السبت ٢٩ أيار (مايو) ٢٠١٠
بقلم لعروسي لسمر

من الحفل التعذيبي إلى ولادة السجن

من الحفل التعذيبي إلى ولادة السجن
التكنولوجيا السّياسيّة للجسد ومفهوم العقاب عند ميشيل فوكو
يقترن القانون بوسائل القهر من جهة تطبيق قواعده وإلزام الأفراد التقيد بأحكامه. كما يتجلى القهر في البعد العقابي الذي يعدّ ظاهرة متطورة. فقد مر تصوّر العقاب من ردّ الاعتداء المتعلّق بالانتقام الذي كان يفرضه الفرد المعتدى عليه، أو الجماعة، ثم بات شأنا يخصّ العدالة والدولة.

واتصفت العقوبات قديما بالوحشيّة فطالبت الفلسفة العقابية التقليديّة بالتخلّي على العقاب الجسدي، ورفض علنية التعذيب والتشهير بالجاني، والميل إلى إخفاء التعذيب والابتعاد عن العقوبات السالبة للحرية. واتجهت الفلسفة العقابية الحديثة إلى الفصل بين الجريمة والمجرم وتحليل شخصية الجاني، والأخذ بعين الاعتبار الدّوافع المؤدّية إلى ارتكاب الجريمة، وضرورة الدّفاع عن المجتمع من أخطار الجريمة وفق "نظام من التّرابط بين الآليات الجزائية-المساواتيّة". وذلك بفضل سلطة القانون، فـ" القانون هو التعبير عن الإرادة العامة".
وتميّزت نظرة "ميشيل فوكو" إلى العقاب بدمج الظاهرة العقابية ضمن تكنولوجيا السلطة الهادفة إلى استثمار الجسد وإخضاعه واستثماره سلطويا. ويهدف ذلك إلى إنتاج علاقات التفاوت والسيطرة، فالعقاب ليس ظاهرة قانونية منفصلة عن بعدها السياسي، بل هو شكل من أشكال تجلي السلطة. فكانت المعرف بالعقاب تستوجب معرفة آليات السلطة في توظيفه ومأسسته على اعتبار "أن المعرفة متورطة تماما في الصراع الدّنيء لعلاقات الهيمنة". و كان "فوكو" يرمي من خلال تحليل تكنولوجيا الجسد السياسية إلى عزل مستوى واقع نشاط الجسد البيولوجي عن أجهزة السّلطة المؤسّسيّة بالحفر في واقع التعذيب وتأسيس ما يمكن وسمه بـ "أركيولوجيا العقاب" ومن هنا تميّزت رؤيته للتعذيب والسجن والانضباط بالعمق والجرأة.

1- فنّ التعذيب:

يرى "جوكور" أن التعذيب "عقاب جسدي مؤلم، يتفاقم إلى حد الفظاعة". فالعقاب يرتكز على الألم، أو كمية الوجع التي تضاعف من قوّة السلطة، لذلك يقوم التعذيب على التنكيل بالجاني. فهو طقس منظّم يبيّن قوة السلطة التي تتولى أمر العقاب. كما يدرج التّعذيب ضمن آليات الاستثمار السياسي للجسد الذي يمر من مرحلة الجسد باعتباره قوة إنتاج، أو قوة عمل مادي فحسب، إلى الجسد المعذّب والمريض والمجنون طبقا لانتشار الانضباط ضمن كافة المجالات. وهكذا يتحوّل الانضباط إلى تقنية للسيطرة على الجسد الفردي والاجتماعي. وقد استوجب ذلك توفّر علم تشريح سياسي للحفر في المعرفة المحيطة بالعقاب. فكان السجن والعقاب آليتين لمعرفة اشتغال السلطة، إذ السّجن "فضاء بصري مرئي قبل أن يكون صورة حجريّة". وهو أوسع من العقاب، أو هو عقاب شامل يقوم على المراقبة والمعاقبة.

وتهيمن الخلفيّة السّلطوية على تصوّر العقاب لدى فوكو الذي يتجاوز القواعد الحقوقية، فلم ينظر إلى السلطة انطلاقا من "النموذج القانوني الذي يربط بين السلطة والشرعية ويردّّها إلى دور الحكومة المركزية وما ينبثق عنها من تشريعات". ويفرض ذلك تغيّرا في العلاقة بين السلطة والعقلانية السّياسية فضلا عن التغيّرات التي تطرأ على حساسية الجماعة العقابيّة.

فلم يحلّل "فوكو" السلطة بصورة مجردة ولا انطلاقا من معقوليتها، أو ضروراتها الداخلية، إنّما من حيث انعكاساتها على المجتمع، وهي انعكاسات تتّخذ صورة المقاومة التي تتشكل من خلال القوى الفعلية مما ينجرّ عنه تصادم الاستراتيجيات. وتكتسب الذات من خلال عملية المقاومة ضد القهر والقمع معنى الخضوع والتّبعيّة لنظام الضبط. ولا تخلو السّلطة من تقنيات الضبط ووسائل تطويع الأفراد وإضفاء الطابع الشّمولي. ويطرح "فوكو" دلالة ما تعنيه المراقبة والمعاقبة و"يصبح تحليل الطرق العقابية ليس مجرد نتائج لقواعد حقوقية، أو دلالات على بنيات اجتماعية، بل تقنيات لها خصوصياتها ضمن حقل وسائل الحكم الأخرى، أن تستمّد من العقوبات رؤية لبعد التكتيك السياسي". ومن ثم يهتم "فوكو" بالتشريح السياسي للجسد وتوظيفه في العلاقات السّلطوية وبذلك تتيسر ملاحظة التحوّلات الجزائية نتيجة التكنولوجيا السياسية للجسد وقراءة "اللطف العقابي كتقنية من تقنيات السلطة". ويصبح الجسد شاهدا على حقل العلاقات السلطوية عن طريق توظيفه وتعذيبه. فهي تجبره بأفعال وتضطرّه إلى احتفالات وتطالبه بدلالات على اعتبار أنّ السلطة تمارس أكثر مما تمتلك. وهي ليست امتيازا من امتيازات الطبقات المسيطرة، بل استراتيجيات "لا تطبّق ببساطة ونقاوة، وكأنّها التزام، أو نهي على أولئك الذين "لا يملكونها" فهي تستثمرهم، وتمر عبرهم وبهم وتستند إليهم."

2- علنية التعذيب/الحفل التعذيبي:

يتجاوز التعذيب مجرد الجزاء إلى التقنية السلطوية التي من شأنها أن تقوّي وجودها. "فالتعذيب يرتكز على فن بأكمله من كمية الوجع". فهو القدرة على إمساك الحياة في الوجع. ويربط التّعذيب نمط الإصابة الجسدية وكميّة الوجع، وطول الأوجاع مع خطورة الجريمة ومع شخص المجرم. فالعقوبة ليست عشوائية كما لا تكون كتلة واحدة على الجسد، بل محسوبة طبقا لقواعد تتمثل في عدد الجلد وكوي بالحديد ونمط التقطيع. وترسّخ هذه"الشعائر العقابية" الإحساس بالخوف من قوة العاهل في ذاكرة المشاهدين للحفل التعذيبي القائم على سياسة التشهير بالجاني. فأنين المجرم "تحت الضّربات ليس بالأمر الجانبي المخجل، إنه تكريم للعدالة بالذات حيث تتجلى بكل قوّتها".

فالعذاب طقس منظّم من شأنه أن يظهر السلطة بمظهر القوّة، ويحضر جسد المحكوم باعتباره قطعة أساسية في احتفال العقوبة العامة. فعلى المتهم أن يظهر إدانته للعلن والإقرار بالجريمة التي ارتكبها بدءا من تحمّلها بدنيا، ومن هنا يساهم الحقل القانوني في إرساء علاقات الهيمنة لأنّ " النظام القانوني الحقل القضائي يشكلان الأرضيّة الدائمة لعلاقات الهيمنة وتقنيات الإخضاع المتعدد الأشكال. فلا يجب النظر إلى القانون، في اعتقادي، من جانب تثبيت الشرعيّة. ولكن من جانب إجراءات الإخضاع التي يقيمها." وهكذا يتم إنتاج الإخضاع عبر المؤسسة القضائية فيشكّل المشهد التعذيبي تصورا خاصا للعدالة بما أنّ العقاب آليّة لتفعيل حضور السلطة.

ويصبح فعل العدالة بذلك مقروءا للجميع عبر جسم المحكوم المعذّب. ويتحوّل التعذيب إلى لحظة من لحظات الحقيقة. أو كما يقول فوكو:" إن التعذيب الناجح يبرر العدالة بمقدار ما ينشر حقيقة الجريمة في جسم المعذّب بالذات". ويتعلق التعذيب بجانب "الفظاعة" وربّما كان مفهوم"الفظاعة" هو أحد المفاهيم التي تدلّ أكثر من غيرها على فلسفة العقوبة في العرف القديم الجزائي...وهي تستند إلى علنية الفضيحة... العقاب يجب أن يظهر الفظاعة عبر الاحتفالات التي تطبّقه على جسم المجرم بشكل إذلال وإيلام."

ومن شأن التلازم بين بعدي العقاب الجزائي والسّياسي أن يجعلنا نفهم التعذيب كما لو أنّه طقس سياسي. ويعبّر الحفل التعذيبي عن أن الجريمة تطال العاهل شخصيا باعتبار أن القانون يعبّر عن إرادته، لأن قوة القانون هي قوّته. وبدا حقّ العقاب مظهرا من مظاهر الحق الذي يعود للأمير، لأنه يمتلك حق الحياة والموت.
فالقانون لا ينزع إلى الحماية فقط بل يهدف إلى الانتقام من المتطاولين على سلطانه. ويكون الاحتفال التعذيبي مناسبة لإعادة إقرار السيادة بعد جرحها لحظة. فالتعذيب لا يعيد العدالة إلى نصابها بقدرما يقوّي من سلطة الأمير، فيبثّ الرّعب في نفوس الجمهور الذي يتابع الحفل التعذيبي على اعتبار أن العلنيّة تثير العله والرهبة وتذكّر بالجيعة، ومن ثم يتحقّق الرّدع العام. فعدالة الملك هي "عدالة مسلّحة" إذ يتوفّر جهاز عسكري يتولى التعذيب فتترسّخ صورة المجرم على أنّه عدو الملك. ويغدو التنفيذ العقابي تجلّيا من تجلّيات القوة في مواجهة القوة الفردية للمجرم بما هي قوة لامتكافئة. إذ" التفاوت واللاتوازن الصارخ بين القوى يشكلان جزءا من وظائف التعذيب، فالجسم الممحوّ والمفتت إلى غبار والمذرّى في الهواء جسم محطّم قطعة قطعة بلا نهائيّة السلطة العليا يشكّل الحدّ الأقصى ليس فقط المثالي بل الفعلي للعقوبة". وينجرّ عن ذلك التّماهي بين حق فرض العقوبات والحق الشخصي للأمير.

ويمثل ذلك وجها من وجوه الاقتصاد السيّئ للسلطة، فالملك يجسّد "أصل العدالة" عبر حضوره المباشر عند التنفيذ، لأنّ "الجريمة تكون كذلك في حالة تكون فيها جريمة قولا وفعلا." وينشأ العقاب عن إرادة العاهل الشخصيّة"". فكان الملك يمتلك الحق فى الإماتة أو الإبقاء على الحياة. إذ يقول فوكو:" كان من المشروع لديه أن "يتخلى عن حياتهم" بهذا المعنى فهو يمارس عليهم حقا"غير مباشر" للموت والحياة" ويساهم التشهير بالمجرم في إثارة " فظاعة المجرم وعدم قابليته للإصلاح وحماية المجتمع منه".
وهكذا يتجذّر التّعذيب ضمن الممارسة القضائية ويتحوّل إلى عامل من عوامل السلطة. وهو تقنية لإعادة إنتاج الجريمة وردّها إلى جسم المجرم المرئي. ويخول السلطة من تنفيذ الحق السيادي العام. وهو مناسبة للتأكيد على التفاوت اللانهائي بين قوى العدالة وقوة المجرم.
فالسلطة تشتغل ضمن استراتيجيات تتنازع فيها القوى مهما كان التفاوت واضحا بينها. وتهدف علنية التعذيب إلى جعل المجرم يعلن إدانته بنفسه والتّشريع للتعذيب باعتباره لحظة من لحظات الحقيقة وربط التعذيب بالجريمة ذاتها بعرض المجرمين في أماكن حدوث الجريمة، مما يضفي طابعا "إرهابيا" على احتفال العقوبة. ويتحول التعذيب إلى تقنية تقوّي السلطة وتجذّر الإكراه في نفوس المحكومين، مما يجعل سؤال العدالة محل مراجعة.

3- اللّطف العقابي:

يهدف تلطيف العقوبات إلى البحث عن "الإنسان" في شخصيّة المجرم قصد إصلاحه. فقد نادت الفلسفة العقابية بضرورة تلطيف العقوبات. وخاصة مع " بيكّاريا"و"سرفان (Servan, Beccaria) "فكانت المناداة بالابتعاد ما أمكن عن التعسّف وحماية قيم المجتمع وحقوق أفراده واستخراج الجرم من العقوبة والتخلص من العقاب البدني وتعويضه بالعقوبات المالية مثل المغارم والمصادرات ودمج عامل الزمن ضمن مدّة العقوبة، ومنع العقاب العلني العام، وظاهرة القصاص الجماعي وإخفاء عمليات التعذيب بإتباع "العقوبة السّريّة" وضمان استقلالية القضاء بما يضمن عدم التعرّض لحقوق الأفراد دون سند قانوني. ويستلزم ذلك ضرورة انتهاج مبدأ تفريد العقوبات الذي يقرر الجزاء المناسب لمرتكب الجريمة، ومراعاة الأسباب المؤدية إليها والفصل بين أنواع الجانحين طبقا لخطورتهم ودرجة تأصّل الجنوح في شخصيّتهم.

ونشأت تصوّرات بديلة للعقاب لتجنّب ارتكاب الجريمة فأحصى "فوكو" بعض القواعد، أهمّها: "قاعدة الفكروية الكافية" التي تربط بين المكسب المتصوّر من الجريمة والضرر الحاصل منها ومن هنا يغيب الجسد عن مناط العقوبة. ثم "قاعدة المفاعيل الجانبية" فتقوم العقوبة بمهمّة ردع الذين لم يرتكبوا الجريمة. أما "قاعدة اليقين التام" فتقرن فكرة الجريمة والفوائد منها بفكرة عقوبة محددة، والتلازم بين سلوك الاعتداء والعقوبة. ولمّا كان الصراع بين القوى ظاهرة تاريخية متغيرة وفق المشروطيّات المجتمعية والاقتصادية والسياسيّة، فإنّ واقع التعذيب عرف تغييرات إثر ظهور فلسفة عقابية جديدة نادت بأنسنة العقوبات وتفريدها، فضلا عن المسؤولية الجزائية وضرورة الفصل بين شخصيّة المجرم والجريمة المرتكبة والتماس ظروف التخفيف. فقد أثّر ظهور الخطابات الطبّية والنفسية والقانونيّة التي تلازم الظاهرة العقابية وانمحاء العرض العقابي في ظاهرة العقاب فأخذ الاحتفال العقابي يدخل في الظلّ وذلك في أواخر القرن الثامن عشر وفي مطلع القرن التاسع عشر. إذ يقول فوكو:"هكذا انمحى في مطلع القرن التاسع عشر المشهد الكبير للعقاب الجسدي وأخفي الجسد المعذّب، واستبعد من القصاص عرض مشهد الألم، وتمّ الدخول في فترة الرزانة العقابية". وانزاح حقّ العقاب مع التشريعات الجديدة من دلالة انتقام الملك إلى الدّفاع عن المجتمع باعتماد "النظرية العامة للعقد". فيصبح الإخلال بالعقد ضربا من ضروب الاعتداء على المجتمع بأسره، ويتحوّل حق العقاب من التعبير عن سلطة الحاكم إلى أداة بيد المجتمع للدفاع عن نفسه.

ولم يكن إلغاء التّعذيب بسبب الشفقة بالمجرمين، بل تحوّلت آليّة عرض الآلام الجسدية، في شكل مشاهد علنية، إلى إخفاء للتعذيب فى السجون، ومن ثم تحويل عقوبة الاعتراف العلني ومشهد التعذيب إلى نوع من التقصّي. وكان الفصل بين الحكم والتنفيذ فأصبح التّنفيذ عملية مستقلة لا تتعلق بالجانب المهيب للعدالة، وارتبط الجزاء بالحرمان من الحقوق لقول فوكو: "أما التسلّط على الجسد فهو أيضا لم ينحل بصورة كاملة في منتصف القرن التاسع عشر. لاشك أن العقاب قد توقف عن أن يكون مركزا على التعذيب كتقنية للألم واتخذ له غرضا رئيسيا هو فقد ملكيّة أو خسران حق".

ونزعت التدابير القانونية إلى التخلي عن فكرة الجريمة "الموضوعيّة" لصالح الربط بين الجريمة وشخصيّة المجرم والظروف الحافة به وبواعث الإجرام لديه، فضلا عن التدابير الاحترازية ومحاولات إصلاح المجرمين وتيسير إعادة إدماجهم في المجتمع من جديد. فيكون الحكم الصادر في حقّهم مصحوبا بتصوّر حول تقويم الذنب. "إذ أن الجزاء لم يعد عقابا في جوهره، وإنما نوع من العلاج والرد إلى التسوية." ومن شأن هذه النّقلة أن تضفي جانبا إنسانيا على العقاب من خلال "أنسنة العقاب". فلم يعد الجسد مركز العقوبات المؤلمة ضمن "طقوس التعذيب" بفضل المعرفة التي نسجت حول "الإنسان الإجرامي"
ووضع فوكو عدة رهانات في تحليله للعقاب منها تجاوز دراسة الظاهرة العقابية من الناحية "القمعيّة" وحدها ووضعها ضمن المفاعيل الايجابية، واتخاذ العقاب على أساس أنه وظيفة اجتماعية. وتحليل الطرق العقابية لا على أساس أنها نتائج لإجراءات حقوقية بل باعتبارها تقنيات ذات خصوصيات تتعلق بالتكتيك السياسي. والبحث عن أرضيّة مشتركة بين العلوم الإنسانية والحق الجزائي، وآليات توظيف الجسم بالذات من قبل العلاقات السلطوية، وتحليل اللّطف العقابي باعتباره تقنية من تقنيات السلطة التي توظّفه في "الاقتصاد السياسي" للجسد. و"هذا التوظيف (الاستثمار) السياسي للجسد مرتبط، وفقا لعلاقات معقدة متبادلة باستخدامه اقتصاديا، وإلى حد بعيد كقوة إنتاج." وبدأ العقاب ينحصر تدريجيا ضمن عقاب السجن فأصبح الاحتجاز الشكل الأساسي للعقاب، فالسجن هو المكان المناسب للعقوبات بعد زوال التعذيب.

4- ولادة السجن:

السجن "مكان مغلق يتّجه إلى تجريد الشخص من حريته الخاصّة بفعل قرار العدالة". فهو "مؤسّسة كاملة وصارمة" ونظام عقابي حديث النشأة. وقد"تشكّل خارج الجهاز القضائي" ويعدّ لحظة مهمّة في تاريخ العدالة الجزائيّة مجسّدا وصولها إلى "الإنسانيّة". واستند تصوّره على أساس أنه عقوبة مثلى، فمثّلت ولادة السجن "عقوبة المجتمعات المتحضّرة". كما تعلّق وجوده بثلاثة ثوابت. تمثل الثابت الأول في أنه عقوبة "مساواتية" استندت إلى جهاز قضائيّ "مستقل" تمكّن بسهولة من الاستحواذ على بقية العقوبات ليكوّن"السّجن-العقوبة" العقوبة الأوفى خصوصا في المجتمع الحديث، إذ تعدّ قيمة الحرّية من القيم المؤسسة لجوهر حداثته، وهي قيمة مشاعة بين الجميع مما يؤدي إلى المساواة في خسران هذه الفائدة. وهي عقوبة تقاس بحسب متغيّر الوقت فالسجن بالنسبة للمجتمعات الصناعيّة يجسّد "بداهة" اقتصاديّة "تقيّم بالنقود العقوبات بالأيّام والأشهر والسنوات، وتقيّم معادلات كميّة بين الجرم والمدّة".

أمّا المعطى الثاني فيتمثل في كون السّجن جهازا للضبط والإكراه، ومن ثم إلزام الأفراد باتباع نظام دقيق يغيّر سلوكهم ويقوّي قيمة الندم والشعور بالواجب في ذواتهم. فهو نظام يختصر كل الأوليّات الموجودة في الجسم الاجتماعي بما هو" ثكنة صارمة قليلا(...) ولكنّه في نهاية الأمر لا يختلف عنها بشيء من الناحية النوعيّة" مما يحوّله إلى مؤسسة انضباطيّة شاملة. كما يمارس سلطة شبه كاملة على الموقوفين، مما يزوّده بقدرة فعّالة ثؤثّر على سلوك الأفراد المنحرفين عبر ممارسة الانضباط الاستبدادي. فلئن كان القانون نوعا من الدلالات النصيّة المكتوبة فإن السجن فضاء بصري تتناسب فيه هندسة البناء مع " هندسة القمع" وتشريح الأجساد وتصنيفها. "فكل أوليات السلطة التي ما تزال حتى أيامنا تدور حول اللاّسوي ( اللاطبيعي) من أجل تعيينه كما من أجل تغييره".

ويخضع السّجن حياة السّجين إلى نظام صارم من النشاطات اليومية، منذ القيام ثم مقدار الأكل ونوعه والعمل والراحة، وفي النهار والليل والعزلة والاجتماع مع الآخرين، فضلا عن اللّباس والتربية التي يتلقاها السجناء ونظام الدروس والمواعظ تبعا لتوالي الأيام والسنين.
أما الثابت الثالث فيتعلّق بقيمة الشعور بالندم لأنّ المحكوم معزول عن العالم الخارجي. ويقوّي فيه عزله عن بقية الموقوفين سمة التفكير. فهذا الإجراء يهدف إلى وضعه أمام جريمته، مما يزيد من ندمه. وكلّما ازداد ندمه حدّة اشتدّ شعوره بالألم، فالعزلة تؤمّن نوعا من التنظيم الذاتي للعقوبة. وبذلك لا تكون إعادة تأهيل المجرم مطلوبة من منطلق تطبيق القانون بل بعلاقة الفرد بضميره بالذّات."إذ ليس الاحترام الخارجي للقانون، أو الخوف وحده من القانون هو الذي سوف يؤثر في المعتقد، بل بالضبط عمل الضمير".
ومن شأن هذه الأبعاد المتلازمة أن تنهض بوظيفة المراقبة المستمرة للسجناء. فإذا كان السّجن يجسّد مكان تنفيذ العقوبة، فإنّه في نفس الوقت مكان معاقبة المعاقبين. "فيجب تصور السّجون كمكان لتشكّل معرفة عياديّة حول المحكومين".

ويقترن السجن بالعذاب الجسدي وبالنظام التأديبي، والواقع أن "السّجن في ترتيباته الأكثر صراحة ووضوحا قد أعدّت دائما نوعا من تدبير ألم جسدي. ويدلّ الانتقاد الموجه غالبا إلى النظام التأديبي...أن المحكوم يتألم جسديا."
ويرى فوكو أن "السّجن في ترتيباته الأكثر صراحة ووضوحا قد أعدّ دائما نوعا من تدبير ألم جسدي. ويدلّ الانتقاء الموجه غالبا إلى النظام التأديبي ...أن المحكوم يتألم جسديّا". ونلاحظ شروعا فى نوع من العقاب اللاجسدي، أو معاقبة ما هو غير جسدي، فقد تراجع أنصار البذخ العقابي الذي يتناول الجسد والدّم.

5- فشل مؤسّسة السّجن وإعادة إنتاج الجنوح:

إذا كان الاعتقال يمثّل حرمانا من الحرّية، فإنّ الانتقال من التعذيب الاحتفالي إلى العقوبات المخفيّةلا يمثّل إلا ضربا من ضروب الانتقال من فن عقابي إلى فن آخر لا يقل تقنية عن الأوّل. بل هو آليّة لإعادة بعث التراث التعذيبي، ويشكل ذلك فشلا ذريعا للعدالة الجزائيّة الحديثة. فالسجون لم تخفّض معدّل الجرائم بدليل أن عددها في تزايد مستمر. ويثير الاعتقال ظاهرة التعوّد على الجريمة ويزكي قيمة العود، فالمحكومون هم في العادة مسجونون قدامى، فضلا عن تحوّل السّجن إلى فضاء لإنتاج الجانحين. ويزيد عزلهم من عدم التفكير بالإنسان في المجتمع. كما يجعل الإحساس بالظلم لدى السجناء من شخصيّة السجين مستعصية. فيتّهم العدالة بالذات، ويتحوّل السجن إلى اتّحاد سجناء يتقاسمون العديد من الهموم. فلئن نادت السجون بالإصلاح والتهذيب والعلاج فإنّها لا تزال تمثل معقلا لمرتكبي الجرائم بهدف تحقيق هدف أو أكثر من الأهداف المتمثلة في جدوى العقاب، وهي الردع العام والخاص، وإبعاد الجاني عن المجتمع تفاديا لمخاطره مستقبلا، أو من أجل الانتقام والتشفي وخاصة بفعل الحبس الانفرادي الذي يضرّ بشخصية السجين. وهذا ما يحمل السجناء إلى العود للجريمة، فلم تهيّأ لهم ظروفا تتلاءم مع نية إصلاحهم عند إطلاق سراحهم. كما أنّهم يظلون تحت الرقابة البوليسيّة، أو الإقامة الجبرية، أو ممنوعون من ممارسة بعض نشاطاتهم، فضلا عن تفقيره مما يحدث ضررا بوضعه الاجتماعي.

فلئن مرّ العقاب من ظاهرة عزل الجاني وحجزه باعتبار الحجز إجراءا رادعا إلى مؤسسة السجن التي "تحولت بشكل تدريجي إلى مؤسسات اجتمعت فيها الأغراض العقابية مع الأغراض الإصلاحية" فإنّه ظل مساهما في توسيع دائرة الجنوح، وما يرافقه من عسر الاندماج في المجتمع. ومن هنا تمّت المناداة بمؤسسات مفتوحة والمؤسسات شبه المفتوحة التي تقلّ فيها درجة الحراسة، ومن ثم إمكانية تجسير الفجوة بين السجناء- النزلاء والمجتمع والحدّ من العقوبات السالبة للحرّية.

6- نشأة السّلطة الانضباطيّة:

هي نمط جديد من السّلطة يقوّي مبدأ تنمية فعل الإخضاع وفعالية من يخضع لها فى آن. وتتعارض مع السلطة القائمة على الوجود الفيزيائي للعاهل، لأنّها سلطة غير سياديّة، أو هي سلطة انضباطيّة، " سلطة لا يمكن تسويغها، ولا وصفها بعبارات نظريّة السيادة لأنّها مختلفة جذريا". فإذا كانت القواعد القانونية تمثل جانب" الماكروسياسي" فإنّ الانضباط يجسّد البعد "الميكروسياسي" وهو جانب مخفي ولامرئي. فقد نظر فوكو إلى السلطة نظرة جزئيّة "مجهريّة" وتتجلى في المؤسّسات والبرامج، لأنّ "الانضباط" نمط من أنماط السلطة، ونموذج من نماذج ممارستها يشمل مجملا كاملا من الأدوات والتقنيات والوسائل... إنه "فيزياء" أو "تشريح" للسلطة، إنّه تكنولوجيا". والانضباط فعل تقوم به مؤسّسات متخصصة ( الإصلاحيات والسجون...) وإما مؤسسات تستخدمه من أجل غايات محددة ( المدارس والمستشفيات...).

ومن شأن مؤسسة السجن أن تزكّي الإكراهات الانضباطية التي لا تستند إلى القانون بقدرما تستند إلى التطبيع عبر الخضوع إلى المعيار والقواعد. وتمارس هذه السلطة وظيفتها من إجراءات الضبط وتقسيم الأفراد في المكان: المجرم في المعزل، والجندي في الثكنة، والحجر للمشردين... فلكل فرد مكانه الاجتماعي إلى جانب المواقع الوظيفية المتعلقة بالترقيات الوظيفية. ثم الرّقابة على النشاط وفق جدول زمني يقسم أوقات العمل وأوقات الراحة باتّباع " نوع من التراتب ونوع من الانضباط، ونوع من التقعيد التي تطبّق داخل الجسد". ويتركّز دورها على ضبط الأجساد لأنّ" الموضوع المركزي للانضباط هو الجسد، جسد المريض وجسد التلميذ وجسد المجرم. الجسد هو التكيّف والتدريب والتّطويع والاستجابة والتكاثر". وتعطي هذه السلطة بعدا جديدا للجسد هو الجسد- الآلة. وتحمل الانضباطات عدّة فنون للتحكم في الجسد وتشريحه سلطويا. و"لم تنشأ هذه السلطة فجأة"، بل نتيجة تراكمات. ومن شأن هذه السلطة أن تضعنا في مدار الرعب، لأنّ " رهاب الدولة يتحرّك حاليا في أشكال مختلفة كلّيا من فكرنا". و في دائرة عنف الدولة، أو ماعبّر عنه فوكو بـ"رهاب الدولة" ومن هنا حاول فوكو البرهنة على " وجود داخل النظام العقابي نظام يهيمن على مجتمعنا ويتجلى في الثكنة والمستشفى والمدرسة."

وهكذا تتحول الدولة إلى قوة تستحوذ على حياة الفرد بكل تفاصيلها. فلم "يعد "الإنسان الفرد" حرا في عيشه وتصرّفاته، وفي آرائه واعتقاداته، لم يعد سيّد نفسه...بل انغمس العمل السلطوي السياسي والاقتصادي بمختلف أشكاله ومذاهبه في أعماقه ليقوده". ويتميز حضور السّلطة في حياة الأفراد بالعنف باعتباره صفة ملازمة لنمط تكوينها. وبهذا يصبح عملها عملا تشريحيا، فهي تقسّم المجتمع تقسيما ينسجم مع غاياتها في الإخضاع والسيطرة. ومن هنا ينظر فوكو إلى السلطة على أساس كونها "ممارسة قبل أن تكون جهازا أو مؤسسات". ولا تكتفي بالضغط على الأفراد بل تحوّلهم إلى وسيلة لخدمة أهدافها. وتتماشى هذه السلطة مع ما يسميه فوكو بـ" السلطة الحيويّة" التي هي سلطة "تدير حياة الناس وتمتلك قوّة الموت والحياة. وتعمل على محورين أساسيين: محور الجسد الآلة...ومحور الجنس البشري القائم على التكاثر" ويمثل الجانب القانوني جزءا من تاريخ السلطة على اعتبار التواصل بين مهمة المؤرخ والعدالة. إذ يقول " بول ريكور": "لا يعدو العقل عن الدور التماثلي بين المؤرخ والقاضي انطلاقا من اهتمامهما بالحقيقة والعدالة."

الخاتمـة:

يتدرّج مفهوم العقاب عند ميشيل فوكو من المرئي إلى اللامرئي ومن العلني إلى المخفي. وتتجه ممارسة العنف السلطوي من الفيزيائي إلى "الميكروفيزيائي" وتتميز السلطة بالتحول من سلطة تستند إلى المشروعيّة والتبرير إلى سلطة انضباطية غير تسويغيّة، أو هي سلطة انضباطية مما يشرّع للقول بالسلطة بالجمع لدى فوكو، وهي سلطة تعمل بشكل مجهري عبر الأنشطة الاجتماعية والمؤسسات غير القمعيّة. فالسلطة العقابية شائكة في جوهرها وتتميّز بالاختفاء ضمن المؤسّسات والتشريعات. ولم يكن الميل إلى تلطيف العقاب يهدف إلى اللطف بقدر ما كان استجابة لمتطلبات الانضباط، وتلوّن السيطرة والإخضاع بدمج الجسد ضمن لعبتي الإنتاج والاستثمار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى