الجمعة ١٦ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمود الغيطاني

مقدمة سينمائية حول اصطلاحات غير سينمائية

إذا كانت المدارس النقدية السينمائية قد تباينت إلى حد بعيد في نظرتها تجاه السينما سواء باختلاف الرؤى أو حتى باختلاف المناهج أو الأيدلوجيات التي ينتمي إليها الناقد السينمائي، أو ما بين اتجاه يري قراءة السينما و من ثم تحليلها قراءة فنية بحتة- و هذا يكاد يكون خاصا بالدارسين و الأكاديميين- لا تري في الفيلم السينمائي سوي قواعده الفنية المتعارف عليها بين السينمائيين و الدارسين في هذا المجال مثل الاهتمام مثلا بالتوليف و التركيب الفيلمي أو ما نطلق عليه إجمالا "المونتاج"، و الكاميرا المتحركة و أهمية تلك الحركة بالنسبة لديناميكية و فنية الفيلم و التي كانت من أهم الأسباب التي لفتت الأنظار تجاه الأفلام الألمانية في بداياتها الأولي و من ثم فقد أكسبتها شهرة كبيرة نظرا لأن الألمان كانوا أول من قام بإنتاج أفلام تعتمد علي الكاميرا المتحركة في أوائل عام 1908 ، التداخل و الاختفاء الذي قام الرائد الفرنسي" جورج ملييه" بإجراء العديد من التجارب الفيلمية عليه منذ بدايات السينما المبكرة في الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولي، كذلك تحليل المرئيات داخل الفيلم، التوليف المتوازي الذي كان رائده المخرج الأمريكي" ادوين برورتر" حيث قدم لنا هذه الفنية الهامة في فيلمه "يوم في حياة رجل مطافئ" عام 1902 و التي تلقفها من بعده أبو السينما العالمية "ديفيد وارك جريفيث" كي يحاول إكساب هذه التقنية السينمائية المزيد من العمق؛ و لعل أعمق مثال قدمه لنا "جريفيث" كان واضحا في فيلمه الهام "التعصب" عام 1916 ، نظرية عين الكاميرا، الإضاءة داخل الفيلم السينمائي، الإيقاع الفيلمي، تقاطع اللقطات النفسي الذي برع فيه كثيرا المخرج" جون فورد" في فيلمه "المخبر" عام 1935 ، كذلك أنواع اللقطات السينمائية و غير ذلك الكثير من تقنيات و فنيات الفيلم السينمائي.

نقول أنه إذا كان هناك اتجاه نقدي ما يعتمد في نظرته النقدية الأولي علي مثل هذه الأمور؛ فهناك اتجاهات نقدية أخري تحاول تحليل الفيلم السينمائي من خلال وجهات نظر مغايرة منها علي سبيل المثال النظر في جماليات الفيلم السينمائي أو ما نسميه" سيميائية الفيلم السينمائي" ، أو اللغة الفيلمية الخاصة و كيفية تحقيقها داخل الفيلم.

كذلك نري المدرسة الفرنسية في النقد السينمائي و التي كان رائدها الناقد الفرنسي" الكسندر استروك" ، تلك المدرسة النقدية الهامة التي تنظر إلى الفيلم السينمائي نظرة عقلية تكاد تبتعد إلى حد ما مع النظرة الفنية الخاصة بالفيلم، حيث يعتمد رواد هذه المدرسة علي ثقافتهم الأدبية في المقام الأول و من ثم فهم يتناولون الفيلم السينمائي علي أساس أنه قطعة أدبية في شكل صورة مرئية، و من خلال هذه الصورة الأدبية- إذا جاز لنا التعبير- فهم يبدأون في تحليل الفيلم السينمائي و من ثم إيجاد الروابط العميقة- الظاهرة منها أو الخافية- التي تربط الفيلم السينمائي بالعديد من الظواهر الفنية الأخرى مثل الأدب و الموسيقي و الفنون التشكيلية بل و الفلسفة أيضا و جميع العلوم الاجتماعية، و بذلك و من خلال هذه النظرة النقدية المغايرة تماما فهم يحيلون الفيلم السينمائي إلى قطعة أدبية بها الكثير من الفنيات و الأدبيات المغايرة للتقنية السينمائية المتخصصة، و من ثم تخرج مقالاتهم و دراساتهم النقدية بها الكثير من الجماليات، بل و كأنها قطع أدبية جميلة يستطيع القارئ- المتلقي- أيا كانت ثقافته الإقبال عليها و من ثم هضمها و التواصل معها بدون أية صعوبة علي الإطلاق- خلافا للدراسات السينمائية المتخصصة التي لا يستطيع الإقبال عليها سوي المتخصصين في حرفية الفن السينمائي- فن الفيلم-*.

فنري أصحاب هذا الاتجاه- و هم كثيرون في السينما الفرنسية- يحاولون دائما الاستشهاد بالكثير من التعابير الأدبية و الفلسفية بل و الموسيقية أثناء تناولهم للفيلم السينمائي من أمثال" جان لويس بوري" الذي يطلق عليه" أبو النقد السينمائي الفرنسي"، " ميشيل هنري" ، " كلود ميشيل كلوني" ، و غيرهم الكثيرين من نقاد السينما الفرنسية الذين استطاعوا ببراعة بالغة تطبيق نظرة أستاذهم في هذا الاتجاه- الكسندر استروك- التي تفيد بأن الكاميرا في عصرنا قد حلت محل القلم.

وإذا كانت جميع هذه المدارس النقدية و غيرها قد تباينت إلى هذه الدرجة في نظرتها الخاصة تجاه فن الفيلم، فان ذلك يعد خير دليل علي رحابة العالم الفيلمي و من ثم قدرته علي التشكل تبعا للرؤى النقدية المختلفة، و هذا يعطي للفيلم خاصية هامة يكاد يتميز بها وحده دون كافة الفنون الأخرى و هي خاصية المرونة التي تجعله قابلا للتشكيل.

و هذا إن دل علي شئ فهو يدل علي قدرة الفيلم علي احتواء جميع الفنون- سواء منها القديمة أو المستحدثة- و من ثم يصدق عليه ذلك الاصطلاح البارع الذي أطلقه عليه الناقد الفرنسي الإيطالي الأصل" ريتشيوتو كانودو" عام 1923 – الفن السابع- باعتبار أن السينما قد استطاعت احتواء الفنون الستة السابقة عليها الممثلة في العمارة، الموسيقي، الشعر، الرقص، الرسم، النحت، إلا أننا نحتفظ بحق الاختلاف مع الناقد الفرنسي" ريتشيوتو كانودو" فنري أنه قد جانبه الكثير من الصواب حينما أطلق ذلك الاصطلاح علي السينما، لأن السينما في حقيقة الأمر لم تحتو الفنون الستة السابقة عليها فحسب؛ بل استطاعت بفنيتها العالية احتواء جميع التجارب الإنسانية التي خبرها الإنسان منذ هبط علي وجه الأرض.

إلا أنه إذا كانت السينما بمثل هذا الشكل الطيّع الذي يستطيع تقبّل العديد من الرؤى النقدية المختلفة في تناولها و من ثم تحليلها فليس معني هذا علي الإطلاق أنها من مجالات الفنون المفتوحة علي مصراعيها، و التي تجعل كل من رأي في نفسه القدرة علي التذوق الفيلمي أن يحاول التنظير و من ثم التقعيد للفن السينمائي بدون دراسة عميقة و مستوفاة لهذا الفن الشديد التعقيد في حقيقته علي الرغم من بساطة شكله و من ثم يبدأ في إطلاق العديد من الاصطلاحات و إثارة العديد من الإشكاليات التي لا تمت للفن الفيلمي بصلة علي الإطلاق، و من هنا فنحن نحتفظ بحق الاختلاف مرة أخري مع أستاذنا القدير-الذي تعلمنا منه الكثير- الدكتور سمير فريد الذي يصرح في إحدى حواراته* ( أن كل ما يكتب عن الأفلام من آراء هو نقد، لكن ما هي قيمته، و ما مدي عمقه، و هل هو منهجي أم لا؟ )، فليس من المنطقي أو المقبول علي الإطلاق أن يفتح الباب علي مصراعيه هكذا لكل من أراد الفتوى في مجال النقد السينمائي سواء كان واعيا لمضمون هذا الفن أو غير واع لأن هذا يؤدي إلى كارثة نقدية بكل المقاييس تؤدي في النهاية إلى تضارب الآراء النقدية حول فيلم واحد نظرا لاختلاف الثقافات و تباينها و من ثم يصدق قول الكثيرين الذين يتهمون نقاد السينما بالكتابة تبعا لأهوائهم و حالاتهم المزاجية بل تبعا لمصالحهم الشخصية، و أنه إذا كان هناك مجموعة من النقاد تجمع علي فنية فيلم ما فهناك في المقابل مجموعة أخري تجمع علي عدم فنيته بل و هناك مجموعة ثالثة تري أمرا آخر، و بالتالي يبدأ النقد السينمائي الدخول في دائرة مفرغة من الهراءات و العبث نتيجة دخول من ليس لهم صلة أو خبرة بهذا المجال إليه، بل نحن نرفض تماما قول الدكتور سمير فريد برمته حتى لو استرسل في حديثه ليقول- لكن ما هي قيمته، و ما مدي عمقه، و هل هو منهجي أم لا؟- لأن هذا يعد تبريرا و من ثم ترك الباب منفرجا بعض الشيء لبعض هؤلاء الذين يدخلون هذا المجال و هم ليسوا علي دراية به اللهم إلا أن الصدفة التاريخية البحتة قد وضعتهم في مجال السينما مما أدي بهم في نهاية الأمر أن اعتبروا أنفسهم أوصياء علي السينما المصرية بل و استطاعوا الخروج باصطلاحات جديدة ليس لها معني علي الإطلاق سوي في رؤوسهم هم فقط، ساعدهم في ذلك بعض التغيرات الخطيرة في بنية المجتمع و شكله الهيكلي و ترتيبه الطبقي، كذلك العديد من الانهيارات الاقتصادية التي تبعتها بالضرورة انهيارات أخلاقية و قيميه أدت في النهاية إلى ظهور ما يسمي بالسينما النظيفة و السينما غير النظيفة علي الرغم من عدم قدرتنا علي تحديد مدلول مثل هذه الاصطلاحات.

و علي الرغم من عدم قدرتنا علي فهم هذا الاصطلاح العصي- الجديد نوعا ما علي السينما المصرية- و الذي بدأ ينتشر انتشارا كبيرا في الآونة الأخيرة- بل و العجيب انسياق الكثيرون من العاملين في مجال الحقل السينمائي لترديد هذا الاصطلاح-و نتيجة لأننا قد وجدنا معظم نقاد السينما المصرية- إن لم يكن جميعهم باستثناء وائل عبد الفتاح*- لم يحاولوا التصدي و من ثم مناقشة مثل هذه الاصطلاحات الغريبة فقد كان لا بد من وقفة متأنية أمام هذا الاصطلاح لمحاولة تحليل مفهومه و من ثم الوصول إلى الهدف الذي يبتغيه أصحاب هذا الاتجاه.
و بالرغم أيضا من علمنا مقدما بما يعنيه هذا الاصطلاح- إذا جاز لنا التعبير- الذي ساعد علي انتشاره- بل و ابتكاره أيضا- العديدون من أصحاب المد الديني الجديد ذوي الرؤى الأخلاقية و القيمية الجديدة بل و الشاذة علي المجتمع- و لعل في هذا ما يدعم وجهة نظرنا و خلافنا مع رأي الدكتور سمير فريد- و التي لا تري في كل ما تقدمه السينما سوي الضلال و الزيغ عن الحق، بل و انحراف لا بد من القضاء عليه و مواجهته بكافة السبل.

نقول علي الرغم من علمنا المبكر بذلك إلا أننا حاولنا تحري الموضوعية في بحث هذا الاصطلاح و من ثم البحث في تاريخ السينما المصرية علي وجه الخصوص- بعد أن تبنينا وجهة نظرهم الخاصة- عن تلك السينما غير النظيفة و الأخرى النظيفة، إلا أننا قد صدمتنا المفاجأة القاسية و التي أفادتنا أن تاريخنا السينمائي المصري كله تاريخ غير نظيف و من ثم فلا بد من إحراقه و التخلص منه نظرا لما يزخر به من مشاهد عري و تقبيل و ابتذال و أحضان و ما إلى ذلك من تلك الهراءات التي لا تدعو سوي للفساد- و كأن هؤلاء الناس يرغبون من الفيلم الذي هو في حقيقته مقطع من حياة معاشة بالفعل تحتوي في مضمونها كل ما تحتويه حياتنا الفعلية المعاشة من عنف و فساد و عهر و قبح، أن يتغاضى عما هو موجود بالفعل في حياتنا الواقعية و من ثم عدم التعرض إليه و النظر إلى أمور أخري تشغل حيز اهتمامهم- إلا أن الفيلم إذا سار بمثل ذلك المنطق الانتقائي يكون قد فقد مصداقيته منذ الوهلة الأولي لأنه يتحدث في هذه الحالة عن حياة مثالية ليس بها مكان للرذيلة و العنف و المخدرات و من ثم يفقد إمكانية تواصل المشاهد معه نظرا لأنه فاقد لمصداقيته في الأساس.

و بذلك رأينا مجموعة كبيرة من الناس ليس لها علاقة علي الإطلاق بفنية الفيلم و حرفيته يرغبون في صنع سينما جديدة تماما ليس لها علاقة علي الإطلاق بتاريخ حرفية الفيلم السينمائي، بل و يطالبون العاملين في مجال الحقل السينمائي بالإصغاء إليهم و الرضوخ لرغباتهم نظرا لأنهم يرغبون ذلك.
إلا أنه في الآونة التي بدأ فيها هذا الاتجاه الغريب علي السينما المصرية يطفو علي السطح الآسن لثقافتنا بشكل عام بدأ اتجاه آخر أكثر خطورة يتشكل في الأفق البعيد ألا و هو موت كل ما هو جاد و فني في السينما المصرية و من ثم عدم الإقبال عليه بدعوى عدم قدرة المشاهد علي التواصل مع تلك الأفلام الجادة بل و عدم فهمها- كما صرح أحد أشهر الموزعين في السوق السينمائي المصري*- و هنا تم إحلال العديد من الأفلام الأخرى محل هذه الأفلام الجادة بل و الهامة جدا في تاريخ السينما المصرية و أقبل عليها القطاع الأكبر من جمهور السينما ووافقهم في ذلك و من ثم حذا حذوهم الكثير من المنتجين بل و نسبة كبيرة من المخرجين الذين صاروا يشترطون علي السيناريست كتابة هذه النوعية من الأفلام التي يريدها الجمهور علي الرغم من سطحية و تفاهة بل و تهافت هذه الأفلام فنيا.

بل و صار هؤلاء المخرجون و المنتجون يتذرعون بما أسموه " أزمة السيناريو"- بمعني عدم وجود سيناريو جيد يستطيعون تقديمه و أن كل ما يقدم حاليا في السينما المصرية هو المتاح أمامهم- حينما يؤاخذهم النقاد الجادون في مجال السينما المصرية علي ما يتم تقديمه من أفلام متهافتة لا يوجد في قصتها علي الإطلاق أي رباط موضوعي بين المشاهد، بمعني أنها تفتقد في الأساس لأهم دعامة من دعامات فنية الفيلم ألا و هي التوليف" المونتاج" – العلاقة الفيلمية- التي نستطيع من خلالها الحكم علي فنية الفيلم من خلال العلاقة الفيلمية التي تربط المشاهد ببعضها البعض.
و هنا صار من السهل جدا لأي إنسان ليس له علاقة بالسينما أن يعيد ترتيب النسق الفيلمي لمشاهد مثل هذه الأفلام حسب هواه نتيجة افتقاد هذه الأفلام العلاقة الفنية في جميع مشاهدها و من ثم صارت مجرد مجموعة من الاسكتشات التي لا معني لها.

إلا أن موضوع" أزمة السيناريو" – التي يتذرع بها جل المنتجون و المخرجون- تذكرني و للوهلة الأولي بذلك الحوار البارع الذي دار بين الكاتب الفرنسي" كريستيان ساليه" و السيناريست الفرنسي" جيرار براك" الذي كانت له علاقة وثيقة بل و كتب معظم سيناريوهاته للمخرج الفرنسي البولندي الأصل " رومان بولانسكي" مثل فيلم "كراهية" 1964 ، "مرقص مصاصي الدماء" 1967 . فنري المحاور يتساءل قائلا:
*غالبا ما يقال أن هناك "أزمة سيناريو" و ليس هناك كتاب سيناريو؟

 هذا ليس صحيحا بالمرة، إن أصحاب المهنة هم الذين يعتمدون هذه الحقائق- المضادة و يؤمنون بها و يصدقونها، يمكنني الآن و فورا أن أشير إلى قصص رائعة يتعارك معها المنتجون بلا نتيجة. أظن- دون أن أقوم بتحليل عميق- أنهم في أعماق أنفسهم يريدون- أي المنتجين- قصصا تعجبهم هم، يحبون أن نمسح علي شعيرات مسامهم، أن نتملقهم.

*هل تقصد أنهم يرون بأنهم يعرفون ما يريده الجمهور؟
 بكل تأكيد، و هنا تبدأ الكارثة. فإذا أنت قمت بعمل ما من أجل أن تثير الإعجاب أولا يفقد العمل معناه، لكن ينبغي أن تقوم بالعمل أولا، فإذا أثار الإعجاب يكون ذلك شيئا جميلا.

بل و في جزء آخر من الحوار نري "كريستيان ساليه" يسأله:
*إذا كانت السينما مشاهدة، فيجب أن تسلي و تسحر و تثير الإعجاب أيضا؟
 نعم، و لكن أن تحاول جلب الإعجاب بأي ثمن فهذا شئ سئ، فالعاهرات هن اللاتي يحاولن إثارة الإعجاب بأي ثمن و لذا يقمن بتصرفاتهن "السينمائية" التي هي في النهاية إحدى أجمل السينمات في العالم. و لكن إذا لم نكن عاهرات فأظن أنه لا يحق لنا أن ننسب أنفسنا إلى هذه المدرسة.*

مثل هذا الحوار الذي اقتبسناه بين كل من " كريستيان ساليه" و السيناريست" جيرار براك" يؤكد لنا أن هذه المشكلة الغريبة التي ظهرت في السينما المصرية بشكل أكثر فداحة و قسوة عما كانت عليه من قبل- موت السينما الجادة- بل و ذلك الاصطلاح الأغرب- أزمة السيناريو- الذي هو ناتج طبيعي لتلك الأزمة و الذي صار يلوكه البعض ليست مشكلة تختص بها السينما المصرية فقط؛ بل هي مشكلة عامة تواجه السينما العالمية كلها؛ فأنا ما زلت أذكر تلك المشكلة التي واجهها فيلم" طار فوق عش المجانين" للمخرج "ميلوش فورمان" حيث لم يكن هناك أحد يريد هذا الفيلم علي الإطلاق بل و ووجه الفيلم بالرفض الذريع، فكانوا يقولون( فيلم عن المجانين- لن ينجح أبدا) و اليوم يعتبر إيراد هذا الفيلم ثامن أحسن إيرادات في تاريخ السينما كلها. إلا أن هذه الأزمة عندنا قد أخذت شكلا كريها شديد الوضوح ينبئ بكارثة سينمائية خطيرة.
مما جعلنا نتأمل هذا الاتجاه الخطير نسبيا في السينما المصرية محاولين تحليله و الوصول إلى جذوره الأولي و أسباب تلك الأزمة الخطيرة التي حدت بالكثير من المخرجين الهامين بل و الجادين جدا إلى هجر العمل السينمائي تماما و الاتجاه إما إلى مجال الإعلانات أو الفيديو كليب أو التليفزيون أو الجلوس في بيوتهم.

إلا أننا بعد بحث مسألتي السينما النظيفة و السينما غير النظيفة، مسألة موت السينما الجادة رأينا أن السينما غير النظيفة بالفعل- من وجهة نظرنا الخاصة- ليست هي السينما الزاخرة بمشاهد الجنس و العنف و ما إلى ذلك؛ بل هي السينما الجديدة التي يتم تقديمها اليوم لجمهور جاهل تماما بالسينما، بل و فاقد للحس الجمالي السينمائي و الراغب دوما في سينما متهافتة يطلق عليها " سينما الأسرة" مثل فيلم "اللمبي" للمخرج" وائل إحسان" 2002 و ما يسير علي نهجه من الأفلام الكثيرة التي يتم تقديمها لنا في الآونة الأخيرة، بينما السينما النظيفة التي لا بد أن تكون- كما نراها نحن- هي تلك السينما الجادة التي تحترم المشاهد و تحترم عقله دون الاستخفاف به، بل و تحترم فنية الفيلم بوجه خاص.

فنحن لا نستطيع- كما يفعل أصحاب هذا الاتجاه- أن نطالب المخرج أو السيناريست أو غيرهما أن يصنعا لنا فيلما يدعو إلى الأخلاق القويمة أو التمسك بالوطنية أو ما إلى ذلك من شعارات؛ لأن التجارب التي هي علي هذه الشاكلة محكوم عليها بالفشل بل و تدخل بالفيلم في نطاق السينما التلقينية أو التعليمية، بل و لسبب آخر وجيه و هو أن الفنان أيا كان هذا الفن علي اتساع مفهومه و تنوعه ليس هو برجل دين أو أخلاق أو سياسي؛ بل هو رجل يهتم بفنه في المقام الأول و لا يستطيع الخروج بفنه من النطاق الفني إلى أي نطاق آخر.

و بذلك يتبين لنا أننا قد أخذنا الاصطلاح الغريب علي السينما المصرية الذي خرج به علينا البعض-إذا جاز لنا ذلك- و لكن لكي نضعه عنوانا لمجموعة من الأفلام المتهافتة و المفتقدة للفنية السينمائية تماما، بينما حاولنا- من قبيل الاجتهاد- تقعيد اصطلاح آخر لموت السينما الجادة في السوق السينمائي المصري- إذا جاز لنا الاصطلاح- ألا و هو السينما التي ماتت.

و من خلال هذين الاصطلاحين اللذين تعارفنا عليهما سوف نحاول قدر الامكان تحليل مجموعة من النماذج الفيلمية التي تدلل على كلا الاتجاهين لتوضيح مدى عمق الأزمة التي تمر بها السينما المصرية


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى