
(مقتل فخر الدين) في طبعة جديدة
عن (الدار المصرية اللبنانية) بالقاهرة، صدرت حديثًا الطبعة الثانية من رواية (مقتل فخر الدين) للروائي عز الدين شكري، في طبعة أنيقة وفاخرة بغلاف الفنان أحمد اللباد، وتقع في 250 صفحة من القطع المتوسط، وكانت طبعتها الأولى قد صدرت منذ فترة طويلة، وها هي الدار تقدمها للقراء لتكتمل ثلاثية عز الدين شكري الذي كان قد أصدر من قبل روايتي (أسفار الفراعين)، و(غرفة العناية المركزة)، والأخيرة وصلت للقائمة القصيرة في جائزة البوكر العربية لعام 2008 م .
والمؤلف دبلوماسي مصري، يعمل حاليًا أستاذًا زائرًا للعلوم السياسية بالجامعة الأمريكية في القاهرة . وروايته (مقتل فخر الدين) هي الأولى في إنتاجه الروائي، وهي تظهره منذ البداية حين اختار الفن مجالاً للتعبير عن رؤيته، فالفن هو المجال الأرحب الذي يتسع لتعدد الرؤى ويسمح لها بالنمو بعيدا عن آليات عمل الدبلوماسي، الذي يلتزم ببرنامج محدد لا يمكنه الخروج فيه عن إطار تحقيق هدفه الذي لا يشارك في صنعه، فيما هو بالفن خالق لعوالم كثيرة ومحدد لأهداف المبدع ورؤاه.
عمل عز الدين شكري الروائي، يصلح شهادة حيَّة على العصر والظروف التي تحياها شخصياته الروائية، فهو يتعرّض للواقع السياسي العام، وانعكاساته اجتماعيًّا ونفسيًّا، بخبرة أتاحها له عمله في السلك الدبلوماسي، ذلك العمل الذي يقول عنه :( عندما تكون دبلوماسيًّا، لا تصنع الأشياء بالضبط كما تريد، فأنت طوال الوقت تتفاوض في الأمر الذي يلقي بظلاله على الحياة الشخصية، لكن في الكتابة الأمر مختلف، فأنا أصنع ما أريد، أخلق شخصيات وأصنع أزمات، وأدخل الأزمنة في بعضها البعض .. ليس لأي أحد سلطة علّي .. أنا حر تمامًا فيما أريد أن أفعله) .
ركَّز عز الدين شكري في هذه الرواية على التفاصيل الصغيرة التي تسهم في صناعة الحدث، لتشكل مجموعة من الأنهار الصغيرة، تصب في بحر الرواية الكبير، لتشكل ملامحه عبر تفتيت الحدث إلى مكوناته ودوافعه الأولية، بحيث يبدو هذا الحدث حقيقيًّا وواقعيًّا إلى درجته القصوى، لا يدور في فراغ، وليس وليد لعبة روائية قائمة على الصنعة، وهو ما يضفي على فلسفة العنف في مقتل فخر الدين بعدًا ميتافيزيقيا : (صمتت بين السريات لحظة، ثم انهال الصوت داميًا متفجرًا من كل نافذة ومدخل وسطح .. سقط فخر الدين سقطة واحدة على رصيف الشارع في دمه الأحمر القاني.. أفسح الهواء صدرًا لإشارة الصمت فصمتت الرشاشات الآلية.. يطل وجه أحد الجنود من باب بيت مقابل .. عبر الشارع مسرعًا شاهرًا بندقيته باتجاه الجسد الممدد على الرصيف.. دفعه بركلتين متلاحقتين حتى يتأكد من موته، رفع رأسه إلى من فوق السطح وأشار بإبهامه إلى أعلى).
في هذه الرواية يذهب المؤلف نحو هدفه مباشرة، ليدخل قلب معركة الإنسان الفرد مع الزمن الوجودي بعنفه واصطخابه واشتراطات واقعه التي تحيل الحياة جحيمًا لا يطاق، ولتحقيق هذه الرسالة سلكت الرواية طرائق تقنية روائية متعددة، مثل الاقتباسات الشعرية وكلها تقريبًا من محمود درويش رمز المقاومة والصمود في الشعر العربي المعاصر، وكأنها الخلفية الموسيقية التي تساعد فخر الدين على البقاء، في ظل إحباطاته المستمرة والمتعددة وتعرضه للخيانة من صديقه الشاعر الذي وشى به، ثم دخوله السجن، وتجنيده في حفر الباطن، يؤطر الشعر إذن هذه الرؤية الروائية ويخرجها من كآبتها وسوداويتها إلى أفق إنساني أرحب وجوديًّا، وكأن الشعر هنا هو نقطة الضوء الوحيدة في روح فخر الدين .
ثم تأتي تقنية السرد المباشر محدد الخط والهدف على لسان السارد المتكلِّم، أو السارد الواعي بالعمل ككل، تتخلله آلية البوح والاستدعاء حيث تعمل الذاكرة عمل المنشِّط الموضوعي، ليستدعي الحدث الآني تاريخه المتكرر. وهنا يصبح الحوار ضرورة فكرية تظهر مكنون الشخصية الروائية في تشابكها مع محيطها الأقوى منها القامع لها.
ثم تأتي ثالثًا تقنية الرسائل، وهي تقنية تمنح العمل حيوية وتخرجه من إطار الاصطخاب والعنف الرمزي واللغوي التي تغزو روح فخر الدين في لحظات عزلته؛ هذا العمل الذي لم يلق حقه من النجاح والذيوع، جدير بأن يوضع في مكانه اللائق به، وبأن يصبح عز الدين شكري أحد كبار كتابنا المصريين في فن الرواية .