الثلاثاء ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠١٧
بقلم جورج سلوم

ممرّضة...في قفص الاتهام

اتّصل بي عبر هاتف المشفى..تنهّد وتأوه كأيّ عاشق..قال:

 محتاجٌ إليكِ اليوم..أكثر من أيّ وقت مضى.

 جُرعتكَ القادمة بعد أربعة أيام..أنا بانتظاركَ..اعتنِ بنفسك..

 قد لا يطول بيَ البقاء حتى الجرعة القادمة!

 توكّل على الله..كفاكَ غنجاً ودلالاً.

هو مصاب بسرطان العقد اللمفاوية..ويأتي كل أسبوعين ليأخذ الجرعة الكيماوية..يمسك يدي باحترامٍ مؤثر ويقول:

 دعيني أقبّل اليد التي تمنحني الشفاء.

 أعوذ بالله..يد الله هي التي ستشفيك.

 نعم..نعم..ولكن بواسطتكِ..أنتِ الملاكُ المرسلُ من لدُنه.

أشعر بالسعادة عندما يحتضن يدي بين يديه الباردتين...يقول:

 أصابعكِ البضّة البيضاء..أعشقها..تمنحني الدفء.

أسحبُ يدي بلطف وأبتسمْ..فيضيف:

 وابتسامتكِ تمنحني الأمل.

أعود إلى جدّية العمل..وأقول:

 باقي حوالي ربع ساعة وتنتهي زجاجة المصل..هيا ياصديقي..لديّ مرضى غيرك..
يجيب:

 لا..يجب أن تكوني لي وحدي!

بعد أسبوعين جاء مبكّراً قبل موعده بساعات...مدنفٌ وهزيلٌ محمولٌ على كرسيّ بعجلات وتدفعه سيدة ما..(عرفتُ لاحقاً أنها زوجته)...أسرعتُ نحوهما وقلت موجّهة كلامي للسيدة:

 أتيتم قبل الموعد بكثير...ولامكانَ لكم في غرفة المعالجة الكيماوية حالياً.

أجابت:

 لقد أصرّ على ذلك...عدم المؤاخذة سأتركه في صالة الانتظار وأذهب...عندي بيت وأطفال.
نظر إلي متضرّعاً...قلت:

 نعم..نحن سنتولى أمره.

وفي غرفة المعالجة..وبعد أن بدأ الدواء يتسرّب في عروقه..أخرج من جيبه زجاجة عطر ناقصة قليلا...قال:

 خذيها..أنتِ أولى من غيركِ باستعمالها...

ابتسمتُ وسفحتُ منها مزيداً على يديّ ومسحتُ جبينَه المتعرّق...أغمض عينيه واسترخى وكأنه في حوضٍ من العطر....تركتها بجانبه وقلت ضاحكة:

 أحضرها معك دائماً يا طيّبَ الرائحة.

مهمّتي أن أراقب تسريب الدواء لسبعة مرضى دفعة واحدة في غرفة المعالجة..وأراقب علاماتهم الحيوية أثناء ذلك..لابأس من توزيع الابتسامات وبعض الكلمات اللطيفة للتخفيف عن مرضى السرطان..هم ضيوفٌ في المشفى وضيوفٌ في الحياة..وكلٌّ منهم قد حجز تذكرة للرّحيل من هذه الدنيا..ولكن يبقى موعد انطلاق الرحلة بيد الله.

لكلّ منهم قصة مع المرض ورواية مع المحيطين بهم من بني إنسان..السرطان قاتلٌ صامت..وبعض مرافقي المرضى قتلة بالصوت والصورة..عن معرفة أو عن جهل..

طلبني بواسطة جرس التنبيه المثبّت في سريره...فأسرعتُ إليه...قال:

 لا أشكو من شيئ والحمدلله..فقط كوني بجانبي...كوني لي وحدي..أتمنى أن أسلم الروح بين يديك ِ.

 اتّكلْ على الله ياصديقي..لقد سمعتُ هذا الكلام كثيراً من غيرك..باقي ربع الزجاجة وينتهي الأمر.

أمسكَ يدي بقوة غريبة...فسحبتها بسرعة ونظرتُ حولي وكأنني ارتكبتُ معصيةً...وفعلاً كانت عيون المرضى الآخرين ومرافقيهم مثبتتة عليّ..قالت إحداهن وقد هزّت رأسها:

 ممرّضات..؟..ولا حول ولا قوة إلا بالله.!

وقال آخر:

 أظنّ أنه يدفعُ لها..لا أعرفُ ممرّضة تعيش من التمريض فقط!

وقالت أخرى:

 أنا أتوجّس ُ شرّاً كلما صادفت ُ ممرّضة جميلة.

لن أدافع عن نفسي فالنظرة الدّونية لهذه المهنة لن يغيّرها دفاعٌ او مرافعة في محكمة المرضى..

لكن بعض الدّموع نفرت من عيني..وتابعتُ عملي بصمتٍ ذليل وكأنّ شيئاً لم يكنْ..بين عيون القضاة والمحلفين والجلادين وحتى المرضى المستضعفين...

وعند المساء وأمام مرآتي أرتدي حلّة محامي الدّفاع السوداء..وأشدُّ على وشاح العدل الاحمر...فتبدأ مرافعتي التي أكررها كلما تعرّضت للنقد اللاذع..فأشفي غليلي وأستسلم للنوم بعد أن نلتُ البراءة.

قلت:

(أنا ممرّضة أيها الناس..أنا ركنٌ مهمّ من أركان العمل الطبي...أنا ملاك الرّحمة...

يعشق ابتسامتي طفلٌ رضيع..وشيخٌ مسنّ..وولودٌ داهمها المخاض..

تلبيتي السريعة لنداء المريض ومرافقيه لا تشبه استجابة نادلة المطعم..وعملي الليلي في المشفى بعيد ٌعن عمل بنات الليل..أجوري الزهيدة لا تعني أني رخيصة...)

ثم تحدث جلبةٌ وضوضاء من الحضور..فيتدخل القاضي ويطرق بمطرقته مطالباً الجميع بالهدوء..ثم يشير إليّ بأن أكمل مرافعتي..فأتابع:

 ( هذه المهنة أحبّها..أعشقها.

لم أدرس التمريض لأعمل خادمةً عند الأطباء..أوأكون مرتعاً لشهواتهم وخيالاتهم المريضة..
ولم أصبح ممرّضة لأغدو جارية عند مرافقي المرضى..يطلبونني ويدسّون في جيبي بعض النقود..ثم يتحسسون جسدي استغلالا..فإذا نهرتهم استهجنوا واتهموني بالشرف المزيّف.وإذا سكتُّ تمادوا وتمدمدوا.

ابتسامتي التي تعلو وجهي وأنا أقوم بخدمة المريض..هي من صميم عملي الإنساني..كثيراً ما تخفف ابتسامتي آلام مريضٍ جَرَحَهُ وجه الطبيب العابس والمتجهّم..

هل سمعتم بتعبير اسمه لذة الشفاء.؟!..أنا أتلذّذ وأنتشي عندما يتخرّج مريضٌ من عندنا شافياً..وأتألّم وقد أبكي لتعثّر شفائه أو موته..هذه المشاعر لن تجدوها عند الطبيب الممارس الذي يلعب دور القاضي فيحكم بفتح البطن أوبتر الطرف وكأنه يشرب القهوة..قد تكون موجودة عند الطبيب الحديث ثم تختفي بالتقادم.

هل سمعتم بتعبيرٍ اسمه لذة العطاء؟!..نحن الممرضات نعطي الدواء والرحمة والحب...نحن جنودٌ مجهولون في معركة المرض..فإذا انتصرنا رفع الطبيب راية النصر لوحده... وكللوا جبينه بالغار )

وأضيف:

(أحيانا ً... والله لا ألومكم..لأن أمي نفسها تنظر إليّ نظرة الرّيبة إذا ما تأخّرْتُ في وسائل النقلِ العامّة..ولا تحاسِبْ أختي المعلّمة لو تأخّرت..وتتمنى من الله أن يرسل لي عريساً يتزوجني وينقذني من هذه المهنة!)

في النهاية تُرفع الجلسة ويقول القاضي إن هذه القضية ماتزال قيد المداولة وسيتم تأجيل الحكم بسبب عدم توفر الأدلة..ولذلك ستبقى الممرضة في قفص الإتهام حتى إشعار اخر!.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى