإسلام كنص ودين وتاريخ وسياسة، وقد انتقد الطريقة التي استخدمها الغربيون في دراسة الإسلام، كما انتقد الطريقة التي عالج ويعالج بها المسلمون دينهم وتاريخهم وفكرهم.

معارك أركون الفكرية.. ويستمر الجدل

خاض البروفيسور محمد أركون منذ منتصف ستينات القرن الماضي معارك فكرية عديدة مع جهات ومؤسسات كثيرة، وكان عرضة لانتقادات التيارات الأصولية المتشدّدة، إلا أنه كان منحازاً دائماً إلى حوار العقل المعتمد على أسس وضوابط بحثية دقيقة، رافضاً المضي في سجالات فكرية لا طائل منها حسب وجهة نظره، كما أنه تصدى لبعض المسلّمات والبديهيات في الأديان.

وقد كان دأبه الأساسي إعادة الاعتبار لجوهر العقائد، والبحث في تاريخيتها عند نقاط الالتقاء فيها لتحويلها إلى خطاب إنساني عام ومتحرر. وبمنهجية صارمة راح ينظر إلى الجوانب التاريخية التي أعادت فهم وصياغة المفاهيم الدينية (الإسلامية خصوصاً)، وفق لحظات تاريخية بعينها. وأظهر كيف أن الأصوليات المعاصرة راحت تتمسك بأقوال الفقهاء والمفسرين، من دون عودة إلى النص الأصلي ومنابعه، ومضفية على ما هو تاريخي بعداً مقدساً ونهائياً لا مجال لإعمال العقل فيه، ومن ثم أنجبت عقلاً يقع في التناقض مع الواقع الذي يتغير، من دون أن يلتمس في روح النص ما هو جوهري، ومن دون أن يكون قادراً على صياغة خطاب إنساني عام.

ويعود لأركون الفضل في تطوير اختصاص علمي في تدريس تاريخ الفكر الإسلامي في الغرب عرف بـ «الإسلاميات التطبيقية»، داعياً إلى تجاوز التعاطي مع الإسلاميات الكلاسيكية (أي الاستشراق التقليدي)، وفي هذا السياق يقول ما يلي: «إن الإسلاميات الكلاسيكية هي عبارة عن خطاب العربي حول الإسلام, أي خطاب يهدف إلى العقلنة في فهم الإسلام. ولكن كلمة إسلاميات (Islamologie) ومصطلحها اختراع غربي بحت. ذلك أن المسلمين يكتفون بالتحدث عن الإسلام مثلما يفعل المسيحيون عندما يتحدثون عن المسيحية».

وكما تعرض فكر محمد أركون لسوء الفهم من قبل التيارات الأصولية في الشرق الإسلامي، فإنه قد تعرض لسوء فهم مماثل من قبل الغرب، ومن ثم كان يتساءل «هل يمكن التحدث عن وجود معرفة علمية عن الإسلام في الغرب؟ ويعتبر هذا التساؤل بمنزلة تساؤل عن صلاحية وموضوعية في النظرة المتوافرة للغرب عن الإسلام.

ويرى الأستاذ هاشم صالح (باحث ومترجم سوري مقيم في باريس) أن مشروع أركون هو الأكثر نجاحاً بين مشاريع تجديد التراث ونقد العقل العربي، وذكر في مقال له « من يجرؤ على دراسة ظاهرة الوحي من وجهة نظر تاريخية ومقارنة؟ من يعرف كيف يطرحها من خلال ثلاثة من تراثات دينية توحيدية، وليس تراثاً واحداً، ومن دون أن يقطعها بالضرورة عن مفهوم التعالي؟ ومن يعرف كيف يطبق على النص القرآني ثلاث منهجيات متتالية: المنهجية الألسنية أو اللغوية الحديثة، فالمنهجية التاريخية والسوسيولوجية، فالمنهجية الفلسفية؟

بعدئذ تشعر كأن القرآن قد أضيء لك من كل جوانبه، واتخذ كل معانيه وأبعاده، من خلال ربطه باللحظة التاريخية التي فيها: أي القرن السابع عشر، ثم من خلال ربطه بالنصوص الأخرى التي تسبقه، وبعدئذ تشعر وكأنك قد تحررت من أثقال الماضي، ونفضت عن ذاتك غبار القرون المتطاولة، بعدئذ تشعر وكأنك قد وصلت إلى المنبع الأساس، إلى أصل الأصول، إلى غاية الغايات».

وقد كتب البروفيسور أركون واصفاً عمله ضمن ما أطلق عليه مسمى «مجموعة باريس» داخل الجماعة الأوسع للبحث الإسلامي – المسيحي « حاولت أن أزحزح مسألة الوحي من أرضية الإيمان العقائدي "الأرثوذكسي" والخطاب الطائفي التبجيلي الذي يستبعد "الآخرين" من نعمة النجاة في الدار الآخرة لكي يحتكرها لجماعته فقط. قلت حاولت أن أزحزح مسألة الوحي هذه من تلك الأرضية التقليدية المعروفة إلى أرضية التحليل الألسني والسيميائي الدلالي المرتبط هو أيضا بممارسة جديدة لعلم التاريخ ودراسة التاريخ».

يرحل أركون دون مواصلة أبحاثه «الأركيولوجية» العميقة عن التراث الإسلامي، بينما يحتكر الخطاب الإعلامي والسياسي الضحل الحديث عن اختلاف الثقافات وصراع الحضارات من دون الاتكاء على الجهد العلمي الصحيح، أو النظرة الإنسانية البناءة والمتسائلة دائما تاركة للآخر مساحة للحوار والتعايش.

ومما لا شك فيه أن رحيل أركون عن عالمنا لن يخفت الجدل الذي أثاره بآرائه وكتاباته، لا سيما أنه كان أحد أبرز الباحثين في الدراسات الإسلامية المعاصرة، وأحد رواد الدعوة إلى الحوار بين الأديان.

.........................

(مؤطر) سيرة ومؤلفات:

ولد أركون عام 1928م، في بلدة "تاوريرت" في ولاية "تيزي وزو"، بمنطقة القبائل الكبرى الأمازيغية بالجزائر، وانتقل مع عائلته إلى بلدة "عين الأربعاء" ولاية "عين تموشنت"، حيث درس الابتدائية بها، وأكمل دراسته الثانوية لدى الآباء البيض في وهران، وابتدأ أركون دراسته الجامعية بكلية الفلسفة في الجزائر ثم أتم دراسته في «السوربون» في باريس. وحصل على شهادة الدكتوراه في الآداب. وعُين أستاذا لتاريخ الفكر الإسلامي والفلسفة في جامعة السوربون عام 1968م، بعد حصوله على درجة الدكتوراه في الفلسفة منها، ثم تولى التدريس في عدد من الجامعات قبل أن يعين في 1980م أستاذاً في السوربون الجديدة ـ باريس 3 ـ ودرّس فيها، وعمل باحثاً مرافقاً في برلين عامي 1986م و1987م، ومنذ عام 1993م بات أستاذاً متقاعداً في السوربون، لكنه استمر في إلقاء محاضرات في أنحاء العالم كافة، وشغل منصب عضو في مجلس إدارة معاهد الدراسات الإسلامية في لندن، كما درّس بجامعات عدة في أوروبا وأميركا والمغرب.

وكان الراحل عضوا في اللجنة الوطنية لعلوم الحياة والصحة بفرنسا، ولجان أخرى عدة. وقد حصل على جوائز عدة على مدار حياته، منها "ضابط لواء الشرف"، جائزة "بالمز" الأكاديمية، جائزة "ليفي ديلا فيدا" لدراسات الشرق الأوسط في كاليفورنيا، دكتوراه شرف من جامعة "إكسيتر" عام 2002م، وجائزة ابن رشد للفكر الحر عام 2003م.
وقد تولى في عام 2008م، إدارة مشروع «تاريخ الإسلام والمسلمين في فرنسا من القرون الوسطى حتى اليوم»، وهو كتاب موسوعي شارك فيه عدد كبير من المؤرخين والباحثين.وترك أركون كتباً كثيرة ذات منهج علمي ورؤية تحليلية جديدة، وسعى في كل ما كتب إلى ترسيخ الحوار بين الأديان والحضارات، وجاب الكثير من مدن العالم محاضراً عن الدين الإسلامي والحضارة العربية.

ترك أركون مكتبة غنية بالمؤلفات والكتب، من أهمها «الفكر العربي»، و «الإسلام: أصالة وممارسة»، و «تاريخية الفكر العربي الإسلامي» أو «نقد العقل الإسلامي»، و «الفكر الإسلامي: قراءة علمية»، و «الإسلام: الأخلاق والسياسة»، و «الفكر الإسلامي: نقد واجتهاد»، و «العلمنة والدين: الإسلام، المسيحية، الغرب»، و «من الاجتهاد إلى نقد العقل الإسلامي»، و «من فيصل التفرقة إلى فصل المقال: أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟»، و «الإسلام أوروبا الغرب، رهانات المعنى وإرادات الهيمنة». و «نزعة الأنسنة في الفكر العربي»، و «قضايا في نقد العقل الديني.. كيف نفهم الإسلام اليوم؟»، و «الفكر الأصولي واستحالة التأصيل.. نحو تاريخ آخر للفكر الإسلامي»، و «معارك من أجل الأنسنة في السياقات الإسلامية»، و «من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني»، و «أين هو الفكر الإسلامي المعاصر؟»، و «القرآن من التفسير الموروث إلى تحليل الخطاب الديني»، و«تاريخ الجماعات السرية»، وغيرها.

وقد صدرت له مؤلفات عديدة باللغتين الفرنسية والإنجليزية، وترجم عدد كبير منها إلى العديد من اللغات، من بينها العربية والهولندية والإنجليزية والإندونيسية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى