مواجع الغربة والوطن المستباح عند يحيى السماوي
حمل الشاعر العراقي "يحيى السماوي" جرح وطنه الى المنافي، وسخّر قلمه لتحرير بلاده من الحكم الاستبدادي. وبقي معارضا ً صادقا ً يطمح أن يتم تحرير وطنه بيد أبنائه فيشرق على العراق فجر الحرية التي اغتصبها مستبد يحكم وفق نزواته وأهوائه. فغادر وطنه ـ لكن ّ الوطن لم يغادره.
لم يشأ الشاعر الإستعانة بقوى أجنبية لتحقيق أمنيته في تحرير وطنه ـ شأن أولئك الذين مدّوا أيديهم للغريب، يختصرون الطريق، ولا يدركون ما وراء الأكمة، فلم يعد مع العائدين على متن دبابة، وآثرأن يفتح سفرا ً جديدا ً للإغتراب، وقذف به القدر الى "استراليا" فاستقرّ فيها وهو يدرك بثاقب نظره، أنّ اليد التي تسلم مقادير الوطن للغرباء، سترتكب جريمة تبديل طغيان ٍ بطغيان أشدّ وأقسى، وستفيض بسببها أنهار من الدم والتدمير، قد يغدو معها استبداد القريب أهون على النفس من تحكم المجتاحين، فهؤلاء أتاحوا للأعداء فرصة تفريغ كل أحقادهم على بلد كان شوكة في عيونهم، وقلعة منيعة تقض ّ مضاجعهم، نتيجة ما توافرت فيه من امكانات وثروات طبيعية وطاقات علمية بشرية " وإن كان النظام لم يحسن استثمارها الإستثمار الصحيح، فسخّرها لحروبه الداخلية والخارجية "
لقد ازدادت أحزان الشاعر ومواجعه وهو يشهد جسامة المأساة ويتابع فصولها بآهات اليائس المحبط. وأسفرت هذه الرحلة الطويلة عن خمسة عشر ديوانا ً أفرغ فيها الشاعر يحيى السماوي شحنات آلامه وحنينه الى الوطن.
لم يسبق لشاعر عربي معاصر أن نذر شعره بهذا الفيض والتماهي بصورة الوطن والإتحاد به في نَفَس ٍ شعريّ مشبوب ٍ يتأرجح بين الأمل واليأس... ففي المجموعة الجديدة للسماوي " قليلك لا كثيرهنّ " تعبير عن موقفه الوطني الصادق، فهو يؤثر الكفاف والجوع في وطنه المستباح، على ما يحلم به في الغترب من آمال خادعة أو ما يطمع به المعارض غير الحقيقي من مال ٍ مشبوه وجاه ٍ زائف... فبدا التحرير أكذوبة ً تقوم على الظلم والتعذيب وسرقة ثروات الشعب... وبهذا الصدد يقول:
أكذوبة ٌ تحريرنا يا صاحبيوالشاهدان: القتل والتعذيب ُلكنّ بعض رؤوسنا يا صاحبيجُبِلت على فسَدٍ فليس تتوب ُبتنا لفأس الطائفية محطبا ًفلكل حقل ٍ "سادن ٌ" و"نقيب ُ"علل العراق كثيرة ٌ وأضرّهاأنّ الجهاد َ" الذبح ُ" و "التسليب ُ"أكذوبة ٌ حريّة الإنسان فيوطن ٍ يسوسُ به الجموعَ "غريب ُ"
ويناجي في قصيدة " ستسافرين غدا " وطنه، مناجاة المحب لمحبوبته فيرجوها أن تضع حدّا ً لاغترابه، فيقول:
لا زال َ في البستان ِ متسع ٌ لنارك ِفاحطبي شجريعسى جمري يذيب ُ جليدَ ظنك ِ وارتيابك ْإني ليُغنيني قليلك ِ عن كثير ِ الأخريات ِفلا تلومي ظامئا ً هجر النمير َوجاء يستجديك ِ كأسا ً من سرابك ْفإذا سقطت ُ مضرّجا ً بلظى اشتياقيكفّنيني حين تأتلق النجوم ُبثوب عرس ٍ من ثيابك ْ
ويتحول الحنين الفاجع الى العودة الظافرة للوطن، إلى لون من الرومانسية والحلم الذي يصطدم بصخرة الواقع، فتغدو صورة الوطن، يوتوبيا لا يعانقها الشاعر إلآ في أحلامه:
يحدثُ أنْ يُجلِسني خياليعرْش َ المنىيجلسُ عن يميني َ الأطفالُ والطيور ُ...والملوك ُ عن شمالي!وكلما صَفَقت ُ كفييقف ُ الماردُ ما بين يديملبّيا ً سؤالي...يحدث أن أفيق من خياليعلى صياح ديك ِ جوعيوصدى سُعالي...يحدث في خياليأن ْ أستحي مني لأني قد أضعت ُ العمر َفي برّية الخيال ِ..!
ويأخذ هذا الحنين أبعاده المضنية، فيتجسّد حلما ً يراه الشاعر وقد غفا على رمال الشط في مغتربه، فيرى عصفورين مذبوحين تحت شرفة خضراء كالعشب ونخلة فارعة تنثر للأطفال تمرا ً ناضجا ً وفيئا ً... وحين يسقط من سرير حلمه، تنكسر قارورة امتلأت بورود عشقه للوطن الحبيب:
سقطت من فوق سرير الحلم فانكسرت ُقارورة ًخبّأ ورد العشق ِ فيها دمعه...حاولت أن أصرخ َلكن ْجفّ في حنجرتي النبض ُفلملمت ُ بقايا جسدي...وقمت ُوقبل أن أخضّب َ الجيد بحنّاء دميأفقت ُ...ألا تفسّرين ما رأيت ُ؟
لم يسبق لشاعر أن جسّد حنينه ومواجع غربته، وفتق أدق أسرار عذاباته في المنفى، مثلما جسدها السماوي، وغاص في أعماق روحه المعذبة متصيّدا ً أدق مشاعره الإنسانية وقد ألبسها حلة ً من خياله المتألق حتى نشعر أن الشاعر لا يجترّ ذاته... فكل قصيدة من المجموعة فيها من براعة التناول وكمال الفن، ما يخفي تماثل المعاني في أكثر القصائد التي تدور في فلك ٍ واحد ٍ لا تتعداه، وكأن الشاعر يقرأ تضاريس قلبه من كتاب مرقوم يستمد جماله الشعري من نبع إلهام ٍ لا ينضب، وقدرة فائقة على تصميم معمارية القصيدة بأفق تجديدي فيه من الطرافة والصدق ما يقنع القارئ بأنه امام شاعر متمكن يعرف كيف يؤلف بين المعاني والمشاعر في معزوفات سمفونية مكتملة من الناحية الفنية، حتى في مقدمة المجموعة، إذ أهدى اليها شعرا للطفل والأب والينابيع وعصا الضرير وللصباح يغسل الوحل في ظلام وطنه وللرعاة والرياحين وللحبيبة التي تتزين بتبر عفافها، بل وحتى للمستبد وقد ألقى سياطه في النار وللمارق الذي تطهر من إثمه، ولعالم تسوده المحبة والسلام "ص 14"
وفي قصيدة "تضاريس قلب" يرى الشاعر أن غربته كانت قدرا له، لكنها على ما فيها من ألم وعذاب، قدر لابد منه ليتطهر بنارها، ويقدر قيمة فراق الوطن، ويمارس عذاب المحبين الكبار كقيس بن الملوح وتوبة الحميري ليكون جديرا ً بحب ٍ نقي ّ لوطنه تعمّد بالألم والحرمان:
لثرى الأحبة ِ لا الثريّايممت ُ قلبي...واستعنت ُ بأصغريّاجسرا ً يمدّ الى ضفافك ناظريّا...لي أن ْ أحبك ِ كي أصدّق أنني ما زلت ُ حيّا...لي أن أقيم بآخر الدنياليصهل َ في دمي فرَس ُ اشتياقيأن ْ يجف ّ الماءُ بين يديفأطرق بابَ نبعك ِ غائم َ العينين ِأسْتجديك ِ رِيّا...لي أن أعيد الإعتبار الى الجنونكأنْ أعيش عذاب َ "قيس بن الملوّح ِ"و"القتيل الحميري"ِوأن أجوب َ مفازة َ الأحلام ِ معمودا ً شقيّا...لأطلّ من جرحي عليك مضرّجا ً بالوجدكهلا ً راعف َ العكاز ِمنطفئ المحيّا...حتى إذا جسّتْ يداك يديأعودُ فتى ً بهيّا
ومن الملاحظ في شعر السماوي، قدرته على الكتابة الشعرية في نسقيها القديم والحديث، وقد مكنته هذه المرونة الشعرية من تنويع قصائده باقتدار، والمواءمة بين مقتضيات كل ٍ من هذين الأسلوبين دون تردٍ أو هبوط شعري. ففي قصيدة "في آخر العمر" يحلق في آفاق من اكتشاف ذاته الشعرية التي جمعت المتناقضات وبلغت أفق التجليات:
في آخر العمر اكتشفت أنني غرير ُ...وأنني يمكنني المسير وسط النار ِدون أن يطال بردتي السعير ُ...في آخر العمر اكتشفت أنني الزاهد ُوالمسرف ُوالصعلوك والأمير ُ...وأنني الحكيم والمجنون ُواكتشفت ُ أنّ زورقيأكبر من أنْ تستطيع حمله البحور ُوأنني يمكن أنْ تطير َ بي ْ وسادتيإلى فضاءٍ خارج َ الفضاء ِأنْ يحملني السرير ُنحو حقول ٍ طينها الياقوت ُ والمرجانُ والحرير ُوأنني نهر ٌ خرافيٌّإذا مرّ على القفار ِقامتْ واحة ٌ وأعْشبتْ صخور ُ...وأنني عصفور ُفضاؤه قصيدة ٌ مطلعها عيناكِواكتشفت ُ أنني بلا حبك ِ يا حبيبتي فقير ُفي آخر العمر اكتشفت ُأنّ كلّ وردة ٍحديقة ٌ كاملة ٌوكلّ كوخ ٍ وطن ٌوتحت كلّ ِ صخرة ٍ غدير ُوالناس َ ـ كلّ الناس ِ ـ ما دمت ِ معيعشيرُ
لعلّ الشاعر في هذا النسق الشعري كما يبدو، أقدر على التحليق والوفاء بحاجات الخيال الشعري من قصائده الموزونة. فقد جسّد واقع وطنه بعد الإحتلال في قصيدة "النفق" فيستهلها اختصار الوطن بخيمة المنفى، وقدّم أوراق اعتماده في منفاه للحدائق والفراشات، وقد خدّره أمل التحرير، لكن، خاب أمله حين رأى "شمشون الجديد" يبيع في حانوت شهوته ومطامعه الشخصية حبيبته "دليلة" ورأى سادة القبيلة يتناطحون على بيع ثياب أبيه وأرغفة أطفال الوطن، فقدّم استقالة ريشته للبحر فاستنكر الطوفان ذلك، وللأرق، فاحتجّ الأرق:
حين اختصرت بخيمة ٍ وطنا ًوغصنا ً بالخميلة ْقدّمت أوراق اعتمادي للمنافيناطقا ً باسم الحدائق والفراشات ِاقترحت ُ على ظنوني أن تؤجّل خوفهافحضرت تتويج القرنفل في بلاط الورد ِقدّمت ُ التهاني للحمامة باسم نخلتنا القتيلة ْونسجت من هدبي مناديل اللقاءوحين عدت ُرأيت " شمشون الجديد "يبيع في حانوت شهوته " دليلة ْ "ورأيت أسياد القبيلة ْيتناطحون على ثياب أبي وأرغفة الطفولة ْفحزمت ما أبقت لي الأيام من عفش الكهولة ْوإذن ْ؟سأبقى ضاربا ً في الغربتين ِأفرّ من نفق ٍ لأدخل في نفق ْما دام أنّ صباح دجلة َ يستغيثولا ألق ْ
ويبلغ حنين الشاعر حدّ معاتبة الوطن الذي لم يستجب لآماله الضائعة، فماطل في وفائه له متجاهلا ً حقوقه لينال بعض الراحة بعد العناء والتشرد:
من حقّ وردكأنْ يسدّ أمام نحل فميشبابيك الرحيق ِ...من حقّ نهرك أنْ يمرّ بغير بستانيوحقك ِ أنْ تصدّي عن حرير الخصر ِشوك َ يديوعن ياقوت جيدك ِ طين َ عاطفتيوعن فمِكِ الوريق ِجمري... ولكن ْما حقوقي؟
الشعر لدى يحيى السماوي لعبة فنية جميلة، يعبّر فيها عن حالته النفسية الراهنة، لكن وراء تقلبات المشاعر آفاقٌ من العمق وأغوارٌ دفينة في أعماق النفس، تحوّل المحن الى انتصارات داخلية يأتلف فيها الحزن والفرح في حالة من السمو النفسي الذي يتعالى على الثنائيات المتضادة، وينزع الى المطلق:
وقبل أن أنام في كوخي على وسادة ٍ حجارة ْدوّنت ُ في دفتر عمري هذه العبارة ْ:كل ّ امرئ ٍيمكنه أن يعقد َ الألفة َ بين الماء والنار ِوأنْ يصنعَ من ديجوره نهارهْ
وفي "قصائد خدّج " يقدم الشاعر مقطوعات قصيرة وكأنها مشروع قصيدة لم تكتمل. فقد ولدت فبل أن تكمل شهورها كأيّ جنين خديج... إنها أشبه بالقصة القصيرة جدا ً، يلتقط الشاعر خلالها لحظة من تأملاته الهاربة عبر الزمن، فتغني في كلماتها عن المطولات:
الوطن ُ استراح منيوأنا استرحت ُ...لأنني منذ تمرّدت ُ عليهمُتّ ُ
في مقطوعة أخرى عنوانها " مثلث السلطة " يقول:
السوط ُ والدولارْضلعان ِ في مثلث السلطة ِأمّا ثالث الأضلاع ِفالأئمة ُ التجّارْ
ومن هذه المقطوعات التي يختمها بفراغ منقط لسطرين يترك للقارئ قراءتهما من
انطباعاته يقول:
ما الذي يحرسه الناطور ُوالدارُ خراب ْ؟جرحنا يمتدّ من شرفة "أيلول"إلى سرداب "آب ْ"
قصائد الشاعر يحيى السماوي تدفعنا للقول: إذا كان للظلم أنْ يُمَجّدَ، وللألم أنْ يُبارك، فالمجد للظلم والإستبداد اللذين دفعا الشاعر الى المنافي وفجّرا شاعريته، فأغنى الشعر العربي إضافة ً جديدة ً جديرة ً بالتقدير، ولا شك ان فجر الحرية قادم، وان الشاعر الشريد سيمسح عن جبينه الجراح، وسيبقى شعره شاهدا ً على عظمة الفن في تبديل وجه الحياة والدفاع عن الحق والحرية.
عبد اللطيف الأرناؤوط ـ دمشق َ
* "قليلك لا كثيرهن" 128 صفحة ط2 ـ منشورات دار التكوين دمشق ـ