موليير والنثر !!
حين تطالعنا قصيدة نثر، او اي موضوع يتعلق بالنثر فاننا حتما سنتذكر كتاب،"قصيدة النثر من بودلير الى ايامنا " ـ والذي كتبته" سوزان بيرنار " ونشره دار المأمون في العام 1993 بترجمة الدكتور زهير مجيد مغامس.
اما انا فعلى العكس من هذا، فكلما طالعت موضوعاً عن النثر وقصيدته الذائعة الصيت لا اتذكر الا حكاية للكاتب المسرحي الساخر" موليير " وهي حكاية جديرة بالاهتمام فعلاً. وملخص هذه الحكاية ان احد التجار بعد ان حقق رغبته في جمع الاموال الطائلة، اكتشف انه لا يملك اي مستوى تعليمي ولهذا قرر العودة الى مقاعد الدراسة لدى احد المدرسين الخصوصيين. وكانت الدروس الاولى كالعادة تتعلق باللغة، حيث وضح المدرس لصديقنا التاجر بان الكلام نوعان فهو اما ان يكون شعراً او نثراً. وسأل التاجر مدرسه بعفوية صادقة: وما هو نوع كلامي الذي اتكلم به عادة؟ فرد المدرس: ان كلامك الاعتيادي يعد نثراً. ولم يصدق التاجر ما سمعه فصاح فرحاً: يا للهول.. انا اتكلم النثر طوال عمري ولا اعلم ذلك. وخرج التاجر من غرفة مدرسه ليبشر كل من يصادفه في الطريق وكذلك زوجته وبقية اهله واقاربه وحتى زبائنه بان كلامه الاعتيادي هو من النثر.
والحقيقة المرة التي يجب ان نؤشرها هنا، ان معلومات وتصورات الكثيرين من كتاب قصيدة النثر الجدد لا تتعدى معلومات تاجر" موليير " التي اكتشفها متأخراً. فما زال الكثيرون يعدون هذا الجنس الادبي طريقا سهلا سالكاً للكتابة يمكنهم من خلاله الحصول على بطاقات عضوية في الوسط الثقافي.
وان غزارة كتابات هؤلاء هي ما دفعت العاملين في الاقسام الثقافية للصحف والمجلات للحصول على خزانات اضافية لخزن مثل هذه الكتابات والسيطرة على تدفقها الجنوني المنفلت عن الكثير من القيم والمعايير. وهو السبب الذي ادى الى اختفاء الاعمدة الوجدانية البسيطة التي كانت تنشر في الصحف والمجلات تحت عنوان"خواطر " فكل كتاب الخواطر القدامى والجدد وجدوا لهم ملاذاً امناً تحت عنوان قصيدة النثر. وهذا ما زاد الطين بلة كما يقال حيث القى بظلال قاتمة على التاريخ المضيء لهذه القصيدة وعلى شعرائها المبدعين من العرب والعراقيين والاجانب.
ويبدو ان الكتاب الجدد لقصيدة النثر يتصورون ان بامكانهم الولوج الى هذا النوع من الكتابة دون المرور بتجربة الشعر القديم من شعر جاهلي واسلامي واموي وعباسي وحديث. وملاحقة هذه التجربة الثرية عبر عصورها التاريخية والتمعن في نواحيها العروضية والبلاغية والفنية. وقراءة الكثير من النقد ووجهات النظر حول هذا الموضوع.
والاطلاع كذلك على تجربة الشعر الحر ورواده الاوائل والمتأخرين والاضافات الفنية والموسيقية لتجربة الشعر بشكل عام. فحتماً ان هناك شروطاً ومؤشرات وافاقاً وتصورات يجب الالمام بها قبل الدخول الى عوالم قصيدة النثر. فقصيدة النثر هي فلسفة اولاً، ولا بد لهذه الفلسفة ان تستند الى مرجعيات واسس اصيلة في علوم وفنون شتى، تبدأ في ميدان اللغة ولا تتوقف عند ميدان معين. وهي خلاصة مفعمة بالتجديد المستمر من خلال التأمل خارج نطاق النمط الاعتيادي للغة استعاراتها الساذجة. وهي اعادة تفسير وتأويل لصور الحياة" انتاجها بصيغ وابعاد جمالية وبلاغية عالية، وهي سماوات عصية على التحليق لمن لا يملك اجنحة معرفية واسعة. وهي بعد هذا وذاك محاولة جادة لصياغة رؤية ذاتية للوجود وفق مستجدات الحاضر وصورة من صور الاحتجاج الانساني في وجه همجية الالة الحضارية الشرسة .