الأحد ٥ شباط (فبراير) ٢٠٠٦
نعيمة الصيد :
بقلم احميدة الصولي

من المسرح والأدب، إلى الفنون التشكيلية

مهما اختلفت أنواع الإبداع فإن مصدرها واحد، هو الإحساس، والمبدعون مهما كانت ثقافتهم مختلفة، فإنهم شهود على ما يجري في عصرهم. واختلاف وسائل التعبير قد لا يعيق عملية المعالجة ولا يخرج بها عن سياقها الفكري والاجتماعي، إلاّ أن عنصرا هاما في معادلة البث والتلقي لا بد من إيلائه ما يستحق من الاهتمام، ألا وهو المتلقي. إن هذا الأخير يتوفر على ثقافة تتفاوت من نوع إلى آخر من الإبداع، وتجربته مع أي من تلك الأنواع ليست بالضرورة في مستوى النوع الآخر، لذلك يكاد كل نوع من الأنواع الإبداعية يختص بجمهور محدد إلا ما ندر. فقد نجد قلة قليلة (في البث والتقبل) تتوفر على إمكانات موسوعية تمكنها من النهل من أكثر من نبع.

أقامت الرسامة الأديبة التونسية نعيمة الصيد، بدار الثقافة المغاربية ابن خلدون بتونس العاصمة، معرضها الثاني تحت عنوان : "نداء" وهو نداء للإنسانية للرفق بالبراءة المجسدة هنا في الأطفال. هذا المعرض انطلق يوم الثاني من جانفي 2006 الموافق للثاني ذو الحجة 1426 ويحتوي على 31 عملا تنوعت فيها المواد والأساليب والمعالجات المتصلة بمحورها المذكور. وهي تقول بأن الأطفال هم زهرات الحياة، وصناع القرار في المستقبل، فلا يصح أن يبقوا رهن الاستغلال وهدفا لكثير من الأخطار مثل أخطار حوادث الطريق والتشغيل غير القانوني والمجاعة وما إلى ذلك مما يؤثر سلبا في حياتهم. ونشير إلى أن الخامات الأساسية لهذا المعرض هي المنسوج الصوفي والحرير، أضيفت إليها مواد أخرى في عملية تركيب تستهدف من توظيفها تبليغ رسالتها تلك. ومن هذه المواد نذكر خاصة البلاستيك الذي توسلت به لتجسيد رموز البراءة / الأطفال، محاولة وضعها في أطر تشير إلى الشرور والمآسي التي تتعرض لها الطفولة في هذا العالم، برغم القوانين والمعاهدات التي وضعت لحمايتها وإسعادها.

ولئن كان هدف المعرض المركزي هو التحسيس بما تتعرض له البراءة من الأخطار، ونتائجه تهدى إلى جمعية مقاومة السرطان، فإن الجانب التعبيري – عبر الألوان – كان عميقا، فاللطخات والتمريرات التشويهية والخطوط وتشكيل الدوائر ومختلف الأشكال الهندسية والتزويق تبدو في قلب السياق من موضوع المعرض، لكنها تشي ببعض الحنين إلى التعبير الحسي الخاص بالمبدعة، بما تتوفر عليه من جوانب حسية ووجدانية. فقد كانت سيطرتها واضحة على توزيع عناصر اللوحة، بمساعدة المواد التي تحدد اتشار أو تسربات الألوان على أرضيها المكونة من خيوط الحرير خاصة. وجاءت الأشكال متناغمة حينا ومتقاطعة حينا آخر مع التلطيخ والتشويهات التعبيرية، ليصبح المشهد مزيجا من الجمال من جهة والإيحاء بأن هناك أعماقا مضطربة من جهة أخرى. ولا يخفى على المتفحص المجرب ما يضج في اللطخات والخطوط من إيقاعات وأصوات وتصادم للدفق الحسي. وبرغم أن التمريرات كانت محدودة وتبحث عن انسجام مستحيل بينها، لكنها كانت تفرز عناصر تثير الأحاسيس، والنبض معها يتسارع خاصة والتلوين الأحمر والأسود كانا شديديْ التعارض، كل ذلك يتم على خلفية يتداول عليها اللونان الأبيض والأصفر المتدرج.
والرسامة نعيمة الصيد من مواليد مدينة القيروان تخرجت في مركز الفنون الدرامية بشهادة الأستاذية، مارست التمثيل وهي طالبة وبعد التخرج، درَّست في المعاهد الثانوية لمدة سنتين بعد تخرجها، ثم انتدبت للعمل بوزارة الثقافة، للعمل بإدارة اتحاد الكتاب وبإدارة مجلة الفكر، ثم التحقت سنة 1986 بوزارة التربية، لتعود إلى التدريس. وكانت منذ التعليم الابتدائي تصور وتكتب، أصدرت ثلاثة عناوين في الإبداع والقصة، وشغفت بالرسم فالتحقت سنة 1997 بالمركز الثقافي الإيطالي لتلقي دروس فيه. أقامت معرضين الأول سنة 1999 استخدمت فيه خامات متعددة (الخزف والرسم على البلور والمنسوج والرسم على الحرير وغيرها). أما معرضها الثاني فهو الذي نحن بصدد قراءة محتوياته.

ومن كل ذلك ندرك أننا برفقة مثقفة تقلبت بين أنماط من التعبير تحكمها وسائل مختلفة، المشهد المعبر بالحركة والكلمة والتجسيد، ثم بالكلمة المبدعة وها هي تعبر بواسطة الألوان ومختلف المواد، تلك التي تحقق لها التواصل مع الجمهور الذي يكتشف في نتاج معاناتها فسحا تعبيرية وجمالية مبدعة. ولا يعدم زائر المعرض لحظات للتأمل والتحاور مع عديد المشاهد التي استطاعت فيها أن تحمل العروسة (البلاستيك) مهمة القول والإيحاء، داخل التفاعلات اللونية. وتدخل الرسامة في حوار مع بعض الزوار حول الوظائف الموكلة للعروسة والمشاهد الضاجة بواسطة الألوان والمواد الأخرى.

ويمكن إجمالا أن يرصد المتلقي ثلاثة أنماط تعبيرية في هذا المعرض :
1-الرسم على الحرير، وقد استطاعت – برغم صعوبة ثبات الدهون على الحرير – أن تتحكم في أشكالها وأن ترسم بواسطتها حالات يكون توظيف المواد المختلفة فيها ذا دلالات تؤكد عمق الفكرة وطرافة التأليف بين المواد المختلفة. ولكن المجال المخصص للرسم هو الطاغي والمؤكد عمق المحور الذي اختارته الرسامة لمعالجته.

2-المنسوج، وفيه أظهرت إمكانيات لا يستهان بها وقدرات في توظيف الضوء والظلال، وكذلك التحكم في التدرج اللوني الذي تستخدمه من خلال تلوين السدى. ويبرز ذلك أيضا من خلال الحبيبات الملونة وتحولات البقع الضوئية، فإذا المشاهد أمام سنفونية تتداول وتتوافق فيها لغة التعبير اللوني والتشكيل الهندسي والإيهام الكُتَلي وكذلك الأشكال والحالات المضمرة وتلك التي تهم بالظهور.

3-الزخرفة، فبرغم ارتباطها العضور بالرسم والألوان، لكنها تتخذ بعدا جماليا ينسجم مع الذائقة المتوازنة من خلال تنسيق الوحدات الزخرفية والعناصر التراثية وتكرارها وفق منظور توافقي، لتحدث نظاما منسجما مع ذاته ومكوناته.

ومن كل ذلك عملت الرسامة على تحويل المساحات اللونية وما وظف فيها من مواد أخرى، إلى صيغ تعبيرية تتفاعل فيها الأضواء والظلال والأشكال والخطوط والمفردات الزخرفية وغيرها، للحصول على فضاء ضاج بأكثر من أداة تعبير وأكثر من صيغة تركيبية وأكثر من إضمار بما تحيل عليه جميع السياقات من دلالات تعبيرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى