الأحد ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٢١
بقلم حسني التهامي

مكامن الدهشة في الهايكو

مكامن الدهشة في الهايكو:
الشعرُ لغةُ الدهشة، وإذا خلا النصُ الشعري من ومضاتها الخاطفة التي تبعث الحيوية فيه، يصبحُ مجرد كلماتٍ باهتة لا حياةَ فيها، فالدهشةَ ركنُ أساسي ومصدر للإمتاع في أي عملٍ إبداعي خلاّقٍ، وعليه يُمكن إيجاز مكامنها في النقاط التالية:

أ) الصورة الشعرية:
نعني هنا وصول الهايكست إلى مناطقَ تعبيريةٍ وأسلوبيةٍ من خلال التقاطةٍ جديدة ومبتكرة لم يلتفتْ إليها غيرُه من الشعراء، أو بإعادة صياغة صورة تطرّق إليها الأسبقون بطريقة مغايرة ومختلفة تماما. وفي كلتا الحالتين لا يلعب الخيال دورا في تشكيل الصورة الشعرية أو يدخل في تركيبها عنصر البلاغة.

ب) فجوةُ التوترٍ الشعري.
يرى كمال أبو ديب أن مصطلح "الفجوة مسافة التوتر" شرط مهمٌ للتجربة الفنية أو الرؤيا الشعرية، ولا تقتصر فاعليته على الشعر، بل يرى أنه أساسي في التجربة الإنسانية بأكملها. تحدث الفجوة نتيجةَ إقحام مكونات غير متجانسة للوجود أو اللغة، وتطرح في سياق متجانس ومتوائم يعكس فضاء فكريا لدى المبدع ورؤية جديدة للعالم، فهي لا تتشكل من مكونات البناء اللغوي فقط، بل من تصوراتنا للأشياء أيضا، كما لا يتحقق العمل الفني في الوجود دون تفاعل فعلي بين النص والقارئ؛ أي بين القطب الفني لدى المؤلف، والقطب الجمالي عند المتلقي. والسؤال هنا: من سيملأ فجوة التوتر الشعري بالنص؟ بالطبع ستكون مهمة القارئ بالدرجة الأولى؛ لأنه عنصر فاعل في ملء الفجوات، ولا تقترن فاعلية هذه الفجوات بالمتلقي وحده، بل برؤية العالم التي تتكشف بين ثنايا النص، وبالتالي تنتج فجوة التوتر الشعري من المفارقة اللفظية التي يعتمدُها الشاعرُ من خلال المجاوزة اللغوية، أو من مجاورة مشهدين متنافرين بغية تناغمهما وانسجامهما، وهذا يحتاجُ من القارئ أن يتمعن فيما بين السطورِ، ليستكشف ما وراء الكلمات من دلالات ومعانٍ تستفزُ ذهنَه، وتدفعه إلى ملءِ الفراغاتِ التي يتركُها الشاعرُ في النص، ولأن المفارقة تجاور خارجٌ عمّا ألفناه من الألفاظ والأفكار المتناقضة وتقديم اللامتوقع، فإنها قادرة على إحداث الدهشة.
في طريقهِ إلى الحربِ
الجنديُ يفضّ شِجاراً
بينَ طفلين
(مزار الأقحوان ص69)
تأتي المفارقة هنا من حدوث اللامتوقع؛ فالجندي الذي يفض الاشتباك بين طفلين منخرطين في عراك هو نفسه ماض إلى الحرب ولا يعلم مصيره. يعكس صراع الطفلين نزعة الشر التي يولد بها الإنسان وتستمر معه حتى رحيله عن الحياة.

نص آخر تحدث فيه فجوة التوتر الشعري نتيجة تناغم الأفكار غير المتجانسة:
جنازةُ طِفلٍ–
بين المُشيعينَ يَعْسوبٌ
أفلتَ من يديْه
(مزار الأقحوان ص35)
يعتبر أطفال الريف اليعاسيب صيدا ثمينا عندما تقع في أيديهم لتكون مصدرا للتسلية واللعب، فهم يستمتعون بسماع أزيزها داخل أكياس معدة للإيقاع بها، في حين تحدث المفارقة عند تفلّت ذلك اليعسوب هاربا وسط الأجران، ثم يعاود التحليق مرة أخرى في ربوع القرية، ويحدث أن يكون من بين مشيعي جنازة الطفل ذاته الذي حاول الإيقاع به من قبل.

ج) قُفلةُ النص:
يرى نعوم تشومسكي Noam Chomsky أن من يجيد قفلة نصه هم فقط كبار الشعراء، فكلما كانت القفلةُ انسيابيةً غير مفتعلة، أحدثتْ نوعا من الدهشة لدى المتلقي، فهي بمثابة النورِ المفاجئ الذي يوقظُ القارئَ من سُباته، ويفتحُ لهُ أفقا واسعاً من التأويلاتِ المتعددة، ويفجّرُ في النصِ ينابيعَ المخزونِ المعرفي والثقافي، بذلك يتحولُ القارئُ من مجرد متلقٍ عادي إلى قارئٍ فاعل يشتبكُ مع النص، ويفك الكثير من شفراته العميقة.
مستيقظٌ في منتصفِ الليل
على صوتِ جرةِ الماء
تَصدُّعُ الجليد
(باشو)


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى