الاثنين ١٧ تموز (يوليو) ٢٠٠٦
بقلم جمال الطحان

مذكرات رئيس تحرير..سابق

" صحيح أنك المدير وأنني واحد من الموظفين في الدائرة ، ولكنني مهذب .. وهي صفة لا تتمتع بها أيها المدير القدير "هكذا باغتني أحد الموظفين بجرأة لم أكن أتوقعها . شاب لا يتجاوز عمره نصف عمري ، ولا يتجاوز وزنه نصف وزني ، يتجرأ على المدير ويصفه بقلّة التهذيب ، تصوّر؟! ..

 وكيف كانت ردّة فعلك يا أستاذ ؟

 لم أجبه .. بل لم أعد قادراً على إبداء أيّ ردّ فعل تجاه ما حدث . حبس عليّ الذهول جميع قدراتي .. تهاديت على المقعد : أنا المدير .. أستطيع أن أفعل ما أشاء .. وأن أتحدث بالطريقة التي أريد ، ولا يجوز لأحد من الموظفين عندي أن يعترض على أي أمر أوجهه إليه: أليس كذلك ؟
سألني المدير . حين لم أجبه ، استدرك قائلاً : صحيح .. لا أريد منك إجابة ، أنت هنا فقط لتكتب يوميّاتي .. لا تظن أنني لا أستطيع كتابة مذكراتي .. بل إنني قادر على ملء آلاف الصفحات .. ولكنني الآن غاضب ..لذلك اتصلت بك لأكلّفك بكتابة مذكّراتي بموضوعية ،وسأعطيك لقاء ذلك ألف دولار. طبعاً بعد أن تنتهي المذكّرات وتعبّر عني بشكل لائق...

حين مرّ الحاجب أومأ إليه بهدوء : أبو محمد ، من فضلك أغلق الباب بالمفتاح ، وإذا سأل أحد عني فإنني غير موجود .
انتبه إلى نفسه فجأة ، من قبل كان يصيح : تعا ... أحضر لي المهندس فلان كي أوبّخه على تقصيره .. شيل ( الزفت ) من هون .. نظّف الحذاء ...
لم يدرِ كيف أصبح هادئاً فجأة ؟
جلس بجانبي وهو يقول : اكتب أخي اكتب ، هل يمكن لموظف بسيط أن يتغلب عليّ بجرأته...وكيف ؟

مرّ وقت طويل قبل أن أتلقّى مثل هذه الصفعة المخزية ؟ في الواقع ، لم يصبني أحد بأذى منذ يفاعتي .
بالطبع لا تتوقع أن أصبح محصّناً من غير أن أعمل على ذلك ..
بل لقد كافحت طويلاً لأصل إلى هذه المرحلة .
حين وصفني جاري الفلاح بابن الكلب .. لأنه رآني أرمي القطط ببيضات دجاجاته .. قررت أن أرسم لنفسي طريقاً يمنع عنّي مثل تلك المواقف . بدأت بعملٍ جعلَ قلبي قوياً : التقطت قطة من بستان جارنا وذبحتها من الأذن للأذن .. ثم أخرجت أمعاءها وأطعمتها إلى كلبنا ، وبدأت رحلتي .

نظرت حولي فلم أرَ سوى حزب الجمهور يحميني من مثل تلك الشخصيات التافهة .
حزب فتي ناشئ حديثاً ، ويبدو أنه قوي يستطيع تحصين أعضائه وتقديم المكاسب لهم . انخرطت في صفوفه وناضلت .. تحمّلت أعباء تقديم الخدمات المختلفة للقياديين فيه .. وتدرّجت في الأعمال .. خاطرت بتوزيع البيانات السرية ... دفعت الاشتراكات بانتظام حتى أحظى بهذا المنصب. صحيح أنني خضت الانتخابات .. رشحت نفسي لأكون في قيادة الحزب ، لكن لم يحالفني الحظ فاتجهت إلى طريق آخر .
حين مرض رئيس تحرير جريدة الحزب ، ساهمت في تقديم الورود له، وفي الدعاء لشفائه .. ولكنني ـ في سريّ ـ أدركت أنه قد جاء الوقت المناسب لتتويج مكاسبي برئاسة التحرير خلَفاً له .
كتبت الرسائل .. عقدت الاجتماعات .. تكلّفتُ نفقات السفر ومتاعبه حتى صارت العاصمة( درب حمّام ) ما أكاد أعود منها حتى أعود إليها وأنا أحفر في الصخر للحصول على المنصب.
قاطعت ضرار قائلاً : سمعت أنك لم تتوانَ عن كتابة التقارير حتى بأقرب الناس إليك للوصول إلى مبتغاك .
قاطعني بلهجة حادة : الجميع يكتبون التقارير ... فلماذا لا أفعل ذلك أنا .. يجب أن نحافظ على البلد ، وندافع عن أنفسنا ، لقد علّمني والدي منذ الصغر حكمةً عظيمة : إن لم تكن ذئباً أكلتك الذئاب .
اكتب أخي اكتب ... وأخيراً .. قرر الحزب أن يكافئني على إخلاصي برئاسة تحرير جريدتنا ( العصماء ).

فرحتي كانت عظيمة بالرغم من بعض المنغّصات.. تنغّصت حين علمت أن العاملين في الجريدة ليسوا كلهم من الحزب، وإنما هم موظفون حكوميون مكلّفون بالعمل في جريدة حزب مرخّص، وهذا يعني أنه عليَّ أن أتحمّل غلاظاتهم وآراءهم المختلفة. قلت في نفسي: مهما يكن.. أنا مديرهم وعليهم الالتزام بما أقول.
في البداية، بادلني كل العاملين بودّ.. بعضهم شرح لي بإسهاب حماقات (أبو النّاج)، وبعضهم اكتفى بالغمز واللمز.. لكنني نهرتهم جميعاً بحزم: هذا لايجوز.. للرجل فضل على الحزب وعلى الجريدة.. ولا بد أن نحترم المنجزات التي حققها للجريدة.
الغريب في هذا المنصب أن كل شيء بدا جديداً عليّ. كل الأعمال التي قمت بها سابقاً كانت متشابهة، وتسير بطريق واضحة المعالم.. لكن الجريدة شيء مختلف..
ياسيّدي.. المصيبة أن كل من يعمل يظن أنه مصيب، وأن الآخرين على خطأ.. لم أقابل موظفاً لايعتقد أنه (أفهم) من في الجريدة. وهكذا بدأت تتّضح الصورة شيئاً فشيئاً.

توقف ضرار عن الكلام فجأة.. أمسك يدي التي أكتب بها وقال: لا تصدّقني.. أليس كذلك؟.. سأريك الآن بأم عينك ما أعانيه.
جلس خلف طاولته ..رنّ (الجرس) رنّة طويلة.. جاء أبو محمد، قال له: (ابعتلي) أمين التحرير مع صفحة التحقيقات.
أصابتني الدهشة من طريقة مخاطبة ضرار لأمين التحرير:
مَن الحمار الذي كتب هذا التحقيق عن مديرية الصحة؟
 فارس يا سيّدي..
 ألم يعرف حتى الآن طريقة الحديث عن المدراء.. كيف يصف مدير الصحة بالاستهتار.. ثم من قال له إن مدير الصحة بانتظاره دائماً.. المدير عنده مشاغل كثيرة، فكيف يكتب زرناه أربع مرات ولم يسمح لنا بإجراء الحوار حول المرحومة.
ياأخي ماتت.. مدير الصحة ماذنبه ؟
 ياسيدي قال فارس أنه ذهب أربع مرات بعد اتصال هاتفي وموعد.. ولم يأبه مدير الصحة له.
 طيب.. اشطب هذه السطور… وقل له أن يشيد أوّلاً بمنجزات مدير الصحة ويقدّم إحصاءً عن عدد المرضى الذين استقبلهم المشفى هذا العام وعن العمليات التي أُجريت… بعد ذلك يشير إلى قضاء الله وقدره حول المرأة التي انتهى عمرها… احذف الجملة المتعلقة بالطبيب المعالج.. واحذف مايتعلق بالدواء وبانتهاء صلاحيته… ولا تشر إلى خطأ الطبيب المخدّر… ماذنب الطبيب إذا لم تتحمل المرأة التخدير… هي بالأساس ضعيفة البنية.
 ولكن ياسيدي.. الصفحة مخرجة والماكيت جاهز.. والحادثة جرت منذ أسبوعين.. فهل نؤخّر الجريدة حتى يأتي فارس ونعيد صياغة التحقيق للمرة الرابعة؟
 لأ.. لأ.. ضع مادة أخرى بدلاً منه، مثل المرة الماضية.. وارسل الصفحات للمطبعة، وننشر المقال في الأسبوع القادم بعد اجراء التصحيحات التي طلبتُها عليه.

يتراجع أمين التحرير حاملاً الصفحة ..يخرج وهو يقول: كما تشاء ياأستاذ.. كما تشاء.
ينظر إليَّ ضرار وهو يهزّ رأسه ويرفع حاجبيه : أرأيت…؟!
هذا جزء ممّا أعانيه… يجب أن أشرف على كل شيء بنفسي كي أتحاشى الأخطاء .
قلت له وأنا أرفع حاجبي وأمط شفتي السفلى: - ولكن..ألا تذكر حين أوقفتَ نشرَ التحقيق حول المبنى الذي انهار ثم فوجئت به في اليوم التالي منشوراً على امتداد صفحة كاملة في صحيفة العاصمة؟
 نعم.. أذكر ذلك.. ولكن السبق الصحفي لايهمّني.. المهم أن نتأكّد من الخبر قبل إذاعته.
 ولكن المبنى الذي انهار على بعد شارع واحد من مبنى الجريدة.. ورأيناه بأعيننا.
 ولو… ربما كانت السياسة العليا للدولة تقتضي عدم إذاعة الخبر… ما الذي يضطرني إلى (وجع الراس)… حتى أنني لاأنشر أي شكوى ضد أي واحد من المسؤولين كي أحافظ على مركزي.. ألا تذكر السبب الذي أزاح رئيس تحرير صحيفة (حديث الناس)؟.. ثم إن الوطن في وضع حرج وعلينا أن نُظهر الصورة الحسنة للآخرين..لا أن نعدّد السلبيات التي يتمسّك بها أعداؤنا ويأخذونها ذريعة علينا كي يتاجروا بها.
حين هممت بالتقاط قلمي الذي سقط، دخل رحمو فبادره رئيس التحرير: أليس كذلك يا(أبو رحمو). أجاب رحمو وهو ينحني نصف انحناءة: بالتأكيد ياسيدي.. كل ما تقوله صحيح.
بعد أن سلّم علي رحمو بأطراف أصابعه غطس داخل كرسي الاسفنج وهو يخاطب ضرار مداعباً:
 عليك شكوى يا أستاذ..
 ممن؟ أجابه وهو يغمز بعينه اليمنى:
 من بعض الزملاء.
ضحك ضرار ضحكة عالية وهو يستفسر بلهجة ساخرة: - ماهي تلك الشكوى؟
 إنهم يتساءلون: لماذا ترفع صوت التلفزيون يا(أبو محمد).. بعض الزملاء تزعجهم الأصوات العالية.
أخذ ضرار جهاز التحكم… رفع الصوت أكثر.. ثم جلس قرب رحمو.. قرّب فمه من أذنه كمن يبوح بسرّ خطير: كثير من الموظفين لا يفهمونني… بعضهم يظن أنني أحب الإزعاج حين يسمعون أصوات التلفزيون العالية التي تصدر من غرفتي. في الواقع، أنا لا أفعل ذلك لإزعاج الآخرين، ولكني أفعل ذلك لأسباب وظيفية…عندما يدخل إليّ بعض المحررين أضطر إلى رفع الصوت خشية أن يكون المحرر مصطحباً معه آلة تسجيل ليسجّل أقوالي خفية. تعرف.. يطفر المرء أحياناً من المهام الموكلة إليه، ويقول كلاماً يُحسب عليه.. وأنا بغنى عن هذه المشكلات .

حين مر معتصم على مرأى من ضرار وبدا أنه يتجاوز الباب.. صاح ضرار بصوت عالٍ: تفضّل أستاذ.. مال برأسه نحوي: خذ هذا النموذج مثلاً.
دخل معتصم مسلّماً فأجابه ضرار بصوت أقدّر أنه وصل إلى آخر الشارع: أهلين أستاذ.. كيف الأحوال.. أما تزال منزعجاً من العمل المسند إليك.. على كل حال يمكن التفاهم والتنسيق مع رئيس القسم.
يبادر معتصم بصوت يشبه الهمس : يا أستاذ أنت تعلم.. رئيس القسم وصل إلى الصف التاسع ثم ترك المدرسة ولا يهمه العمل الصحفي.. وكل اهتمامه منحصر في عمله الذي يقوم به في (باب جنين).

يجيبه ضرار -كعادته- بصوت مرتفع: مالك حق يا أستاذ.. أنا مثلاً أعمل في وساطة العقارات… ومع ذلك أقوم بعملي في رئاسة التحرير على خير مايرام..
يلتفت إلى رحمو: أليس كذلك يا(أبو الرحوم)؟ ويتابع: والله حمودة رئيس القسم( مافي منّه).. في كل مناسبة يحضر إلى الجريدة سلة تين أو قفّة عنب.. وما يشبه ذلك.. تعرف.. حسب الموسم.

يهم معتصم بالكلام: - ولكن..
يقاطعه ضرار قائلاً: أخي قولاً واحداً عليك بالتفاهم معه.
ثم يدور ليجلس خلف طاولته الفارهة.. يتناول السماعة:
ايه برهو.. عطينا رئيس الجامعة.

 ألو… الدكتور حسون كيفك… وصلتك الأمانة؟.. كويّس.. أريد أن أسأل: هل تغير شيء في برنامج محاضراتي… على حاله.. كويّس.. أردت فقط أن أطمئن.. أنت تعلم مسؤولياتي.. أخشى أن أنسى بين الجامعة والجريدة والعقارات.. الله معك.
يضع السماعة.. يلتفت إلى معتصم: إيه حبيبي.. شوف شغلك.
يخرج معتصم وهو يتعثّر بشريط الهاتف الملقى على الأرض.
يلتفت ضرار إلى رحمو: مارأيك بهذه الحركة.. منيحة؟.. المنظوم مفكّر حاله وحده فهمان.. خلّي يعرف إني بدرّس بالجامعة.. مو متله.. شقفة مصحّح..
يقف رحمو وهو يؤكد: ماذا نفعل.. الناس أجناس.. بالإذن يا مولانا.
ساد الصمت برهة ثم التفت ضرار إليّ قائلاً: أنت لاتعلم أن صوتي جميل…إنني أتقن كل الألحان وأفهم في الأدوار… استمع إلى هذه الأغنية الوطنية لأصالة نصري بصوتي.
ثم بدأ بالغناء بصوت عالٍ وبدأ يطرب على تصفيق المحررين الذين بدأوا يتوافدون إلى غرفته.

حين انتهت الوصلة استأذنته في حاجة لي.
عبرت الممر الطويل، وحين وصلت إلى غرفة معتصم أومأت له بالتحية.. وقف وهو يرد السلام: تفضّل.
خجلت من حرارة تحيته، ولم أقدر على تجاوز الغرفة.. دخلت..
فوجئت بـ (رحمو) يجلس عنده.. أطلق باتّجاهي نصف ابتسامة ترافقها إيماءة كسولة لرد التحية. أدار رأسه باتجاه معتصم وسأله وهو يومئ باتّجاه غرفة رئيس التحرير:
كيف رأيته..؟ مصدّق نفسه بأنه رئيس تحرير.. أرأيت؟ يريد أن يرينا أنه يدرّس في الجامعة.. الله يعين الطلاّب.. تصوّر.. هو يدرّس.. وماذا.. أصول الإعلام.. وهو لايعرف سوى أسس الرشاوى.. أخي الرجل مريض.. -وكما يقول- قولاً واحداً.
يكتفي معتصم بالابتسام.

يدير رحمو رأسه باتجاهي: هل تعرف يا أستاذ كيف يكتب مايسمّيه بافتتاحية العدد؟..

يصمت برهة.. يتكبّد مشقة الوقوف .. يغلق الباب ثم يجيب: أكيد لاتعرف.. سأقول لك:

يضع أمامه أكداساً من الورق.. يصغي إلى قناة الأخبار الرسمية.. وينقل مايجده جديراً بالاهتمام.. ساعة.. ساعتين.. ثلاث ساعات وهو يصغي ويكتب… ثم يتمعّن في افتتاحيات صحف العاصمة.. يضع خطوطاً بالقلم الأخضر تحت مايراه مفيداً لافتتاحيته ثم يعيد تركيب الجمل التي ينقلها بطريقته.
يقاطعه معتصم: إنه يتفاءل.. وربما يحلم بالقلم الذي يكتب بالأخضر.
يتابع رحمو: اترك الحكواتي واسمع الحكاية.. أقسم بالله هذا مايفعله.. يعيد كتابة شخبطاته بخط يجهد في تحسينه… بعد ذلك يقرع الجرس بنغمة طويلة… يطلب من أبي محمد أن ينادي على المحرر رقم واحد من المقرّبين… بعد نصف ساعة يعيد الافتتاحية وعليها كثير من التصحيحات.

يعيد كتابته وفق التصحيحات المرافقة، ثم يرسل في طلب المحرر رقم اثنين.. يعود المقال وعليه تصحيحات بالقلم الأحمر… يحمله ويأخذه بنفسه إلى المصححَين المتجاورَين أنس وياسر.. ويجلس فوق رأسيهما وهما يقرآن ويتناقشان ويرجعان إلى صحف سابقة للتدقيق في التواريخ والحوادث وأرقام قرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن.. ويصححان..

يقاطعه عاصم مبتسماً: تصوّر دائماً القرارات نفسها والحوادث نفسها.. وثلاثتهم لم يحفظوا التواريخ وأرقام القرارات بعد؟.
يقاطعه رحمو غاضباً: اسمعوا.. تصبح المقالة كلها أزرق على أحمر على أسود.. تتشابك الخطوط وتكثر الأسهم. المهم.. يحمل رئيس التحرير أوراقه ويتّجه نحو غرفة التنضيد..

يصيح بهم بصوته المعهود: يا الله يا شباب.. سنبدأ العمل.. اتركوا الغرفة كي لاتشوّشوا علينا.

يتثاقلون بالخروج من الغرفة واحداً تلو الآخر وهم يتمتمون .. وينهاهم فراس هامساً بسخرية: من دون أصوات ياشباب.. هذه افتتاحية صاخبة ولا تنقصها الأصوات.
يجلس بجانب منضّده المقرّب ليملي عليه المقال.. كلمة.. كلمة..
طبعاً.. المنضّد جوني يأتي إلى غرفتي ويبدأ بالشتائم.. يظل يشتم نصف ساعة حتى ينتهي التنضيد..
المسألة لم تنتهِ عند هذا الحد، ولكنّ جوني يتعب من الشتائم فأبدأ بها أنا مع مرحلة التصحيح..

في هذه المرحلة يصيح ضرار: أهل التصحيح.. عالشغل.
يدخل مصححا الافتتاحية ويقفان على يمينه وعلى يساره وهو جالس قرب المنضّد يقرأ النص على الجهاز بصوت يعبر الممر الطويل حتى يصل إلى الحارس… حينذاك تنطلق أسارير كل العاملين، لأنّ الصوت الذي يصدر يعني الوصول إلى المرحلة الأخيرة من كتابة الافتتاحية.. ويبدؤون النظر إلى الساعة.. الحادية عشرة.. الحادية عشرة والنصف.. الثانية عشرة.. كل يوم سبت موعد مختلف بحسب طول الافتتاحية وأهميتها.
أنظر إلى الساعة.. أقف: بالإذن يا شباب.. أهمّ بمغادرة الغرفة فيسبقني رحمو هو يسأل مستنكراً: ومن يقرأ الافتتاحية حين تصدر الجريدة؟

يسمع داهج السؤال وهو يدخل، فيجيب بعد أن يطمئن إلى مغادرة رحمو: والله ولا واحد.. كل أسبوع نفس الكلام، قرأت له ثلاث افتتاحيّات.. ودائماً نفس الكلام.. فقط يُقدّم ويؤخّر الجمل بحسب مقتضى الحال.

يلتفت داهج إلى عاصم: عمّا كنتم تتحدثون.. انتبه.. رحمو متملّق وهو ينقل الأحاديث بين الغرف ليحدث بلبلة ويرضي رئيس التحرير.
أخرج وأنا أقول : انتبهوا من (اللواصين).

أتابع مسيري وتلفت انتباهي كثرة الأوامر الإدارية المعلّقة على كل الجدران.. وعلى باب كل غرفة ملصق يقول: ممنوع الدخول لمن ليس له عمل. لكن الذي أدهشني حين وصلت إلى المرحاض أن المنع وصل حتى إلى هذا المكان، وتساءلت: تُرى من الذي يمكن أن يدخل إلى هذا المكان دونما حاجة؟!..

دفعت الباب وأنا أتابع قراءة الأمر الإداري ففوجئت باصطدامه بشيء ما، ثم سمعت صوت نحنحة وسعال مفتعل، ورأيت رجلاً قصير القامة متجهاً صوب الحائط فتراجعت بحركة سريعة حين أدركت أن الذي يتنحنح هو ضرار.

شعرت بالقرف ..عدت إلى غرفته من غير أن أقضي حاجتي.
بعد قليل دخل مسلّماً: أهلين بكاتب المذكرات. يصمت برهة.. يتذكّر شيئاً ما فيعاوده غضب مفاجئ: القزم يقول لي أنه مهذب.. وأنا لست كذلك؟
حين ينتبه إلى أنه قصير القامة أيضاً، يصحّح : فرخ ينعتني بقلّة التهذيب… الآن سأصدر أمراً إدارياً بأقصى عقوبة له.. بل إنني سأفصله من عمله كي يتعلّم عدم التطاول على أسياده.

يجلس على الطاولة ويهم بصياغة العقوبة فيرن جرس الهاتف.
ينتفض واقفاً وهو يتحدث: نعم سيدي.. حاضر.. حاضر سيدي.. ولكن.. نعم سيدي.. أمرك سيادة الوزير.

حين تنتهي المكالمة يتهادى على الكرسي وهو يحدّق بي وقد بدت ملامح الدهشة والخوف والإحباط على وجهه… ينقّل عينيه في أرجاء الغرفة يضع يديه على مسند الكرسي وهو ينظر إلى نفسه داخلَهُ.
يلتفت إليّ: لو سمحت أطفئ التلفزيون واقفل الباب.
تجمد ملامحه وكأنه لم يعد يعرف نفسه…

يخاطبني: تصوّر.. الوزير حوّلني إلى لجنة التفتيش.. قال لي: إن ملفي المخبّأ أُخرج من مكانه وعليّ مواجهة اتهامات كثيرة.. رشاوى متعلقة بغرفتَي الصناعة والتجارة ..والهاتف.. واستغلال السلطة الوظيفية للتحرش بميادة التي فُصلت من عملها، وفضيلة التي نقلتها إلى قسم غير قسمها.. وعلاقة مشبوهة مع ميمي عبدو… وآخرها التستر على قتل عمد جرى في مشفى الحطّاب ولم أسمح بنشره.

صمت برهة… راح ينظر عبر النافذة، ثم قال: تصور… الوزير لم يوافق أن أعمل حتى مجرد موظف في قسم التحرير… وقال لي: أبشّرك.. لقد فصلك إخوانك من الحزب.
التفت إليّ بشكل مفاجئ: أريدك أن تصوّر معاناتي… يا أخي أستغرب كيف يعاملونني بهذا الشكل، أنا الذي لم أدخر وسعاً في إرضائهم… كيف يفكر إخواني بفصلي من الحزب بعد أن أحالني الوزير إلى التحقيق.

يتّجه ببطء شديد إلى كرسيّه: - بلا مدير بلا وجع راس… أستطيع الآن التفرّغ لكتابة مذكراتي… يناولني ورقة كتب فيها: أنا ضرار المناضل، نشأت في أسرة مكافحة…
يقول لي وهو يخرج: أكمل باقي المذكرات كما يليق، والمعلوم محفوظ.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى